قراءة في ذاكرة صحفي.. وحيداً.. غادرنا الشاهري

Sunday 22nd of November 2020 06:43:08 PM ,
4816 (ذاكرة عراقية)
ذاكرة عراقية ,

شكيب كاظم

لقد كنت أقرأ ما يكتبه المؤرشف العراقي الضليع (وحيد حسن الشاهري)، في جريدة (العراق) أو في مجلة (ألف باء)،فكنت أعجب من هذه الذاكرة الوقادة، التي تحتفظ بصور واضحة لمعالم بغدادية، كرخية، تكاد تطمس من الذاكرة أو الباصرة،

غير أن وحيداً الشاهري، كان يقدمها حية واضحة قريبة من ذهن المتلقي، ولَكَم عجبت من هذا الأرشيف الضخم والفخم من المعلومات عن الأفلام العربية والأجنبية، التي كانت تعرض في دور السينما، سنوات العقدين الخمسيني والستيني من القرن العشرين، فيقدم للقارىء بين حين وآخر، حديثا عن أفلام بقيت في الذاكرة، يلخص قصة الفيلم، مقدما أسماء ممثليه وممثلاته، ولا يكتفي بهذا الشرح والتلخيص، بل يقدم رأيا فنيا ذكيا عن مجريات الفيلم، لا بل في بعض الأحيان نقدا للفيلم من ناحية التصوير أو التمثيل أو الإنارة، أو الموسيقا التصويرية، مع الصورة التخطيطية الأصلية التي تعرض على واجهة دور السينما.

لم يقتصر جهده على الحديث عن الأفلام العربية، أو العراقية- على ندرتها وقلتها-بل كان يتناول بأحاديثه تلك، أفلاما أجنبية؛ أمريكية أو إيطالية، ولا سيما ماعرفت بالسينما الجديدة، المتأثرة بحركات اليسار بعد الحرب العالمية الثانية،أفلام فيتوريا دي سيكا، وكاسمان،، وأفلام مثل (سارق الدراجات) و(سامحيني)، و(الرز المر) الذي أدت دور البطولة فيه، فتاة الشاشة الإيطالية (سيلفانامنكانا) إلى جانب رالف فالون،ودوريس دولينك، وفيتوريو كاسمان، وفيلم (صباغ الأحذية)، مشيراً إلى أن العراق في تلك السنوات، كان مقاطعا للأفلام الفرنسية، احتجاجا على السياسة الفرنسية المناوئة لتطلعات الشعب الجزائري الشقيق، في نيل الحرية والاستقلال.

كان الشاهري؛ وحيد حسن، يعيد لذاكرتنا ممثلين وممثلات: همفريبوكارد، والان لاد،ومونتكومري كلفت،وكريكوري بيك،وكاري كوبر،وفكتور ماتيور، وفرانك سيناترا،وبرت لانكستر،وكلين فورد،وجون واين،وسبنسر تريسي صاحب فيلم (الشيخ والبحر)،وجيمس ستيوارت،وستيوارت كرنكر، وريتشارد ويدمارك،وكيرك دوكلاس،بطل فيلم (القطار)، وهنري فوندا،وروبرت تايلور،وانتونيبركنس،بطل فيلم (سايكو) إخراج هتشكوك،ولي.جي.كوب،ومارلون براندو،روك هدسون،وكاري كرانت،وكلارك كيبل،بطل (ذهب مع الريح)،وتوني كيرتس،وروبرت متشوم،وجاك بلانس،وليكس باركر، وجوني ويسمولر، في أفلام طرزان.

وممثلات رائعات:روزانا بودستا، وبربارة ستانويك، وزازا كابور،ومارلين مونرو بطلة (أحبه ساخنا)!وكيم نوفاك،بطلة(الدوامة) إخراج هتشكوك أيضاً، وفيفيان لي،وجين مانسفيلد بصدرها المكتنز،واليزابيث تايلور،ليز!،.وانكريدبركمان، وصوفيا لورين،بطلة (إمرأتان)، وجين اليسون،وريتا هيوارث،التي تزوجها الاغا خان،وأنجبت منه (شهر زاد)!وجين رسل،وكاترين هيبورن، وأودريهيبورن،وهايدي لامار،وافا كاردنر، وكريس كيلي التي خطفها منا أمير موناكو!وذات الشعر الأحمر الساحر، التي تخطفها السرطان الوبيل، سوزان هيوارد، وبطلة السباحة العالمية، إستر وليامز، وجينا لولو بريجيدا، وفيرا مايلز،و،و.

