قصائد رشدي العامل.. كلمات تولد في معبد الجمال..رشدي العامل.. المقيم في فردوس الجمال

Wednesday 21st of October 2020 06:20:54 PM ,
4795 (عراقيون)
عراقيون ,

د.جمال العتابي

نستطيع أن نتبين الدوافع والأسباب التي جعلت من شعراء الخمسينات والستينات يختلفون فيما بينهم في رؤاهم الخاصة للعالم، وفي مواجهتهم للواقع، إذا نظرنا للأطر الثقافية التي تنتمي إليها كل مجموعة فيهم، وان كانت هذه الأطر لا تتسم بالجمود، وتحتمل التغيير أو التعديل، فهي تبدو متشابكة فيما بينها بوشائج وروابط متينة، على الرغم من أوجه الاختلاف القائمة بينها.

ونستطيع القول، انه ليس هناك ما يمنع من أن يكون الشاعر جامعا بين هذه الأطر مجتمعة، وهي: إطار الثقافة العربية الخالصة، والآخر الثقافة الأجنبية، والثالث إطار الثقافة الماركسية، وأخيرا الإطار المتأثر بالثقافة الوجودية.

ينتمي رشدي العامل إلى جانب البياتي، وبدر شاكر السياب، وكاظم جواد، وبحر العلوم، وآخرين إلى التيار الثالث، والغاية من هذا التقديم، رغم ما يصاحبها من فصل تعسفي بين التيارات الثقافية الإنسانية. لكنها محاولة أولى للوصول إلى معرفة البدايات الأولى التي شكلت وعي جيل من الشعراء والمثقفين، وربما تبدو مقبولة في مقاييس عصرها.. فاندرج تحت مسمياتها العديد من المثقفين، في عالم مضطرب عاش مرحلة التحولات ما بعد الحرب الكونية الثانية . مع يقيننا إن الشعر لا يقنع أبدا بحركة عقارب السنوات، وبات من المسلّم به، أن عمل الشاعر يكتسب أهميته من درجته الفنية أولاُ، ومن صدق التجربة وعمقها وحرارتها ثانياُ، إنها حقيقة الشاعر، ومن دوره المجدد في حركة الشعر ثالثا.

فالشاعر رشدي العامل، وان انتمى لتيار اليسار. فان تجربته تلك كانت حافلة بالمذاق الحار . في ذروة مجد هذا التيار أواسط الخمسينات والستينات. وظل شعره يعبر عن تلك المرحلة بأصدق النماذج تمثيلا لاتجاه الأدب الواقعي، وطرح العديد من القضايا، وأثار الكثير من التفاصيل الفنية. وعالج بعمق مشكلات حياتية واجتماعية وسياسية وفكرية. وخالف العديد من شعراء تلك المرحلة الذين اخفقوا في التوفيق بين الجانب الفني من جهة، والحياتي واليومي من جهة أخرى، وزعموا الكتابة تحت يافطة ( الواقعية الاشتراكية ) فأساؤا إلى التيار بتجارب غير ناضجة.

لنتأمل نظرة العامل للشعر منذ عام 1961

الشعر طريق مجهد

يبكي، ويجوع يغازل ربّته في معبد

الشعر الأسود

عبد يكسر قيدا .. طفل يتمرد

تظل قصيدة رشدي العامل مفتوحة على آفاق متعددة بلا خطابة، ولا رومانسية نواح تتذرع بحساسية زائفة، وحنان وجداني مكرور، بل صور شاسعة الأفق، ذات إيحاء داخلي تتجدد بصور مدهشة، وتنمو مع كل مقطع جديد من قصيدة العامل.

أنت لا يأخذك الحزن

على ما مات من أشجار ماضيك

ولا يفرحك القادم من عمرك

أنت اليوم حر

بين كفيك غصون الآسى

في عينيك أمطار

وفي صدرك سر

أنت لا ترتقب ما يأتي

ولا تبكي على ما مر

إن الدمع مر

وللبحث عند الشاعر ورموزه الحسية مدى بعيد، يمر عبر أغصان الذكرى، وجدران النور، من بلاد إلى بلاد :

قمر يشحب في عينيك، والنجم تغور

ملء عينيك، وفي جبهتك الشقراء بيدر

آه، ماذا ابعث الليلة

قد نمت طويلا

الحب يكافح من اجل بقائه، عبر أبيات القصيدة، سائرا على الخيط الدقيق الممدود بين النور والظلام بين الحياة والموت، عمق المشاعر، صدق التجربة المرفوعة بثقافات إنسانية.

أتدرين إن الضحية قلبي،

وجلادي الحب؟

من كان جلاده الحب لا يستحيل

إلى دمية، فعيون القتيل

زهرة، نبع زيت يغازل ضوء الفتيل.

إن رموز العامل في صوره الشعرية، هي مصائر الإنسان في تطلعاته العليا، تأتي عبر أبنية شعرية داخلية الإيقاع، منّداة بطراوة الصور، رغم مأساوية الموضوع الفاجعة، لكن اغراس الورد في تلافيف من اجل ربيع الإنسان الجديد، تتوهج في ثنايا غناء العامل المتعددة الأصوات والشــاعر يوحي بذلك إيحاءً رائعـا في قصيدة ( العيون والموت عام 1959 )

وكان الموت، لن يطفأ في عينيك، ومضة

لن ترى أهدابك السود، عيونه

عبثا مخلبه يمتد

أو ترنو عيونه

لحقول الذهب الأصفر

في وجهك يا بيدر فضة

لقد ارتقى العامل في مجموعاته الشعرية العديدة إلى ذرى من قيم التعبير عن قضايا الإنسان، والعالم المعاصر، النفسية، والوجدانية، والنضالية، بلغته الشعرية التي أبدعها بذاته من عناصر جمالية، وفنية :

يا مبحراً في ضباب القصيدة

نأيت وتبقى القرابة بينك والبحر

محض افتراء

فلا أنت ترنو ،

ولا البحر يأتي إليك.

