هل ترك نجيب محفوظ أثرا في الرواية العربية الجديدة؟

Tuesday 8th of December 2020 07:24:13 PM ,
4828 (منارات)
منارات ,

عبده وازن

كنت أتحدث مرة مع الروائي والقاص المصري الكبير محمد البساطي عن عالمية نجيب محفوظ وإن كان ترك أثراً، بعد فوزه بجائزة نوبل، بروائيين عالميين قرأوا أعماله المترجمة، فقال لي بنبرة جريئة:

إذا لم يترك محفوظ فينا نحن أثراً، فكيف سيترك أثراً في الروائيين العالميين؟ مثل هذا الجواب يبدو جريئاً جداً ويعبر ربما، عن "الغصة" التي تركها محفوظ في قلوب الروائيين الجدد وبخاصة المصريين. قد تكون هذه"الغصة" شرعية ومحقة، نظراً إلى احتلال نجيب محفوظ الساحة الروائية وجذبه الاهتمام العام، الثقافي والنقدي، الرسمي والشعبي، واستئثاره بما يسمى "المجد" الروائي. وفي نظر بعضهم أن محفوظ طغى، عن غير قصد، وربما رغماً عنه، على أسماء أخرى مهمة ولامعة، بل كبيرة في حقل الرواية والقصة المصريتين. بعض هؤلاء تمكن من مجاورته روائيا أو تجاوزه أو الاصطدم به والخروج عنه. ولعل هذا الحال يشبه حال محمود درويش الذي هيمن على الشعر الفلسطيني وطغى اسمه على الشعراء الآخرين، وطنيا ونقديا وشعبيا.

وقد طرحنا سؤالاً إشكالياً على روائيين عرب، يتعلق بالأثر المحفوظي في الرواية الجديدة التي برزت في مصر والعالم العربي. ومثلما بدا السؤال على شيء من "الاستفزاز" النقدي، بدت الأجوبة مختلفة ومتنوعة، بين اعتراف بهذا الأثر أو نفيه أو تملص منه وتحايل عليه.

واسيني الأعرج: أحد الآباء وليس الوحيد

فرض نجيب محفوظ نفسه عربياً وعالمياً بقوة إبداعه وجبروت كتاباته؛ فهو ليس أباً للرواية العربية فحسب، بل هو من رسّخها وجعلها حقيقة موضوعية في المشهد الثقافي العربي. لا يكفي أن تكون كاتباً فقط، لرواية، أو خمس روايات، أو حتى عشر، ولكن أن تملك قوة تكاد تكون قدرية، أن توطن فناً في أرض لم تعهده. وهذا أمر لا يُتاح إلا للقليل، بسبب منعطفات تاريخية تختار أشخاصاً دون غيرهم. لقد أمضى نجيب محفوظ عمراً طويلاً وهو يحرث في الماء إلى أن استطاع أن يجعل من الرواية فناً عربياً بامتياز. كثيراً ما لامَه المثقفون على مواقفه السياسية التي لم يكن موفقاً فيها دائماً. محفوظ رجل كبر في المؤسسة؛ يعني في الإدارة التي هي الدولة مصغرة بكل نُظمها الفارغة أحياناً، وانضباطها المُفزع، الذي لا يمكن تجاوزه. فهو يحمل في أعماقه الكثير من أثقالها وأوهامها على الرغم من انتقاده لها نقداً لاذعاً.

لقد عبر نجيب محفوظ زمناً طويلاً وصعباً، وعرف هذه المؤسسة بعُمق، عن قُرب، وكتب عنها. وبحث أحياناً عن رضاها، وعدم الاصطدام معها بشكل مباشر، يعرف جيداً أنها طاحونة قاتلة، هو الذي انتقدها بعنف في كل كتاباته. وافق المؤسسة على اتفاقيات كامب ديفيد، واعتبرها مخرجاً من حالة اللا حرب التي لا أحد غير الفلسطينيين يموتون فيها. لم يكتب عن فلسطين كما يليق بروائي كبير صوته مسموع عالمياً، وهو يدافع عن نفسه في حوار مع فاروق شوشة بعد فوزه بنوبل، أن منظمة التحرير باركت له على فوزه؟ رفض أن يصطدم مع الأزهر، وألحّ، بل وأوصى ألا تُنشر رواية "أولاد حارتنا" الإشكالية، إلا بمقدمة من شخصية مرموقة من الأزهر. وكان له ما أراد في النهاية. فقد صدرت الرواية مع مقدمة من الكاتب الإسلامي أحمد كمال أبو المجد، لكن ذلك كله لم يمنعه من انتقاد المؤسسة الدينية نقداً لاذعاً، في مختلف رواياته. لقد فضل تمرير كل مواقفه الرافضة عبر الرواية التي تعتبر حرفته الأساسية.

انتصر نجيب محفوظ للرواية أولاً وأخيراً، كفعل حر ودائم يتخطى السياسي الطارئ. ومن يقرؤه، من دون مسبقات سياسية جاهزة، لا يشك لحظة واحدة في جرأته وقوة نفاذ بصيرته. لهذا يجب دوماً، في التحليل، عدم وضع الصفة الثانوية، أي محفوظ السياسي، في واجهة التحليل، دون أن يعني ذلك إخفاء أخطائه، لكن وضعها في سياقها، والتعمق أكثر في الصفة الجوهرية التي هي الكتابة الإبداعية، والرواية تحديداً. لأن الذي بقي من نجيب محفوظ، الروائي فقط، ما عداه، تأكله رياح الزمن.

