(الخاتون) في سنتها الاخيرة في بغداد..مشاكل صحية .. وجهود آثارية .. وعلاقات شخصية

Sunday 13th of December 2020 07:12:57 PM ,
4830 (ذاكرة عراقية)
ذاكرة عراقية ,

د . صباح الناصري

بـدأت جـرتـرود بـيـل بـمـعـانـاة مـشـاكـل صـحـيـة، وذكـرت في رسـالـة كـتـبـتـهـا في 22 تـشـريـن الأوّل أنّـهـا أصـيـبـت بـزكـام وحـمى، وأنّ “سـنـدبـاد”، أي الـدّكـتـور سـنـدرسـن Sinderson، طـبـيـب الـمـلـك فـيـصـل، اعـتـنى بـهـا. ثـمّ نـتـج عـن الـزّكـام الـتـهـاب شـعـيـبي. وقـد تـكـررت هـذه الـحـالات بـعـد ذلـك بـيـن الـحـيـن والـحـيـن.

كـمـا طـلـبـت جـرتـرود أن تـرسـل لـغـازي لـعـب مـن إنـكـلـتـرة. وكـتـبـت في 14 كـانـون الأوّل :

“وصـل الـقـطـار والـجـنـود مـن مـخـازن هـارودس Harrods وقـدمـتـهـا لـغـازي. وقـد أعـجـب خـاصّـة بـالـقـطـار. وهـو يـحـبّ كـلّ مـا فـيـه مـاكـنـة. وقـد أدرك طـرق اسـتـعـمـالـهـا بـسـرعـة أشـدّ بـكـثـيـر مـمـا أدركـنـاه كـلّـنـا … وجـلـسـنـا كـلّـنـا عـلى الأرض نـتـابـع مـسـيـر الـقـطـار عـلى الـسّـكّـة، ونـطـلـق صـيـحـات إعـجـاب”.

ووصـلـت الـمـلـكـة، زوجـة الـمـلـك فـيـصـل إلى بـغـداد في 16 كـانـون الأوّل. وكـتـبـت جـرتـرود في 23 كـانـون الأوّل 1924 : “مـا أسـعـدني أن أخـبـرك بـأنّـهـا شـديـدة الـلـطـف. ولـهـا رقّـة وحـسّـاسـيـة الـهـاشـمـيـيـن […] ورأيـت الـبـنـتـيـن الـكـبـيـرتـيـن. وهـمـا مـثـلـهـا تـمـامـاً، وخـجـولـتـان”، “تـصـوّر حـيـاتـهـنّ عـنـدمـا كـنّ حـبـيـسـات في قـصـر مـكّـة، ولـيـس مـعـهـنّ إلّا خـادمـاتـهـنّ وعـبـداتـهـنّ ! ويـكـفـيـهـنّ سـعـادة هـنـا أن يـجـلـسـن في شـرفـة الـدّار ويـنـظـرن إلى جـمـال نـهـر دجـلـة يـجـري أمـامـهـنّ”.

وكـلّـف الـمـلـك فـيـصـل الـمـس جـرتـرود بـإيـجـاد الـخـيّـاطـات ومـسـاعـدة الـمـلـكـة في اخـتـيـار مـلابـسـهـا ومـلابـس نـسـائـهـا لـتـظـهـر في “قـبـولاتـهـا”. وطـلـبـت جـرتـرود مـن خـيّـاطـتـهـا الـخـاصّـة أن تـتـكـلّـف بـإعـداد ثـيـاب الـمـلـكـة. وكـانـت نـسـاء الـعـائـلـة الـمـلـكـيـة، كـمـا كـتـبـتـه جـرتـرود يـرتـديـن عـبـاءات الـحـريـر الأسـود عـنـدمـا يـخـرجـن مـن الـقـصـر، ولـكـنّـهـنّ يـخـلـعـنـهـا حـالـمـا يـعـدن إلـيـه.

