اعداد / عراقيون
الاستاذة صبيحة الشيخ داود، من رائدات النهضة النسوية في عراقنا الحديث وقد اسهمت بالكثير من الجهود في سبيل توال المرأة العراقية لما هي جديرة به من الحياة الكريمة الحرة. ولقد سبق ان اودعت في كتابها الفذ (اول الطريق) الكثير من الذكريات الطريفة عن جهاد المراة العراقية ولقد طلبت (الايام) من الحقوقية الاولى اتحافها ببعض ما لم ينشر من فصول كتابه السالف الذكر، فاتحفتنا بهذه الكلمة المعبرة ننشرها شاكرين. واليك نص المقال :
من نافلة القول معرفة التطور المدهش لدى رأته الحركة النسائية في العراق خلال الاثنين والاربعين عاما المنصرمة عن التيارات الزاخرة التي كانت تجري في ميادين القدم لاخرى في البلاد، لكن النهضة النسوية تميزت عن غيرها بصدورها من معين استعداد العراقية) ذاتها للانتقال من طور الى ىخر بروح من الوعي والادراك التامين ومن ثم فقد كان من اميز خطوط النهضة النسوية، قابليتها للتكيف والتدرج.
.. وما كانت الحركة النسائية في العراق بهاتين الظاهرتين: الاستعداد والتدرج الحركات المماثلة التي قامت في بلدان قريبة من الشرق الاوسط، وابعد في نتاجها وبالتالي فلم يقف امام خطاها المتئدة شيء من الانتكاسات او الرجوعية التي اصابت تلك الحركات بعد سنوات قليلة من بروزها..
في حزيران الماضي كنت اتابع لساعات طويلة، وقائع الاحتفال بالمتخرجين في جامعة بغداد وقد هز اعطاف نفسي افواج من فتياتنا يتقدمن بازيائهن الجامعية مع زملائهن من الطلبة في خطوات قوية، تتألق في افاقهن لمحات الامل وتلمع على وجوههن اشراقة المستقبل الزاهر وتخطر على مباسمهن ضحكة الغد السعيد وطلعة النور الجديد. في خلال الساعات الثلاث التي ساق التلفزيون العراقي فيها هذا المشهد في اطار من الروعة الخالبة، وازجاه في الوان من البراعه الساحرة استطاع ان يحرك في كل نفس صورة جميلة من صور الاهتزاز والاكبار لاسيمى الاهداف التي كانت المراة العراقية تنشدها منذ ان بزع فجر النهضة اعلى هذا الوادي السعيد.
ولم استطع – ان اغالب دموعي ولا انكاري وسط هذا التيار الدافق الذي كانت توحيه صورة الجامعيات العراقيات في ذلك الموكب الباهر. لم استطع ان اسقط من حسابي مبلغ الجهد والنضال الذي قدمته المراة العراقية وهي تضع قدمها في (اول الطريق) لتكتب خطوط المعركة التي خاضتها وتتحمل في سبيل ذلك من العنت ما يهد الجبال.
واعود ثانية فأوكد بان اندفاع النهضة النسوية الذي نشهد اثاره اليوم في كل مان كان نابعا من (استعداد) العراقية للعلم ولقبول مفاهيم التطور الصحيحة التي عززت خطواتها وقادتها الى شاطئ الامان.
ويخطر ببالي مصداقا لهذا الاستعداد الذي اشرت اليه انه ما كاد يعلن عن فتح صفوف لمكافحة الامية قبل اكثر من 35 سنة حتى كانت والدة السيد نجيب الربيعي رئيس مجلس السيادة وخالته في مقدمة اللواتي انخرطن في هذه الصفوف، ولم تقف ظروفهن المنزلية ومسؤوليتهن كأمهات دون الاقبال على التعليم وكان وجود هاتين السيدتين الفاضلتين المثل الرائع على قابلية العراقية وتهيئها لقبول كل جديد في حدود الرسالة التي تؤمن بها وهي رسالة اجتماعية وثقافية وانسانية في وقت واحد.
