الخطاط والباحث يوسف ذنون مسيرة حافلة بالإبداع والعطاء

Wednesday 11th of November 2020 06:13:36 PM ,
4809 (عراقيون)
عراقيون ,

د . عامر الجميلي

ترددت كثيرا وأنا أحاول الكتابة عن مبدع عراقي موصلي كبير ذاع صيته في البلاد العربية والإسلامية، بل والعالم، كعلم من أعلام الفن الإسلامي والبحث التاريخي، ولكن سبق السيف العذل، فلقد ألزمت نفسي بالكتابة عن المبدعين حال حياتهم، فمن غير الإنصاف تكريم المبدع وإلقاء الخطب الرنانة عن شخصه وإبداعه بعد أن يكون قد فارقنا إلى عالم البرزخ.

إذن فلا حل سوى الكتابة، ولكن ما أفعل للقلم الذي يرتجف وهو يخط على الورق كلمات في سيرة الباحث الكبير والخطاط الرائد والأستاذ المربي يوسف ذنون عبد الله الموصلي. كيف لي ولقلمي السيطرة على الموقف حال جلوسي إليه، وأنا ما فتحت أمامه باباً للحوار إلا وتنقل بي بين دهاليز ودهاليز من الذاكرة إلى التاريخ والتأصيل التاريخي لمدينة الموصل؛ حتى التعديل لبعض الآراء في تراث وتاريخ المدينة، إلى العلم والفن الإسلامي الذي عشقه وأفنى في سبيله الوقت والجهد على مر عشرات السنين. كيف لا والموصل بكل ما فيها ومَن فيها يشهدان بفضله؛ فالجوامع التي زينها بخطه العالي الدقة والرفيع المستوى، والطلبة الذين تتلمذوا على يديه ليكونوا قادة لحركة الفن الإسلامي في العراق بعد اندثار هذا الفن أو كاد يندثر. الأستاذ يوسف ذنون : التقيته في داره بالموصل منتصف رمضان الماضي، حيث كان في زيارة لمدينته الحبيبة إليه والتي أعطاها من وقته وجهده كل ما استطاع إليه سبيلاً. فكان لي معه هذا الحوار؛ في السيرة الذاتية، والذاكرة، والفن.