إن وحيد حسن الشاهري، أرشيفي ماهر ضليع من مؤرشفي السينما المصرية والأجنبية، ويكاد مع زميله الراحل (أحمد فياض المفرجي)، الذي كان جل اهتمامه منصبا على المسرح العراقي،والذي احتفظ بأرشيف واسع عنه، يؤلفان ثنائيا قلما يجود بمثلهما الزمان العراقي، فضلا عن القاص والمؤرشف البارع (سالم العزاوي)الذي تخطفه طائر الموت بغتة، يوم الإثنين 21من حزيران 2010 المولود في مدينة الموصل في شهر نيسان 1945، وكان قد تخرج سالم (محمد علي)العزاوي في كلية العلوم بجامعة الموصل، إلا أن شغفه بالفن دفعه إلى الانغمار في عالم الإذاعة والتلفزيون، ليقدم برامج ناجحة منها:(عدسة ألفن)مع الإذاعية المتألقة (خيرية حبيب)، وبرنامج (السينما والناس)،وقدم أخريات أيامه عروضا رائعة لعدد من كلاسيكيات السينما الأمريكية.

ترى إلى أين آل هذا الإرث الأرشيفي الرائع، لا الإرث المالي المادي، فأصحاب العقول لا إرث ماديا يخلفون، في مجتمعات لا تحترم ما يقدمون،إذ غالباً ما يضيق أبناؤهم بهذه المخلفات، وغالباً لا يكون الأبناء على سر الآباء، مع أن طبائع الحياة والمورثات والجينات والكرموسومات، تفترض أن يكون الأبناء على سر الآباء، وقديما قال الشاعر في مديح (عدي)نجل حاتم الطائي.

بأبيه إقتدى عدي في الكرم

ومن شابه أبه فما ظلم

فإذا ما رحل الأب عن الحياة، تسابق الأبناء إلى التخفف من هذا العبء الثقيل فيفرقونه بددا!

وبعد:لا أعرف تاريخ ولادة المؤرشف السينمائي الضليع (وحيد حسن الشاهري)الكرخي الأصيل، لكنني قرأت نعيه على عدد جريدة (العراق) الصادر في الرابع والعشرين من شهر تشرين الثاني 1998، لقد غادرنا الشاهري وحيداً، وما أراه إلا ترك ارشيفه وحيدا-كذلك-يواجه مصيره القاتم.

ذاكرة عراقية : كنا قد نشرنا قبل سنوات مقالا عن الشاهري كتبه صديقه الفنان الراحل يوسف العاني .. اليك نصه :

وحيد الشاهري.. الذاكرة التي انطفأت..!

يوسف العاني

في الخمسينيات كان حماسنا كبيراً في متابعة الافلام السينمائية الجيدة اولا، ثم متابعة الافلام الاخرى اياً كان مستواها. من اجل ان نتعرف على كل سياقات ومضامين تلك الافلام ولتكتمل الرؤية ونكون الموقف من خلال تناولنا تلك الافلام بالنقد والتحليل.

كنا في تلك الفترة وما قبلها.. نكاد نتلاقى كل اسبوع او بين اسبوع وآخر.. في اليوم الاول من عرض الافلام الجيدة.. التي سبقها اعلام واعلان عنها.. تكاد الوجوه تتكرر.. بل كانت تلك الوجوه تتلاقى بعد ذلك.. لتتبادل وجهات النظر بشأن هذا الفيلم او ذاك.. من بين تلك الوجوه التي كانت تظهر بتواضع وبخجل احيانا شاب اسمر اللون نحيف القوام، نراه ولكننا لم نكن نعرفه.. ولأقل لم اكن اعرف اسمه.. ومرت سنوات وكانت لقاءاتنا المسرحية.. خلال "التمرينات" او قبل العروض تتكرر..

واذا بنا امام ذاك الشاب الذي ظل متواضعا خجولا.. لكن رغم ذلك كنت – انا بالذات – الاحظ اهتمامه وحماسته.. وفضوله احيانا في معرفة تفاصيل حالة ما.. واشياء ذات علاقة بالمسرحية.

قبل اشهر من نهاية عام 1998، رأيت ذاك الذي كان شاباً كهلا يدخل مجلتنا "الف باء" ليقدم الى قسم "الفنون" عدداً من مقالاته.. رأيته يدخل بذاك الهدوء بل وبالخجل احياناً لا يعلوا صوته الا بقدر اسماعك ما يريد حول هذا المقال او ذاك.. بل ظل لفترة طويلة وهو ينشر مقالاته النقدية او الارشيفية.. ظل متردداً في طلب نسخة من المجلة التي نشرت فيها مقالاته.