وكـتـبـت في 31 كـانـون الأوّل أنّ الـمـلـك فـيـصـل كـان قـد اسـتـدعـاهـا لـيـخـبـرهـا أنّـه وافـق عـلى اقـتـراحـهـا بـاخـتـيـار زوجـة مـرافـقـه الـشّـخـصي، جـودت بـك، لـتـنـظّـم أمـور نـسـاء الـقـصـر وتـشـرف عـلـيـهـا : “زوجـة جـودت بـك مـن عـائـلـة شـركـسـيـة راقـيـة جـدّاً اسـتـقـرّت في بـغـداد مـنـذ زمـن طـويـل ويـحـتـرمـهـا الـجـمـيـع”، كـمـا اخـتـار الـمـلـك : “الـمـس فـيـرلي Miss Fairley لـتـشـرف عـلى تـربـيـة الأمـيـر غـازي، وتـعـلّـم الـبـنـات الـلـغـة الإنـكـلـيـزيـة ولـعـب الـتّـنـس والـعـادات الأوربـيـة … وهي فـتـاة طـيـبـة وأنـا سـعـيـدة لأنّـهـا وجـدت وظـيـفـة دائـمـة في الـقـصـر”.

وكـتـبـت جـرتـرود بـيـل لأبـيـهـا في 25 شـبـاط 1925 : “ذهـبـت أمـس إلى الـقـصـر لأتـمـشّى مـع الـمـلـك الّـذي يـحـتـاج إلى ذلـك لـتـحـسـيـن صـحـتـه، ووجـدت الـبـنـات يـتـابـعـن درس مـوسـيـقى وغـازي في درس إنـشـاء في داره الـصـغـيـرة الـخـاصّـة بـه his own little house. وكـان غـازي قـد حـمّـض مـسـوّدات صـور فـوتـوغـرافـيـة في عـلـبـة الـتّـحـمـيـض الّـتي كـنـت قـد أهـديـتـهـا لـه.[…] وهـو يـصـرّ عـلى أن يـكـلّـمـني بـالإنـكـلـيـزيـة، وهـا أرفـق لـك طـيّـه أوّل رسـالـة كـتـبـهـا بـلـغـتـنـا”.

وقـررت جـرتـرود بـعـد أن ضـعـفـت صـحـتـهـا أن تـعـود إلى إنـكـلـتـرة، ووصـلـت إلى لـنـدن في 17 تـمّـوز “في حـالـة إنـهـاك جـسـدي ونـفـسـاني”، كـمـا كـتـبـتـه زوجـة أبـيـهـا. وذكـر لـهـا الأطـبّـاء الّـذيـن فـحـصـوهـا أنّ حـالـتـهـا الـصّـحـيّـة سـبـبـهـا طـقـس الـعـراق، ونـصـحـوهـا بـأن لا تـرجـع إلى بـغـداد، ولـكـنّـهـا مـع ذلـك رجـعـت إلـيـهـا في الـخـريـف.

وصـاحـبـت الـمـلـك فـيـصـل في سـفـرات صـيـد، وزارت الـمـزرعـة الّـتي اشـتـراهـا عـلى بـعـد حـوالي 23 كـلـم مـن خـانـقـيـن. وقـد دعـاهـا الـمـلـك مـع نـخـبـة مـن أصـدقـائـه لـقـضـاء فـتـرة أعـيـاد الـمـيـلاد في الـمـزرعـة. ، وذهـبـت وجـسـدهـا يـلـتـهـب مـن الـحـمى إلى الـمـزرعـة. وكـتـبـت لأبـيـهـا في 30 كـانـون الأوّل 1925 : “عـانـيـت خـلال الأسـبـوع الـمـاضي مـن زكـام حـاد وصـداع، وبـقـيـت يـومـيـن في الـفـراش”.

