رحلة الى بغداد سنة 1885

Sunday 15th of November 2020 06:51:29 PM ,
4811 (ذاكرة عراقية)
ذاكرة عراقية ,

د . عماد عبد السلام ؤؤوف

وجد بين مخطوطات المؤرخ العراقي عباس العزاوي (المتوفى سنة 1390هـ/ 1971م) إضمامة من أوراق، كتب عليها أنها (رحلة مترجمة من التركية بقلم المحامي عباس العزاوي)، وقد كتبت الترجمة بخط عادي سريع بقلم الحبر، وتسرَّع مفهرس فظن أنها بخط العزاوي،

وعند مقارنتنا الخط الذي كتبت به بخط العزاوي، تبين لنا على الفور أنه ليس له، بل إن الترجمة نفسها ليست من إنشائه؛ فأسلوبها يختلف عن أسلوبه تمامًا، وفيها من الركة والأخطاء الإملائية ما لم يرتكبه في أي مما كتب، ثم إن أحدهم صحح مواضع من النص بقلم من الحبر الجاف، أو بقلم الرصاص، ليس خط العزاوي أيضًا، وفي (تصحيحاته) أخطاء إملائية أخرى.

ولما كان عباس العزاوي معنيًّا في أثناء جمعه مواد كتبه العديدة، بالتقاط كل ما به علاقة بتاريخ العراق في القرون المتأخرة، فقد ضم هذه الترجمة الموجزة للرحلة إلى مكتبته الغنية بأفانين الكتب والمخطوطات؛ عسى أن يفيد منها في دراسة مقبلة، إلا أنه لم يفعل، وبقيت الرحلة بعيدة عن اهتمام الباحثين.

خلاصة ما كتبه عن المؤلف أنه كان واليًا في طربزون، فصار مدير إدارة الديون العامة، وأنه أوفد في مهمة تتعلق بتفتيش الأمور المالية لعدد من الولايات في الدولة العثمانية، فبدأت رحلته بأن غادر إستانبول في يوم الخميس 3 كانون الثاني من سنة 1300 رومية (الموافقة 1301هـ/ 1884م)، مارًّا بـ: (مدللو)، و(أبو النور)، و(أزمير)، و(مرسين)، و(اسكندرونه)، ومنها توجه إلى (حلب)، و(كليس)، و(عينتاب)، و(بيرجك)، و(ديار بكر)، و(سعرد)، و(بتدليس)، و(موش)، وماردين)، حيث كانت له صلات بعشيرة شمر، ومنها ركب (كلكًا) في 2 أيلول 1301 رومية (الموافقة 1302هـ/ 1885م) انحدر به في نهر الفرات، فمر بـ: (حصن كيفا)، و(جزيرة ابن عمر) التابعة لبلدة ماردين، ثم وصل إلى قرية (الحمدات)، ومن هناك غادر الكلك وذهب برًّا إلى الموصل، وبعد وصوله إليها ركب الكلك أيضًا، فانحدر به إلى تكريت، ثم سامراء، ومنها إلى الأعظمية، ومنها إلى بغداد، حيث أقام بها مدة من الوقت، وبعدها انحدر إلى البصرة، ومنها إلى أبو شهر، فبومباي في الهند، ومن الأخيرة إلى عدن، ومنها السويس، فالقاهرة، ثم الإسكندرية، ومنها إلى إستانبول، وكانت عودته إليها في 1304 رومية (1305هـ/ 1888م)،وكانت عودته إلى إستانبول في 1304 رومية (1305هـ/ 1888م)... واليك بعض مشاهداته في بغداد :

الأعظمية

ولما وصل إلى الأعظمية دخل دار نعمان أفندي متولي وسادن حضرة الإمام الأعظم، فرأى الدار مفتوحة، ورأى الناس يدخلون إليها، فاستقبله مَن في الدار من أعوان، فصعدوا إلى الطابق الثاني، ورأى شيخًا هناك وعلى رأسه عمامة، وكان قد بشر به، وقد أبدى لطفًا وقال له: يظهر أنكم أتيتم من سفر، فاستريحوا ثم توضؤوا، وسنذهب معًا إلى الجامع الشريف،وعلمت أن هذا المحل لم يكن خانًا ولا قهوة.

وأبدى المتولي اعتذاره، وبيَّن أنه سادن، وأن هذا بيته، وأخذني إلى غرفة أخرى فتوضأت، ونفضت الغبار عن أثوابي،ثم إن أعوانه قدَّموا لي طعامًا وافرًا، مع أن المومى اليه لم يعلم مَن أنا، ولا من أين أتيتُ، وكل ما عَلِمَه عني أني ضيف، فأكرمني وأعزَّني، ثم أذَّن المؤذن، فذهبنا لأداء صلاة الجمعة، ففتح نعمان أفندي التربة الشريفة، ووفقنا لزيارة مرقد الإمام الأعظم، وإن الجامع ذو منارة واحدة جسيمة، وله جبهتان على الطريق والسوق، وله ساحة كبيرة، [وهو] ذو بابين.

