الكُتبي غازي فيصل حمود صاحب أقدم مكتبة في مدينة البصرة

Wednesday 2nd of December 2020 08:40:57 PM ,
4824 (عراقيون)
عراقيون ,

وارد بدر السالم

المكتبات الأهلية رافد من روافد الثقافة الاجتماعية، وضرورتها اليومية كونها حرة ولا ترتبط بالسلك الحكومي الذي تكثر الممنوعات فيه عادة. ولعل المكتبات الأهلية التي نشأت وأسّست في فترات متعاقبة من الحياة الثقافية والأدبية العراقية كانت وبقيت فترات طويلة حاضنة وجاذبة للجديد من إصدارات الكتب الفكرية والثقافية والمجلات والصحف السياسية والفنية، يوم كانت الحياة الثقافية بشكل عام فيها من الجمال والحرص والمواظبة أكثر مما هو حاصل اليوم بوجود الميديا والإلكترونيات المتعددة.

هذه المقدمة ستشير إلى الكُتبي غازي فيصل حمود صاحب أقدم مكتبة في مدينة البصرة، بل في العراق (تأسست سنة 1928) الذي رحل تاركا أرشيفا ثقافيا وسياسيا وطنيا غنيا بالقديم في بداياته الأدبية والصحافية والفكرية وفي معاصرته لعدد غير قليل من الأجيال الثقافية والسياسية التي كانت البصرة عليها آنذاك، كواجهة من واجهات البلاد الثقافية والسياسية واللغوية والأدبية. وبوفاة هذا الكُتبي المخضرم يمكن القول، رمزيا، إنّ واجهة ثقافية، أرشيفية، تاريخية، محلية مهمة قد طُويت؛ كان يمثلها الراحل بعد أن قدّم خدمات جليلة للمدينة ومثقفيها على مدار عقود طويلة من الزمن، وتكون صفحة تراثية من عمر المدينة قد أخذها معه هذا الرجل الذي ورث المكتبة الأهلية وطوّرها وأحسن إليها حتى شاخ بها وشاخت به، فصارت علامة بارزة من علامات البصرة المعروفة بتراثها الكُتبي والأدبي والثقافي والصحافي والمعرفي العام.

“الأهلية” لم تكن مكتبة فحسب، إنما أيضا واجهة ثقافية وأدبية وصحافية منذ حوالي 90 سنة يوم أُسّست بدكّان صغير تتوسط دوائر حكومية ومدارس ودار سينما ومسرح؛ ومنذ ذلك الزمن وبعد تسعة عقود لا تزال “الأهلية” قائمة حتى بوفاة صاحبها الذي ينتمي زمنه إلى الرعيل الأول من المؤسسين للشعر والرواية. وهي من أول المكتبات في المنطقة التي انفتحت على العالم العربي واستقدمت من لبنان أهم الكتب الروائية والفكرية من دور نشر معروفة آنذاك (دار العلم للملايين، دار الطليعة، دار الآفاق، دار العودة) واستقدمت من مصر كبريات المجلات الأسبوعية والشهرية (الهلال – المقتطف، الرسالة، المصور، أبولو، الطائف، الكواكب، آخر ساعة، روز اليوسف، الاثنين)، إضافة إلى ما كانت تصدره البصرة من الصحف (الثغر، المنار، الناس، البريد) عدا صحف بغداد اليومية. ولا شك أن مثل هذه الحصيلة المعرفية في الكتب والمجلات والصحف جعلت منها ملتقى ثقافيا وموضع قراءة وجدل ونقاش في الشؤون المختلفة لا سيما من جانبها الأدبي الحديث؛ حتى أن بدر شاكر السياب كان يقتعد رزمة صحف في هذه المكتبة ويكتب بعضا من قصائده هناك، وما هذا إلا دليل أولي على أن لهذه المكتبة حضورها المباشر والنافذ في جمهور من الأدباء والنقاد والفنانين الكثيرين الذين كانوا يرتادون هذا المكان ويؤمونه بوصفه المكان النوعي الجدلي المتحرك على ثقافات مختلفة وافدة من المؤلفات أو الترجمات العربية مثلما هو حيّز جيد للتأمل بين روائح الكتب والمجلات والصحف اليومية البصرية والبغدادية.

ومع بدر شاكر السياب من الرعيل الأول كان عدد من اللغويين والمثقفين والمفكرين يرتادون هذه المكتبة في الرعيل الأول كالقاضي الأديب عباس شبّر والشيخ علاء الدين خروفة واللغوي المعروف عبدالواحد العطار وغيرهم، ومن الجيل التالي تؤرشف “الأهلية” تواصل الناقد علي عباس علوان والقاص الرائد محمود عبدالوهاب والقاص محمد خضير والشعراء مصطفى جمال الدين وحسين عبداللطيف وكاظم الحجاج ومحمد صالح عبدالرضا وآخرين كثيرين.

“الأهلية” التي وصل عمرها إلى الـ90 عاما لا تزال قائمة برحيل صاحبها الذي طوّر الكثير من أفكارها حتى جعلها مؤخرا مع وريثه دار نشر بعد جهد كل تلك العقود ونشر أولى إصداراته فعلا، لذلك فالمطلوب من الحكومة المحلية أن تعد “الأهلية” تراثا بصْريا ينبغي الحفاظ عليه وتطوير زخمه الثقافي والعناية به.