إدغار موران .. وجوه كورونا الثمانية

Tuesday 17th of November 2020 06:28:08 PM ,
4813 (منارات)
منارات ,

علي حسين

عمل قليلاً في السياسة وطويلاً في مراقبة أحوال البشر ، وفي التاسعة عشر من عمره قال لنفسه : "سأكرس حياتي لأتعلم كيف اعبر عن نفسي " . كان مغرما بالروائي الفرنسي اونريه دي بلزاك ، يتذكر الكتب التي كانت عمته تحتفظ بها في دولاب عتيق ،

هناك عثر على روايات بلزاك وتولستوي ودستويفيسكي ، يقول أن الروايات كشفت له عن اشياء داخل النفس لا نعرف كيف نعبر عنها ، وسيقرر في الحادية والعشرين من عمره عندما انضم الى المقاومة الفرنسية ضد الاحتلال النازي ، أن يختار اسم موران احد ابطال الكوميديا الانسانية لبلزاك ليلحقه باسمه فيصبح ادغار موران بدلا من ادغار ناحوم ، ومثل فيلسوفه المفضل ماركس قرر في الخامسة عشر أن يؤلف كتابا عن بلزاك ، طرح الفكرة على والده التاجر الذي قال له : " في عالمنا اليوم لن يدفع احد فرنكا واحدا ليقرأ هلوسات مراهق " . يخبرنا فريدريك انجلز ان ماركس كان ينوي تاليف كتاب عن بلزاك ما أن ينتهي من راس المال . يكتب ماركس أن بلزاك كان يتميز بفهمه العميق لظروف الواقع .

كتب اول كتبه عن الموت " الانسان والموت " الذي لاحقه وهو جنين في بطن امه التي كانت تعاني من مشاكل في القلب ، نصحها الاطباء بعدم الحمل ، فقررت ان تتناول ادوية تسقط الجنين ، غير ان ذلك لم يحدث : " يبدو انني كنت متشبثا بالحياة قبل ان اشاهدها " ، وسيخرج الطفل الى الدنيا شبه ميت تَّطلب الأمر دقائق لاعادة الحياة له ، يخبره والده أن الصدفة لعبت دوراً في وجوده ، فقد أراد الطبيب أن يستخرج شهادة وفاة للجنين ، لكن طبيبا آخر تدخل لإعادة انعاشه . .لكن الموت ظل عنيدا يلاحقه من مكان إلى آخر وسيخطف منه امه وهو في العاشرة من عمره :" هذه الخسارة المطلقة اجبرتني على العيش دون مطلق ". عاش وحيدًا بعدما حرمه مرض أمه من ان يكون له أخ أو أخت، سيواجه الموت مرة اخرى عندما كان في الثانية والعشرين من عمره اثناء المقاومة الفرنسية :" تبدأ قصتي بالموت ، إذ يطاردني شبحه منذ وقت مبكر جدا . لقد ادركت ان ثمة صلة بين الحياة والموت لا تنفصم عراها " ..يكتب في " الانسان والموت " إن :" كل انسان يضم موته بين جنبيه ، اشبه بالهارب من حكم الإعدام الذي يختفي عن الانظار ويشغل نفسه بعمله ويلعب الورق ، ويغني مع انه واثق كل الثقة انه سيتم القبض عليه اليوم او غدا ، او كانه ( هام ) إو ( كلاف ) في مسرحية بيكيت الشهيرة ( نهاية اللعبة ) عبارة بعينها لا معنى لها ، ويكرر حركات بعينها لا هدف من ورائها داخل الحجرة الزنزانية الواقعة على مشارف الموت والهلاك ، هذه الحجرة إو هذه الحياة :هالك من يخرج منها ، وهالك من يبقى بداخلها ، ولكن بعد قليل " ، إلا ان الموت لم يجعل من عالمه عدمي مغلق ، فلطالما اعتبر موران الموت اقل الاحداث سوءاً:" يتم الاعتراف بالموت ، وانكاره في ذات الوقت ، انكاره بوصفه فناءً ، والاعتراف به بوصفه حادثا واقعاً " .