عناصر السكان وأزياؤهم

إن سكان بغداد يبلغون نحو مائة ألف نسمة، والقسم الأعظم من المسلمين، ومنهم ستة آلاف بيت لليهود، وقسم منهم من الكلدان والكاثوليك، [و]عدا هؤلاء قد اختار الإقامة في بغداد قسم من التجار، وبعض الزوار، وتكونت منهم مجموعة من الإيرانيين، وإن الأهلين بالنظر لصنوفهم ومذاهبهم تختلف ألبستهم وقيافاتهم، فتظهر الفروق بين بعضها البعض؛ فالأشراف والأعيان مثلًا ممن يعيشون في إيران عقارهم يلبسون الزُّبُون والجُبَّة والمشلح، وبعضهم يلبس في رأسه العمامة، وبعضهم (الفيس)، وإن الموظفين في أشغال الحكومة يلبسون الزبون والمشلح، وفي رؤوسهم كَفيَّة من إبريسم أصفر، وقسم [من] العمال يلبسون الزبون من جثاري وأبيض رماني أو أحمر، وكفية من إبريسم أحمر شطرنجي،وإن اليهود أيضًا يلبسون الزبون والمشلح وبرؤوسهم عمامة عليها نقوش،والنصارى يلبسون الزبون والمشلح، وعلى رؤوسهم (الفيس،ونساء المسلمين تلبس جَرجَفمن حرير وكَلَبدُون حينما تخرج إلى السوق، وتلبس في رأسها (بيجة) معمولة من قماش أسود، وتلبس في رجلها حذاء يقال له: جدك] (جيبك) أصفر وعال،ونساء اليهود يلبسن جرجف معمول من تيل أصفر، وفيه نقوش بيضاء ولارج وردية (لازوردية)، وتضع على رأسها بيجة من القماش الأسود، وحذاء أصفر،ونساء النصارى يلبسن جرجف كنساء المسلمين، إلا أنهن يكشفن عن وجوههن، وبعضًا يضعن غشاء من تول رقيق أو أسود فيتسترن به، وبأرجلهن يلبسن البوتين في الأكثر، والغالوش (كالوش).

النقل في بغداد

إن ضيق الأزقة يمنع من مرور العربات واستعمالها؛ ولذا نرى أن للمرء عدة حيوانات في بيته تبعًا لما يملك من قدرة، ولا يوجد حصان أو كديش للكراء، إلا أن حمير الكراء تكون بيضاء جميعها، وإن أصحابها هم الذين يسوقونها، ولا يستعملون عصا أو مقرعة، وإنما يركضون خلفها ويقولون: (خي) (دخي)، ومن ثم وبمجرد سماع ذلك، فإن الحمير تسرع في مشيها،ولما كانت الأزقة خالية من التبليط، فلا يسمع لذلك جرس أو أجراس في رقبتها فتنبه الماشي في الطريق، أو أن ينادي أصحابها بلفظ: (بالك.

إن نقل الأثقال والأحمال في بغداد خاص بهذه الحمير، وعدا ذلك فإن الأكراد من أهل راوندوز وكركوك يكونون حمالين،وإن الحمير وكذا الحمالين يوضع على ظهرهم [شيء] أشبه بجل الدابة يمنع تأثير الحمل على الظهر، وإن أحدهم يمسكها من جهة كقرب السقائين، وإذا كان الحِمل كبيرًا فمن جانبيه، يعتني كل واحد بجانبه، فيمسكونها،وإن أغلب الحمالين لا يضعون ما هو أشبه بالجل، وإنما يستخدمون (كونية) تشبه العباءة، فيضعون الأشياء فيها ويربطونها بظهورهم ورؤوسهم،وإن رؤوس هؤلاء الحمالين قوية جدًّا، وتستدعي الحيرة؛ فإنهم ينقلون نحو خمسين أو ستين قية من الأحمال، ولا يبالون،وفي رؤوس الحمالين (كلاو)، وفي ظهورهم سترة أعجمية تمتد إلى ركبتهم، ويلبَسون شيئًا أشبه بالعباءة، ولم يكن لهم حذاء ولا لباس، وبعضًا يمتدون وينامون في رؤوس الأزقة، وإن الناظر يستنكره من لون سوقهم؛ لما فيها من منظر مستنكر وقبيح جدًّا، وكذا السقائون بهذه القيافة،وإن غالب الأهلين لا يلبسون اللباس الداخلي، ولم يكن الأمر مقصورًا على الحمالين والسقائين.

فإذا أراد المرء أن يعبر من الشط إلى الجانب الآخر، [فإنه] يستخدم (القفة) أو (الكَوفة، وهي حوض مدور، ونوع [من] زورق، وهذه القفف أشبه بالسبد (السبت)، أو السلة للأثواب، وتتكون من السعف، وتطلى بالقير أو الأسفلت، وليس لها رأس، وإنما هي مدورة، وإن القوَّافين يستخدمون الغرَّافة[67] إلى أي طرف أرادوا أن يسيروا بها،وإن الأهلين يستخدمونها [في] مقام الزورق والبلمعدا المراكب البخارية [و] الكلكات].

وبين بغداد من جانب الكرخ وبين [قصبة] حضرة الإمام موسى الكاظم نحو ستة كيلو مترات من المسافة،وهناك خط الترامواي بين قصبة الكاظمية والكرخ، وهذا شيد قبل نحو خمس وعشرين سنة؛ [إذ] تأسست شركة مساهمة ،و[إلى] الآن يشتغل هذا الخط، وإن الزوار في مواسم الزيارة ينتفعون منه.