كامل الدباغ وبرنامجه( العلم للجميع) رحلة ثلاثة عقود من التميّز والإبداع العلمي

Wednesday 18th of November 2020 06:30:01 PM ,
4814 (عراقيون)
عراقيون ,

د . اكرم المشهداني

لا أعتقد أن أحداً من العراقيين ممن عاشوا عقود الستينات وحتى أوائل التسعينات، لا يعرف من هو كامل الدباغ ومن هو برنامج "العلم للجميع" الذي كان يَجمعُ الأسر العراقية عند التاسعة مساءً كل أربعاء من شاشة تلفزيون بغداد ما بين عامي 1960 و 1990،

رحلة لم تكن سهلة بل شاقة على مُعدّها ومقدمها المرحوم الأستاذ الدكتور كامل الدباغ واسمه الكامل هو (كامل إبراهيم أدهم توفيق الدباغ الشمري 1925 – 2000) وعلى مدى ثلاثة عقود مابين 1960 و 1990 استمرت مسيرة البرنامج الأكثر جماهيرية مع شقيقه "الرياضة في أسبوع" الذي كان يقدمه الأستاذ مؤيد البدري بالتاسعة مساء كل ثلاثاء من كل أسبوع وبنفس الفترة فاقترن الأثنان بكونهما البرنامجان الأكثر شهرة ونجاحاً وجماهيرية ليس في العراق وحده بل في دول الخليج العربي التي كانت تستلم البث العراقي من البصرة وكان الخليجيون مولعون بمتابعة برنامجي الرياضة في اسبوع والعلم للجميع الشهيرين.

برنامج جماهيري متميّز:

كانت الاسر العراقية ومن كل الاعمار وكلا الجنسين تتابع بشغف واهتمام الاستاذ كامل الدباغ في برنامجه الجماهيري المتميز لما يمتلكه الدباغ من قدرة على تبسيط العلوم وايصال المعلومة للناس بطريقة جذابة واسلوب محبب ممتع ومتمكن، فأسهم المرحوم الدباغ في اشاعة المعرفة بالعلوم واخبار العلم، وتقريبها للمشاهد العادي والمتعلم على حد سواء.

سيرته الذاتية:

المرحوم كامل الدباغ من مواليد 1925 محافظة نينوى مدينة الموصل درس الابتدائية فيها، وشغف في شبابه بمطالعة الكتب الأدبية ودواوين الشعر، ويروى عنه أن لديه محاولات شعرية في بدايات شبابه، كما لجأ إلى الرياضة ولم يستمر معها، فقد أخذه العلم والدراسات العلمية الصرفة، وتوسع وأبحر فيها.

عند تخرجه من الجامعة، مارس التعليم، واستقر به المقام مديراً للرعاية العلمية التابعة بوزارة الشباب.

المرحوم كامل الدباغ شارك في العشرات من المؤتمرات والندوات العلمية داخل القطر وخارجه، كما شارك في تأليف العديد من المناهج الدراسية العلمية مع آخرين، كما الف كتاباً لهواة الكهرباء والراديو فضلاً عن تأليفه حوالي ثلاثين كتاباً للأطفال، كما ترأس تحرير مجلة (العلم والحياة) وأشرف على صفحات العلوم والتكنولوجيا في عدد من الصحف والمجلات العراقية بإعتباره خبيراً معتمداً وشخصية علمية موثوقة ومعروفة.

بث التلفزيون العراقي أول حلقة من برنامجه الشهير (العلم للجميع) يوم 28 أيلول 1960، ودأب المرحوم الدباغ على الأحتفال بالذكرى السنوية لإنطلاقة برنامجه الشهير وفي كل عام لغاية توقفه نهائياً.

تشجيع الشباب على البحث العلمي:

كان المرحوم كامل الدباغ يرعى العلم ويشجع الشباب على ولوج العلم والاختراع، وكان يقيم مسابقة للمخترعات والابداعات العلمية المتميزة للشباب، وكانت مسابقاته المشهودة تستهوي جميع الاعمار من الجنسين للمشاركة فإشتهر برنامج العلم للجميع باقامة مسابقات الاختراعات العلمية، واقامة المعارض السنوية بحضور كبار المسؤولين للتاطلاع على مخترعات الشباب ومنهم الرئيس عبدالرحمن عارف الذي رعى المعرض العلمي للابتكارات، وكذلك الرئيس احمد حسن البكر الذي كان يشجع كامل الدباغ على الاهتمام بالنواحي العلمية وكان يشارك معه في المعسكرات العلمية لعلم الفضاء التي يقيمها البرنامج.