الشاعر رشدي العامل، اختار الشعر ليكون مظهرا من مظاهر حياته، أو هو كيانه ووجوده، وان تعددت له اختصاصات أخر، تفوق فيها وأجاد، لما يمتلكه من أدوات ومهارات ووعي . فهو الصحفي اللامع الذي شغل مهمة إدارة الشؤون السياسية العالمية والعربية طيلة فترة عمله في جريدة (طريق الشعب) التي صدرت عام 1973، حتى آخر أيام صدورها في مطلع عام 1979، وظل يواصل العمل بإصرار يستحق الإعجاب والتقدير، وفي ظروف غاية الصعوبة. تمثلت بمحاصرة مبنى الجريدة، والتضييق على العاملين فيها من قبل أجهزة السلطة الأمنية القمعية، وملاحقتهم، واعتقال العديد من كوادر الجريدة بغية إيقاف صدورها . بعد أن انهارت العلاقات (الجبهوية).

وتتلمذ على يديه مجموعة لامعة من المحررين الشباب، من أبناء ذاك الجيل، وتعلموا من خبراته الصحفية والمهنية، ونهلوا من تجاربه في الكتابة والتحليل، مما أهل أولئك أن يتبوأ مكانة مهمة في الصحافة، والوسط الثقافي، واخذوا فيما بعد دورهم الطليعي في قيادة مؤسسات صحفية وثقافية وفكرية في الخارج، بعد أن اشتد ذراع السلطة القمعية . فاختاروا النفي والغربة.

والشاعر رشدي العامل، درس الأدب، قانوني لم يكمل دراسته في كلية الحقوق، درس في جامعات دمشق، والقاهرة، وبغداد، وتفرغ للكتابة والأدب والشعر، لم ينساق لهوى الوظيفة، وقيودها الجائرة، التي تقتل الإبداع، وفضلّ أن يكون حراً طليقاً على الدوام وحيداً:

وحيداً مع الليل، والذاكرة

غريبا أجوس الدروب

وأنأى عن الشفة الماكرة

وارحل بين الخطى العابرة

**

هل تحلم بالجزر المنسية

يا رجلا عافته الأشرعة البيضاء

وغادره المركب والبحار

اكتسب رشدي بمعرفته القانونية، الموضوعية في الأحكام والحصافة في الرأي، والتاني في اتخاذ القرارات، والعدالة في المواقف والصداقات، والحزم والجرأة في مواجهة المصاعب، وبسبب هذه الامتيازات في شخصية رشدي، تعرض لصنوف العذابات، من سجن واضطهاد وخسارات . لما تحمل كلماته من طاقة في الصدق والإخلاص والصراحة والمقاومة، فكانت كلماته تولد في معبد الجمال، وتنبعث مضيئة دافئة . تمنح الأمل للملايين.

اعرف إن الإنسان

لا يعرف إلا ما تمنحه العينان

اعرف إن الدرب طويل، والصبر قصير

والجسر النسيان

شاعرية رشدي، شاعرية ضخمة، ذات مذاق إنساني خصب بنسيج فني خصب، قصائده حارة متفجرة، وحيوية هائلة، ليس فيها ذرة من الغفلة، أو رائحة للفتور، انه ينتفض ويمتلئ بالرغبة في الحياة والتحرر من المأساة، غنائية أصيلة، تنبع من إيمانه بقضيته التي تحميه من السقوط في فخ الخطابية والضوضاء الشعرية الجوفاء، والشعارات الديماغوجية.

أيهما يتجذر في الأرض ،

ضفائر شعرك، أم كلماتي ؟

أيهما يرقص أبهى ،

عيناك ووجهك، أم قلبي الأخضر ؟

إن اغلب قصائد رشدي، تجمع بين التجربة الشخصية والقضية العامة معا. برؤية إنسانية خاصة، فهو يرى الناس والأشياء بطريقة تختلط فيها كل العناصر، الحب، والوطن والحرية، والطبيعة، كلها معان تمتزج امتزاجا كاملا .

يرى وطنه من خلال عاطفة الحب الشفافة ويرى الأرض، من خلال الأم، الحدود بين الأشياء لم تعد موجودة :

يا وطني، عدت وحيدا

يحملني حبك ،

يملؤني صوتك

أشكو من جرحي المسكين .

كن لي بيتا، قافية

قلبي الجرح، وأنت المبضع والسكين.

شعر العامل، لا يصور عالما معتما، بل هو عالم مشرق رغم اختلاط عناصره ورؤاه، فتبدو قصائده نوعا من (الحلم) بوقائع وحواس، إن صح التعبير، ليصبح الإنسان طليقاً بلا حدود، انه حلم يقوم على فيض المشاعر الحية العظيمة التي تملأ يقظة الإنسان، وهو حلم رشدي وحده، وهو قصيدته في ذات الوقت:

تحلم بالبحار

تحلم لو يأخذك القيثار

للجزر القصية

والمدن المنسية

تحلم بالقصائد، والبحر يرنو منك

والأرصفة المخفية

لكن عينيك تشدان خيوط أهدابك للوسائد.