إدغار موران الذي يقترب من عامه المئة – ولد في الثامن من تموز عام 1921 – يتمنى ان يفوز في سباق الحياة على صديقه كلود ليفي شتروس الذي عاش مئة وعام ، ويخطف منه لقب المفكر الأطول عمرا . في منزله الكائن جنوب فرنسا بمدينة مونبيليه ، يستيقظ كل صباح يبدأ يومه بقراءة بريده الإلكتروني، ثم يتناول كتابا من المكتبة يستغرق فيه مع حرص شديد على حضور الندوات والمؤتمرات.. يبجث في اجندة مواعيده عن رحلة جديدة يقوم بها ، كانت آخر رحلاته نهاية عام 2019 حيث القى محاضرات في البرازيل ، ثم التقى بابا الفاتيكان ، واجرى مراجعه اخيرة لمذكراته التي صدرت نهاية عام 2019 ، وكان قبل انتشار وباء كورونا ينوي تقديم بعض الاغاني الثورية على احد المسارح ، وحين يتصل به مراسل " لوموند " لاجراء حوار معه عبر الانترنيت عن ازمة فايروس كورونا ، يقول للمراسل ضاحكا :" ما ذا تبحث عند رجل يعيش مرحلة ما قبل الوفاة " .

يؤمن ان الحب والتضامن والصداقة هي التي تمنح للحياة معنى برغم فترة العزل التي يعيشها الانسان حاليا :" بالنسبة للكثيرين منا نحن الذين نقضي معظم الوقت خارج بيوتنا ، هذا العزل الصحي المباغت يمكن ان يشكل ازعاجا لا يحتمل . لكنه في نفس الوقت يمكن ان يكون مناسبة للتدبر ، ولمراجعة الامور التافهة ، والتي لافائدة منها لحياتنا " .. تعلم من مونتاني الذي يسميه أبوه في الفكر كيف يحرس انسانيته ، قرأ كتاب مونتاني " المقالات " عندما كان شاباً ، وجد فيه دعوة للانشغال بالمستقبل ، وان لا يدير الانسان ظهره للعالم الارضي ، لكي يحلم بالفردوس. مقالات مونتاني ساعدته على بلورة افكاره حول احترام الآخر ، والامتناع عن تدمير ما حولنا ، وفيما بعد ستظل جملة فلوبير ترافقه :" اقرأ مونتاني .. سيهدئك " .

قال لمحاوره أن العزل الصحي الذي فرضه " كورونا " اصبح بمرور الايام اشبه بالسجن ، فلا الأفلام التي نشاهدها في البيت يمكن ان تعوض الخروج إلى السينما، وقراءة الكتب الالكترونية لن تكون بديلا نعوض به متعة زيارة المكتبات ، ومواقع التواصل لا يمكن أن تكون بديلا عن اللقاء الانساني ، والأفلام الوثائقية لن تكون البديل عن الاستمتاع بالمناظر الطبيعية والمدن والمتاحف.

اعتاد ابن التاسعة والتسعين ان يعيش بهويات متعددة فهو فرنسي بالولادة ويوناني من جهة الاب ، وامه من اصول ايطاية .. انضم الى الحزب الشيوعي الفرنسي في العشرين من عمره ، بتاثير من قراءة كتب هيغل وماركس ، لكنه كان يؤمن بماركسية متفتحة ، الأمر الذي سبب خلافا بينه وبين الحزب الشيوعي ليجد نفسه خارج الحزب : " أمسيت حراً " . في تلك الايام من عام 1951 سيلتقي إدغار موران باندريه بريتون الذي كان يقود الحركة السيريالية ، وستسحره شخصة السيريالي الغامضة ، وقد راى موران ان برتون وحركته قد حررا الكتابة من كل أنواع القمع التي تحيط بها أو تضغط عليها . يرى وهو اليهودي الديانة ، ان ارض الميعاد فكرة فارغة من كل معنى ، وقد اتخذ مواقف منددة بالحركة الصهيونية وسياسات إسرائيل .

في شبابه راودته احلام النجومية ، وكان يرى في قوامه الرشيق امكانية ان يجعله ساحرا لنساء الشاشة البيضاء ، لكن السينما تخذله وتعطيه ظهرها فيقرر ان يدخلها من باب الكتابة ، حيث اصدر العديد من الكتب اشهرها " نجوم السينما " و " السينما أم الانسان المتخيل " . سيذهب الى المانيا للقاء هايدغر الذي كان يشد انتباه فلاسفة فرنسا ومفكريها ، وسيكتشف بعد حوار طويل مع الفيلسوف الالماني ان البشرية تعيش عصرا كونيا ، قال ان هايدغر تنبأ بالعولمة قبل الجميع :" منذ تلك اللحظة اصبحت مستعدا فكريا لمواجهة ما هو غير منظر ، والتصدي للتقلبات " . سيكون موران على راس مجموعة من مثقّفي فرنسا الذين وقعوا عريضة لنصرة المقاومة الجزائريّة، يجد نفسه دائم البحث عن الحقيقة :" تساءلت "ما الذي يحدث؟ لماذا كل هذا؟ أين هي الحقيقة ؟. لقد بحثت هنا وهناك، ثم اندلعت الحرب. انخرطت في المقاومة واعتقدت أنني سأجد الإجابة عن أسئلتي في الشيوعية. لكن بعد قمع الثورات الهنغارية والتشيكية، لم أعد أثق فيها. جعلتني حركات فكري وعملي الثقافي أنفتح على تعقيد العالم. لقد قادتني دائماً إلى شغف المعرفة. في العمق، كنت طالباً على الدوام وبقيت كذلك. إنه طريقي " .