بين الخمسينيات وبين نهاية عام 1998.. وقد فارق.. "وحيد الشاهري" الحياة يعيش الهدوء والصمت وبلا ضجيج.. بين هذه السنوات الطويلة كانت بيني وبينه معرفة عميقة بدأت بعد سنوات من تعارفنا الذي اشرت اليه.. وكان ذاك التعارف الجديد عمر مقالة كتبتها في 14 تشرين الاول عام 1977 بعنوان "كيف الكيف؟" وفيه مفارقة بطلاها شخصيتان في مقهى "البيروتي، الشهيرة، فقد وصلتني رسالة من "وحيد" يشير الى ان احدى هاتين الشخصيتين والتي تقدم "القهوة" لزبائن المقهى. هو "ابوه" حسن الذي اشتهر وعرف بقهوته التي يفضلها كل زبائن المقهى.. ولم تكن الرسالة تقدم هذه المعلومة حسب بل راح وعبر ذاكرته الغنية المنقدة يستعيد لي شخصيات صوب الكرخ.. ومحلاتها .. واطرافها.. ومهتما.. وخاناتها وحماميل تلك الخانات وشخصيات مقهى البيروني.. وحمدة ام الكيمر وشهاب ابو الحبال.. وسيد عزيز العرضحاجي وكرومي العطار ودعبول البلام وملا عبود الكرخي، ثم سوق الجديد وخضر الياس والمختار صالح العمرو بيت رشيد الهندي؟ وتوفيق الحسن ودربونه المعاضدة و.. و.. وكأنه "خزنة" لكل من مر من هناك او عاش في جانب الكرخ من نهاية الجعيفر وحتى الصالحية.. صفحات تحمل الاسماء والصفات.. وفجأة ينتقل الى مكتبة "عباس الكتبي، ومكتبة "ذيبان المولى" ومكتبة ، رشاد السامرائي التي يعاونه فيها اخوه "ناجي" حيث كنا نشتري من هذه المكتبة، الصباح دنيا الفن، مسامرات الجيب، السينما، الاستوديو، الكواكب.. وغيرها ويشير الى انه يحتفظ بمجلة "الفن" فقط فقد ضاعت تلك المجلات لسبب او لآخر ويعود ليذكرني بالافلام السينمائية التي كنا نشاهدها فيذكر بعضا من الافلام الهندية والعربية والاميركية بلا حساب.

حتى اغاني تلك الافلام وملحنيها وتواريخ عرضها ودور السينما التي عرضها و... و... وكانت رسالته تلك فتح باب لادعوه كي التقي به.. وان يدخل ميدان النشر في "الف باء" بعد ان نشر في اكثر من صحيفة.. من صحفنا اليومية.. وان نجلس بعد هذه السنوات نتناقش في شؤون الفن.. وهو يؤكد على اثر تلك السنوات ويشير الى "المقام" حيث علمت انه يعمل "ببيت المقام العراقي" كما اتذكر – وان لديه خزينا من المجلات والكتب والمذكرات والذكريات في هذا الميدان ايضا.. ويحلم ان توجه اليه دعوة، لالقاء محاضرة في عمان.. عن المقام العراقي؟

وحيد الشاهري بدأ عمله طباعا ماهرا للاوفسيت في مطبعة الحكومة عام 1946.. وبعد سنوات مشرفا على قسم الطبع في مطبعة الجهاز المركزي للاحصاء في وزارة التخطيط وتقاعد وظيفيا في 1/1/1982 لكن الذي بقي عنده ذاك الخزين الكبير من ارشيف ظلت – رغم المجلات والصفحات المتجمعة عنده – اقول ظلت ذاكرته معينا لا ينضب يتابع ويصحح خطى الكثير من الكتاب الذين يتناولون ما كان.. ويضيف ويحلل.. ويتقدم الى كل صحيفة ينشر فيها بتواضع وادب.. وبلا ادعاء الا بالقدر الذي يعرف مؤكدا ذلك بالوثائق والحجج.

هذه الذاكرة انطفأت ولم نكن ندري الا من خلال مربع صغير تقدم مقالة له في جريدة العراق في 24 تشرين الثاني 1998 ثم في جريدة الموعد في 9 كانون الاول 1998 فكان عليّ ان اضيف القليل من الكثير الذي اعرفه عن وحيد الشاهري الذاكرة النظيفة عن سنوات عمره من خلال الناس الطيبين الذين عرفهم في "صوب" الكرخ.. بكل ازقته، ومحلاته ودرابينه مع الاعتذار عن تأخري في الكتابة .. رحمة الله عليه.