ومما تعيه الذاكرة من ايام تلك الحقبة ما يتصل بالمدرسة المركزية للبنات وهو بعد قطعا من الاحداث البارزة في تاريخ التعليم النسوي باعتبارها اولى المدارس التي انشئت في بداية الحكم الاهلي. وبغض النظر عن الظروف القاسية التي احاطت بالمدرسة وبتعليم العدد المحدود من الطالبات اللواتي كانت تضمهن فلا مناص من ان اذكر الان بان العادة المتبعة ولسنوات عديدة بعد انشاء المدرسة المذكورة كانت تقضي بان ترافق التلميذة والدتها او شقيقتها او احدى قريباتها كل يوم قبل ابتداء الدروس وبعد انتهائها.
وكان اولياء الطالبة يصرون على ان (يسلموا) بناتهم الى الادارة او المدرسة المراقبة يدا بيد ولم يكن يجوز مطلقا بحكم ذلك النظام الذي استنه اولياء الطالبات ان تغادر الطالبة بناية المدرسة الا بعد ان تتأكد الادارة من وصول والدتها او شقيقتها او المسؤولين عنها.
كانت الصلة بين المدرسة وبين ذوي الطالبات قوية الى ابعد الحدود. وكانت اية تغييرات او اصلاحات يقتضيها وضع المدرسة وتطويرها العلمي تثير غضب الكثيرين من اسر الطالبات حتى انها ادت في احيان كثيرة الى جر اولئك نحو اتخاذ قرارات حاسمة قطعت نهائيا كل صلة بين فتياتهم وبين المدرسة واضطرتهن فعلا الى الانصراف نهائيا عن طلب العلم. ويخطر في بالي ايضا الثورة العاصفة التي ملأت قلوب اولياء الطالبات في تلك الحقبة التي كان تعليم الاناث يقطع خطواته الاولى. كانت وزارة المعارف قد كلفت احد الاطباء ترافقه ممرضة بزيارة المدرسة للقيام بالفحوص الطبية والتأكد من سلامة الطالبات من التراخوما ولم يفتقر ذلك المشهد العجيب الى شيء من الطرافة المتصنعة. كان كل شيء طبيعيا. الطالبات يرتدين حجابا كاملا شبيها بالحجاب الذي ترتديه المراة اليمانية اليوم ولا يظهر من وجوههن غير نسخة صغيرة تطل منها عيونهن القلقة.. والطبيب وقف مكتوفا لم تتحرك في وجهة عضلة واحدة بينما كانت حبات العرق تتجمع بغزارة على جبينه.
وسمع اولياء الطالبات بزيارة الطبيب للمدرسة فبادروا فورا الى ارسال الاحتجاجات الصارخة حتى اضطر الطبيب في الاخير الى التخلي عن معالجة الطالبات وتكليف الممرضة التي كانت تساعده القيام بهذه المهمة وحدها.
ومما تعيه الذاكرة ايضا ان اولياء الطالبات ثاروا مرة اخرى عندما قررت المدرسة ادخال بعض الالعاب الرياضية ومنها كرة السلة وبعض الالعاب التي تتلاءم وطبيعة المرأة.
وجوبهت ادارة المدرسة باحتجاجات لا تقل في القسوة والعنوف عن سابقتها وقد حسب اولياء الطالبات يومذاك ان الرياضة البدنية ملهاة من شانها تعليم فتياتهم الرقص والخروج على اسباب الحشمة.
واحنت ادارة المدرسة راسها لهذه العاصفة فاتخذت قرارا باعتبارها ممارسة الرياضة البدنية اختيارية وليست وجوبية .. ومن ثم كانت النتيجة ان عشر طالبات فقط قد وافقن على الدخول في الفرق الرياضية اذكر من بينهن كريمات شقيقة السيد نوري فتاح وبديعة الفلاحي وناهدة الشابندر..
ج . الايام/ تموز 1962