موران الذي اصدر عام 2007 كتابه " هل نسير الى الهاوية ؟ " ، حيث اعلن فيه ان كل واحد منا ، حيثما يوجد في انحاء الكرة الارضية ،يدرك ان العالم قد بات اليوم محكوما بمصير جماعي ، هذا المصير الذي ظهر بمواجه فايروس كورونا :" ان العلم اليوم منشغل بما سيأتي سنة 2025 و2050 في حين يعجز عن فهم 2020 " .

في الاسابيع الاخيرة كان إدغار موران راس الحربة في انتقاد سياسات امريكا والدول الاوربية : " نحن في لحظة في تاريخ البشرية حيث نتقاسم جميعاً المصير نفسه. مهما كانت القارة، أو الأمة، يواجه الجميع الآن نفس المخاطر: تدهور المحيط الحيوي وعواقبه: انتشار الأسلحة النووية: اقتصاد غير منظّم ومصدر لعدم مساواة كبيرة ... ومع ذلك، أمام هذه المشاكل، بدلاً من إدراك أنهم يشكّلون مجتمعاً واحداً، ينغلق البشر في هوياتهم الفردية والإثنية والعِرقية والدينية، إلخ. بالطبع، فشرح كل هذا يعود إلى كوننا قلقين للغاية بشأن ما يحدث "

ويحذر موران بلغة واضحة من ان البشرية تواجه فراغا في فكرها السياسي ولهذا فقدت بوصلة مسارها البشري، وانها لن تتمكن من السير قدما، بل سنتهاوى :" البشريّة أمام فراغ يشوب فكرها السّياسيّ؛ نحن لا نحسن اليوم تدبير معاشنا. فالسّياسة اختُزلت بالاقتصاد، والاقتصاد اختُزل بجشع النّيوليبراليّة الّتي لا تقيم وزنًا لا للإنسان ولا للطّبيعة. هذه مأساة البشر جميعًا في كلّ بقاع الأرض. لكن، من عمق هذه التّراجيديا كما يقول موران، سيحمل القرن الواحد والعشرين للبشر أحداثًا جسيمة، يتحسّر أنّه بحكم شيخوخته اليوم، ورغم ما في صدره من أمل، لن يكون شاهدًا عليها " في كتابه " اين يسير العالم " يقول موران أن :" الخطر الذي يتهدد البشرية لن يكون نوويا بل سيكون تهديدا للصحة ، خطر كوني لفيروس ما، له قدرة عالية على الانتقال والعدوى " . يقول لمحرر " اللوموند " أنه كان من الأقلية التي توقعت سلسلة من الكوارث من بينها كوارث دمار البيئة ودمار المجتمعات، لكنه أكد أنه لم يتوقع كارثة حيوية بهذا الحجم..ويضيف :" لا اقصد انني توقعت الوباء الحالي ، ولكني اقصد بانه منذ سنوات ، ومع تدهور محيطنا الحيوي ، كان علينا ان نستعد للكوارث . وفعلا هذا جزء من فلسفتي ( توقع ما ليس متوقعا ) " .

ويشير موران ان فايروس كورونا وضع العالم امام اشكال متنوعة من عدم اليقين: "نحن لا نعلم شيئا عن مصدر الفيروس، سوق الحيوانات بمدينة يوهان أو مختبر مجاور، ولا علم لنا بالتحولات التي حدثت أو ستحدث على هذا الفيروس خلال انتشاره، ونحن لا نعلم متى تتراجع الجائحة وما إذا كان هذا الفيروس سيظل قاتلا " .