جزء من الحوار

من هو يوسف ذنون؟ أنا من مواليد مدينة الموصل سنة 1931 ولدت في منطقة باب الجديد، درست القرآن الكريم في(الملا) أي الكُتاب، ومن بعد ذلك دخلت المدرسة الابتدائية في مدرسة ابن الأثير للأحداث واستمر ذلك لغاية الصف الثالث الابتدائي، وبعدها نقلت إلى مدرسة باب البيض للبنين، ثم انتقلت للمتوسطة الغربية وبعدها الإعدادية المركزية، وتخرجت منها سنة 1950، لأدخل بعدها دار المعلمين في (ذات السنة الواحدة من بعد الإعدادية)، وتخرجت منها سنة 1951 وعينت معلما في قرية (المحلبية) التابعة لقضاء الموصل. الحوار_ اشتهر يوسف ذنون في مجال الخط العربي، منذ متى ظهر هذا الاهتمام؟. الاهتمام بالخط العربي بدأ عندي منذ الطفولة، فقد كنت استطيع رسم الخطوط المختلفة حينما كنت في الصف الرابع الابتدائي وذلك من خلال تأثير الخطوط الموجودة في الكتب المدرسية، فكانت أغلب الخطوط مكتوبة بقلم الخطاط العراقي المعروف (صبري الهلال) وبعدها بخط الخطاط المشهور (هاشم البغدادي). وقد كنت معروفاً آنذاك بين أقراني في الرسم بشكل عام، وكانت الموصل آنذاك فقيرة بالخطاطين، والمعروف من الخطاطين على الصعيد الإعلامي آنذاك هو (نوري سعيد) ولم يكن يتقن سوى خط الرقعة إلى حد ما، ومعه خطاط آخر وهو الخطاط (فوزي) الذي كان متمكنا من التلاعب بالألوان ورسم الأزهار. وكانت هناك في المدارس حركة تهتم بالخط العربي ولكنها كانت محدودة وعلى نطاق الهواية لدى الطلاب حيث كان البعض منهم يجيد رسم الخطوط البسيطة، وكنت أحدهم، ولكن بطريقتي الخاصة وهي رسم الحروف بقلمين ثم تلوينها. الحوار_ ولكن بهذه البداية المتواضعة، كيف تمكن يوسف ذنون من تطوير مواهبه ليكون نارا على علم في فن الخط العربي؟. -كانت تلك هي الفترة الأولى في التعلم والتي اعتمدت فيها على وسيلة التثقيف الذاتي في كل الأنماط، فنمت لدي النواحي الأدبية والتاريخية والفنية، فاستطعت أن ألم بحصيلة جميلة من هذه النواحي. ومن بعدها كان التفرغ في القرية على مدى سبع سنوات حيث كنت معلماً، فكانت القراءة التي جعلت مني متفرغا ومهتما بالفنون والآثار والتاريخ فسلكت سبل البحث للوصول إلى تطوير إمكانياتي من خلال سفراتي داخل القطر في شتى مدن العراق؛ وكذلك إلى البلاد العربية المجاورة؛ وكانت خاتمتها سنة 1957 إلى تركيا فهناك تعرفت على الخطوط بأرقى مستوياتها، وتعرفت على وسائل تعلمها بالكراريس، فجلبت معي بعض هذه الكراريس لمشاهير الخطاطين العثمانيين الكبار من أمثال محمد عزت وأخيه الحافظ تحسين، فكانت مدرستي الأولى في تعلم الخط، وكذلك بعد أن زرت المتاحف وبعض الخطاطين هناك فتعرفت على أدوات الكتابة ومواد الخط، فتهيأت لي أسباب مرحلة جديدة من رسم الحروف إلى خطها بواسطة أدوات ومواد الخط، وحينما رجعت إلى البلد كان قد ظهر فيها خطاط آخر هو (زهير) وكان يرسم الحروف بألوان جذابة وقد اشتهر بالمدينة آنذاك. حينها سلكت مساري بشكل خاص في التعلم من هذه الكراريس فوجدت نفسي قد حققتُ مستوىً لم أجده عند خطاطي المدينة، فواصلت المسيرة وحققت نتائج جيدة في الخط، ولم أحاول السير في الاتجاه التجاري في الخط ولكنني قمت وعلى فترات بكتابة بعض اللافتات المتعلقة بالنواحي الوطنية وكذلك بعض اللافتات لبعض المقربين، فكانت إحدى الوسائل التي عرفت المجتمع الموصلي علي. وفي وقت لاحق افتتح معهد المعلمين في الموصل وتحديدا سنة 1962 ، ودخلت مادة الخط العربي كمادة أساسية فيه فناً وتدريساً مع المواد الفنية الأخرى تدريساً وطرائقاً، وكذلك الوسائل السمعية والبصرية آنذاك بالإضافة إلى الأعمال اليدوية التي تم تعييني فيها في ذلك الوقت في مديرية المعارف (التربية)، وطبعا بما أنني امتلك قابليات ومهارات متعددة من خلال بعض التي دخلتها في بغداد، فقد وقع الاختيار علي لتدريس هذه المادة في المعهد. وفي المعهد استفدت من الدراسات التي قمت بها فيما سبق عن فن الخط ، فوضعت له طرقا جديدة ومبسطة لتعليمه، فكانت النتائج مبهرة، بحيث أصبح جميع الطلاب مهتمين بالخط فضلاً عن ظهور خطاطين جيدين منهم. وكذلك قمت في المعهد بإجراء نشاطات لا صفية بعد الدوام اليومي، وكذلك افتتحت لجانا للخط العربي والفن التشكيلي والأعمال اليدوية، ما حقق لدي مجموعة من الطلاب الذين صاروا طليعة الخطاطين في الموصل من ذلك الوقت، ومنهم على سبيل المثال لا الحصر: (باسم ذنون، وعباس الطائي، وعلي حسن، وعلي أحمد، وعبد الغالي عبد الرزاق، وطالب العزاوي، وحسن قاسم حبش، وعلي الراوي)، وهذه النخبة من طلاب دار المعلمين في دورته الأخيرة، وهؤلاء جميعا شكلوا الطبقة الأولى من خطاطي الموصل المتميزين. يضاف إليهم تدريسي للآخرين سواء كانوا طلاباً في المدارس أو من غيرهم، من أمثال الخطاطتان الشقيقتان (فرح وجنة عدنان)، وكذلك الخطاط (أياد الحسيني، وعمار الفخري، عمار النعيم، وعامر عبد الله ألجميلي، وطبقة كبيرة من الخطاطين والخطاطات والمزخرفين والمزخرفات الذين يضيق المجال بذكرهم، لأن ما ذكرته منهم هو عدد قليل. الحوار- هل اكتفيت بالتدريس في المؤسسات التربوية والتدريسية فقط، أم للتاريخ أن يذكرك في تدريس الخط العربي في مجالات وأماكن أخرى؟. -حقيقة: أقول بأن التدريس بالنسبة لمادة الخط العربي لا يعتمد على الأماكن التربوية الرسمية فقط، لا؛ بل هناك أماكن أخرى وكثيرة هي هذه الأماكن التي يمكن للخطاط التدريس فيها، فقد تطور هذا النشاط ليدخل المؤسسات الفنية والنقابات والتجمعات الشبابية والطلابية، بل حتى أنه تعدى كل ذلك ليمتد إلى المقاهي العامة، وفي ذلك الوقت وكنتيجة للنشاط المتسارع فقد تم تأسيس جمعية باسم (جمعية التراث العربي) لتقدم نشاطها الأصلي المرتكز على الخط العربي والخطاطين من خلال التدريس وإلقاء المحاضرات المتعلقة بالتراث الشعبي والفنون المختلفة في هذه المدينة. كذلك كان الاهتمام بالعطلة الصيفية من خلال استغلالها في إقامة دورات تعليم الخط العربي لمختلف شرائح المجتمع الموصلي بالمجان؛ وكان ذلك في مدرسة الزهراء وسط الموصل بالقرب من مبنى المحافظة، وكانت هذه الدورات تركز على الطلاب أيضا بجميع المراحل الدراسية ما جعل من مدينة الموصل تصبح معروفة على نطاق العراق بهذه الحركة الفنية المكوكية التي تركز على مادة الخط العربي.

مستل من حوار مطول مع الراحل يوسف ذنون نشرته الصفحات المعنية بالخط العربي.