ما تأثير روائي إشكالي كنجيب في الأجيال الجديدة؟ نجيب محفوظ راهن كثيراً عليها بالسير بالرواية العربية بعيداً. جيل السبعينيات العربي، والثمانينيات نسبياً، ظل مرتبطاً بالمنجز المحفوظي لدرجة أن شكل له نموذجية مدرسية في كتابة الرواية. سار على إيقاعه، لكني أعتقد أن الجيل التسعيني وجيل اليوم تحديداً، المتعدد ثقافياً، له آباء آخرون. قد يكون نجيب محفوظ في أحسن الأحوال، أحدهم، لكنه ليس الأوحد. شباب اليوم من الروائيين العرب، تحت تأثير عولمة ثقافية ضاغطة، من الصعب تفاديها، منحت لهم فرصة اكتشاف روائيين عالميين غيروا المشهد الروائي العالمي كلياً بفضل إبداعاتهم الحية: كارلوس فوينتس، وغابرييل غارسيا ماركيز، وهاروكي موراكامي، وكارلوس زافون، وديفيد غروسمان، وأمين معلوف، وإيرابيل أليندي، وغيرهم، وأمام كلاسيكيات القرن التاسع القوية، التي استعادتها بعض دور النشر العربية، دويستوفسكي، وكافكا، وليون تولستوي، وفيرجينيا وولف، وغيرهم، من الصعب موضوعياً أن يظلوا رهيني نجيب محفوظ، مهما كانت إبداعيته. أمام شباب اليوم، من الكتاب الموهوبين، فرص عالمية أكثر اتساعاً.

لا يمنع هذا من أن يظل محفوظ علامة روائية مهمة في التاريخ. هنا أيضاً يجب أن أذكر ضعف المؤسسة الثقافية العربية، بل هزالها المرضي الذي يعوض بالخطاب كل ضعفه وهزائمه. كما في كل بلدان العالم، لكي يستمر حضور نجيب محفوظ كعلامة مرجعية، في الوجدان الثقافي العربي والعالمي، لا بد من توفير الشروط الضرورية لذلك. نشر نجيب على كل المنصات المكتوبة والمسموعة والمرئية، وتوفرت رواياته مدرسياً في وقت مبكر حتى للصغار، في شكل مختارات كما نجد ذلك في الدول الغربية، إنجاز قراءات نقدية جديدة مميزة تكشف في محفوظ ما لم تكتشفه الأجيال السابقة، حتى لا يظل مادة تاريخية فقط. الذي يبقي كتاباً كباراً حاضرين حتى اليوم عبر العالم، هو الترهين الفعلي. لا يزال زولا، وبلزاك، وتولستوي، وجيمس جويس، وخورخي أمادو، وميغيل أنخل أستورياس، وغيرهم، حاضرين في الذاكرة الجمعية الإنسانية. الترهين لا يتوقف عند الكتابة النقدية الجديدة وليس الأكاديمية المغلقة التي لا تقرؤها إلا قلة قليلة، ولكن أيضاً من خلال المجال السينمائي والمسرحي والأوبرا، باقتباسات جديدة، وبمقاييس عالمية لرواياته، تقنع جمهوراً لم يعرفه بأنه قريب منه ومن انشغالاته.

من الصعب الآن اقتفاء أثر نجيب محفوظ في ما يكتب الآن من روايات في البلدان العربية. كان ذلك ممكناً ربما قبل عشرين عاماً أو ثلاثين، حين كان لا يزال متاحاً تصور هيكل عام تنضوي تحته هذا الرواية. كان الروائيون قليلين آنذاك، أما اليوم فنحن بإزاء ذلك الدفق الذي يعجزنا عن تصور كيف يمكن للجان تحكيم الجوائز الكثيرة أن تلم بكل ما يتقدم لها. لقد تفرع صدور الروايات وتشعَّب، أقصد في ما خص عددها واتجاهاتها، وكذلك أماكن صدورها. وهنا أقصد البلدان التي باتت تنشر الأعمال الصادرة فيها لكي يقرأها مواطنوها. والكثير من هذه الأعمال لا يصدر إلى الخارج العربي إلا في ما ندر.

كما لم أعد أعرف إن كانت روايات نجيب محفوظ تقرأ الآن مثلما كان حالنا معها في الستينيات والسبعينيات. الأرجح أننا، لنعرف ذلك، سيكون علينا أن نتحقق من الإقبال على رواياته، بشرائها أولاً، وفي كل بلد عربي على حدة؛ إذ لا ريب أن ذلك الإقبال يختلف بين مصر ولبنان، ومصر والمغرب، ومصر والعراق، وهكذا، الحصيلة التي ستتوفر لنا هي من ثمار تشتت ما كان يمكن أن نسميه المركزية الثقافية (العربية) وانصراف كل بلد إلى الاكتفاء بكتابه.

عن الاندبندنت عربية