قصة الموهوب عادل شعلان:

كما تميز الدباغ برعاية الموهوبين من الشباب وغيرهم ممن يمتلكون امكانات علمية نادرة وأغلبنا ممن عاشوا تلك الفترة الذهبية نتذكر الشباب المبدعين الذين احتضنهم كامل الدباغ ورعاهم وقدّمهم للجمهور، وأكثر شخصية فرضت نفسها بقوة من خلال إمكاناته الحسابية والرياضية البارعة والنادرة هو الشاب (عادل شعلان) الذي كان يتميز بالقدرة على القيام بالعمليات الحسابية الرياضية المعقدة في ثوان قليلة. ومما يروى عنه أنه عند تقديم عادل شعلان عبر برنامج العلم للجميع وتم تمديد وقت البرنامج لاستقبال نداءات ومكالمات الجمهور إذ بدأ الناس والشركات في تقديم الجوائز والتبرعات لهذا الشاب المعجزة، وانهالت عليه مئات الجوائز...

وقيل أن الزعيم عبدالكريم قاسم كان يتابع البرنامج من خلال وزارة الدفاع ولما رأى سيل التبرعات ينهال على عادل شعلان طلب من مكتبه الاتصال بالتلفزيون ليعلمهم ان الزعيم قرر التبرع بجهاز تلفزيون للشاب عادل شعلان.

وفي اليوم التالي فوجيء الزعيم في مكتبه بمن يخبره ان عادل شعلان متواجد في استعلامات وزارة الدفاع لاستلام هدية الزعيم، فأصاب الزعيم الإحراج وخاطب مدير مكتبه: من الذي قام بإحضاره الينا ونحن الآن وسط الشهر، كان يجب ان يبلغ بالحضور عند نهاية الشهر وعند استلام راتبي لأتمكن من تقديم مبلغ شراء التلفزيون له!؟؟

وتم تدبير الأمر من خلال تطوع احد الموجودين في مكتب الزعيم بتقديم مبلغ الهدية كقرضة حسنة للزعيم، ليتمكن من الايفاء بعهده في تقديم الجائزة للشاب المعجزة عادل شعلان!!

استضافة يوري غاغارين:

ومن الفعاليات المهمة التي تميز بها برنامج العلم للجميع مع بدء انجازات الانسان في غزو الفضاء اوائل الستينات، استضافة رائد الفضاء السوفيتي يوري غاغارين الذي كان اول رائد فضاء يرسل الى اعماق سحيقة من الفضاء واستضافه في برنامجه.

الدباغ مادة دسمة لممثلي الهزل:

كان المواطن العراقي والعربي مأسوراً بمتابعة شخصية كامل الدباغ عبر برنامجه الأثير (العلم للجميع) وكانت له سمة خاصة ميزته في تقديمه للبرنامج بحيث صار بعض الممثلين الهزليين يختارون شخصيته لتقليد الصوت والهيئة لما يمتلكه هذا الرجل من شعبية وانتشار بين صفوف الجماهير.

وتذكر الروايات ان الفنان الكوميدي هاشم سلمان قدّم ذات عيد حلقة هزلية حاول فيها تقليد اسلوب صاحب برنامج (العلم للجميع) في تقديم برنامجه، من حيث التلفظ والحركات والصوت فاعتقد كثيرون أن ذلك سوف يثير غضب وامتعاض الدكتور كامل الدباغ، أو أنه سيقيم عليه دعوى قضائية فقد فاجأ المرحوم كامل الدباغ الجميع حيث قام باستدعاء الفنان هاشم سلمان وقام بتكريمه وقدم له ساعة يدوية ثمينة، وتلك مأثرة تسجل للدباغ الذي كان في غاية النبل والخلق العالي والثقة بالنفس.

الدباغ يزور مديرية تحقيق الادلة الجنائية:

اتذكر زيارة الاستاذ المرحوم الدباغ في اواسط السبعينات لنا والتقائي به، حين وجهنا له رسالة من مديرية تحقيق الادلة الجنائية حيث كنت اعمل خبيرا، وطلبنا منه زيارة المديرية والاطلاع على اقسامها العلمية ومختبراتها، فقد كانت تضم مختبرات في الفحص الكيمياوى ومختبرات فحص البارود ومخلفات الاسلحة النارية والمتفجرات وبصمات الاصابع والدم والافرازات الجسمية وتحليل الخطوط والكتابات والتواقيع والتزييف والتزوير ومختبرات في التصوير الجنائي الفوتوغرافي والمجهري. وفعلا زارنا وامضى معنا يومان تفقد فيها جميع الشعب والاقسام واطلع على الاجهزة والفعاليات والقضايا وسجل ملاحظاته التي اعرب فيها عن سروره لزيارة مديرية علمية جنائية تقدم الخدمة للقضاء وللتحقيق وللمواطن ولاجهزة الدولة في مختلف التخصصات العلمية.

انجازات علمية لاحصر لها:

يرحم الله الأستاذ الجليل كامل الدباغ الذي كان موسوعة علمية وشخصية لها حضورها في العراق، وقد قدم انجازات علمية رائدة منها المتحف العلمي ومنها القبة الفلكية، ومنها اصدار مجلة العلم والحياة المتميزة حيث كان يتراس هيئة تحريرها.

ومن حسن حظه ان توفاه الله تعالى قبل ان يشهد بعينيه كيف حل الغزو الهمجي للعراق.. لان الموت ارحم بالعالم من ان يرى وطنه مهانا بالاحتلال.