يعتقد صاحب موسوعة " المنهج " ان الفلاسفة يمكنهم تناول ازمة كورونا من عدة وجوه ، فهي في وجهها الاول أزمة كوكبية تكشف عجز الجنس البشري عن تحقيق إنسانيته. وفي وجهها الثاني أزمة اقتصادية، تزعزع كل الافكار المتعصبة الموجهّة للاقتصاد والتي تهدد مستقبل العالم بمظاهر الفوضى والنقص. وفي وجهها الثالث هي أزمة الدولة الوطنية، لانها كشفت الخلل في سياسات أعطت الأولوية لرأس المال على حساب العمل، وضحت بالاحتياط والوقاية من أجل مزيد من التنافس والجشع . وفي وجهها الخامس هي أزمة اجتماعية، لانها استطاعت ان تسلط ضوء ساطع على أشكال التفاوت بين فقراء العالم اللذين يعيشون في مساكن ضيقة تضم الأبناء والآباء والأجداد وبين أثريائه اللذين يجدون في منتجعاتهم الريفية الرفاهية والسلامة. وفي وجهها السادس هي أزمة حضارية، لانها تدفعنا جميعا إلى الوقوف على غياب التضامن وهيمنة مظاهر التسمم الاستهلاكي التي طورتها حضارتنا. وفي وجهها السابع هي أزمة فكرية، لانها كشفت عن عمق الثقب الأسود في تفكيرنا، هذا الثقب الذي منعنا من رؤية تعقيدات الواقع. وفي وجهها الثامن والأخير هي أزمة وجودية، لانها تدفعنا إلى أن نتساءل حول نمط عيشنا، وحول احتياجاتنا الحقيقية، وحول تطلعاتنا التي أخفاها اغترابنا في حياتنا اليومية، حيث جعلتنا هذه الجائحة نلتقي وجها لوجه مع حقيقة قدرنا الإنساني.

يقول كأنه تذكر فجأة : وجودي ينتمي الى تراث يبدأ بجان جاك روسو ، ويمر بالكثير من المفكرين العظام " ، لايزال مصرا على أن المرء يحقق حريته عندما يكتشف معنى لحياته فيحدد عندئذ ما يؤمن به." . واذ يقول ان حياتنا كانت ابسط بكثير لو انصتنا بشكل جيد الى ضمائرنا ويتمنى ان تمنحنا هذه الازمة :" وعيا ليس فقط كوننا مضينا صوب قلب هذه المغامرة الإنسانية ،بل أيضا يحتوينا عالم مريب وتراجيدي في الآن ذاته.لقد أدى الاعتقاد بأن التنافس الحر والنمو الاقتصادي يشكلان مخرجا سحريا اجتماعيا للتمويه عن تراجيدية التاريخ الإنساني والتي تفاقمت نتيجة قناعة من هذا القبيل. الجنون الحماسي نحو أفق مابعد الإنسانية، ارتقى إلى الأوج بأسطورة الضرورة التاريخية للتقدم وكذا سيطرة الإنسان ليس فقط على الطبيعة، بل مصيره أيضا، في إطار التنبؤ بأن الإنسانية ستبلغ الأبدية وتتحكم في كل شيء بفضل الذكاء الاصطناعي. إن أمكننا مثلا تأخير الموت بالتقدم في السن، فيستحيل بالنسبة إلينا خلال الآن ذاته استبعاد الطوارئ القاتلة التي تهشم أجسادنا،أو التخلص من جراثيم وفيروسات قادرة على التحول باستمرار ذاتيا كي تقاوم العلاجات،والمضادات الحيوية "

يقول لمحاوره انه تعود البقاء حيا ، ما دام الموت لم يأت في سن الـ " 90" ، وعند سؤاله عن خشيته من ان يصاب بالمرض وهو في هذا العمر يقول :" كل التامينات الاجتماعية التي يمكننا ان نكتتبها ، ليس بوسعها ان تضمن عدم الإصابة بالمرض او ان نتمتع بالسعادة في بيوتنا ، نحن نسعى الى احاطه انفسنا باقصى ما يمكن من اليقينيات ، لكن الحياة هي إبحار في محيط من الشكوك ، تتخلله جزر وارخبيلات من اليقين التي نتزود منها لمواصلة الابحار " .

يلخص موران مفهومه للشجاعة بانها الحفاظ على سلامة العقل والولاء لما يؤمن به المرء ، وما يطلق عليه الناس قيمهم . انه مقاومة كل ما من شانه خيانة طموحاتنا وافكارنا ومقاومة التيارات السائدة ، والتي يغلب عليها كثرة المصالح وعودة الاشكال القديمة للبربرية ، كما انها تعني التعاطف مع المضطهدين والذين يتعرضون الى الاذلال .

يكتب في كتابه " النهج " :" يبقى الانسان هو ( هذا المجهول ) ولا سيما بفعل ( العلم السيء ) اكثر مما هو بفعل الجهل . ومن هنا ياتي التناقض : فكلما زادت معرفتنا ، قل فهمنا للكائن البشري " .

وعن ضحايا فايروس كورونا يؤكد موران :" أن الضحايا الحقيقيين لهذا الوضع هم من لا مأوى لهم اننا بحاجة الى وعي مشترك بمصير الانسان .. رسالة فايروس كورونا واضحة ، ومن المؤسف لا نريد سماعها "