وقـد أجـابـت جـرتـرود عـلى طـلـب أبـيـهـا بـأن تـعـود إلى إنـكـلـتـرة في رسـالـة بـعـثـتـهـا في 26 أيّـار 1926 إلى زوجـة أبـيـهـا : “أودّ أن لا تـؤاخـذيـني إن قـلـت لـكِ إنـني لا أسـتـطـيـع تـرك قـطـعي الأثـريـة قـبـل أن يـكـتـمـل تـنـظـيـمـهـا وأتـأكّـد مـن جـودة حـراسـتـهـا … ولـيـس ذلـك لأنّي لـسـت مـشـتـاقـة لـرؤيـتـكـمـا، ولـكـنّي أعـرف أنّـك تـفـهـمـيـن أن هـذا يـعـني أن أتـرك كـلّ مـا قـمـت بـه هـنـا، وسـأجـد نـفـسي إن تـركـتـه ضـائـعـة في هـذا الـعـالـم …”.

وكـتـب لـهـا والـدهـا مـن جـديـد مـلـحّـاً عـلى طـلـبـه بـأن تـعـود إلى إنـكـلـتـرة، وأجـابـتـه جـرتـرود في 2 تـمّـوز : “لـقـد أخـذت عـلى عـاتـقي مـسـؤولـيـة الـمـتـحـف الـشّـديـدة الأهـمـيـة … وقـد ألـحـحـت مـنـذ أكـثـر مـن سـنـة كـامـلـة عـلى أن يـخـصـصـوا لـه بـنـايـة. وقـد شـغـرت بـنـايـة في الـشّـتـاء الـمـاضي، وأعـطـوهـا لـلـمـتـحـف مـع مـبـلـغ كـبـيـر مـن الـمـال لإعـداده. وقـد بـدأت أوّل مـا بـدأت بـإعـادة بـنـاء الـسّـطـح، ثـمّ تـوقـفـت الأعـمـال مـدّة شـهـريـن عـلى الأقـل بـسـبـب فـيـضـان دجـلـة. ولـو لـم أكـن هـنـا لـمـا خـرجـت كـلّ هـذه الـقـطـع الأثـريـة مـن بـاطـن الأرض، ولـو لـم أضـمـن حـمـايـتـهـا. وقـد نـقـلـوهـا كـيـفـمـا اتـفـق إلى الـمـتـحـف، ولا أحـد غـيـري يـسـتـطـيـع أن يـنـظـمـهـا ويـصـنّـفـهـا بـعـد أن غـادر ج.م. ولـسـون J.M. Wilson الـعـراق. وكـلّ هـذا يـتـطـلّـب جـهـوداً هـائـلـة، وبـجـانـب هـذا لا أسـتـطـيـع تـرك مـهـمـتي كـأمـيـنـة سـرّ الـشّـؤون الـشّـرقـيـة … ومـا عـدا أشـغـال الـمـتـحـف تـبـقى الـحـيـاة بـاهـتـة”.

وافـتـتـحـت في 14 حـزيـران 1926 أولى قـاعـات الـمـتـحـف الـعـراقي الّـتي كـانـت جـرتـرود بـيـل قـد أشـرفـت عـلى إعـدادهـا.

وفي مـسـاء الأحـد 11 تـمّـوز 1926،عـادت جـرتـرود إلى دارهـا وقـد أنـهـكـتـهـا حـرارة الـجـوّ الـشّـديـدة، وكـانـت قـد سـبـحـت بـعـد الـظّـهـر. واسـتـلـقـت في الـفـراش طـالـبـة مـن خـادمـتـهـا مـاري أن تـوقـظـهـا في الـسّـادسـة صـبـاحـاً. ولأنّ مـاري كـانـت قـلـقـة مـن سـوء حـالـة جـرتـرود الـصـحـيـة فـقـد دخـلـت غـرفـتـهـا خـلال الـلـيـل ووجـدتـهـا قـد فـارقـت الـحـيـاة.

ولـم يـكـن الـمـلـك فـيـصـل في الـعـراق في تـلـك الـفـتـرة، وكـان أخـوه الـمـلـك عـلي يـحـكـم نـيـابـة عـنـه خـلال غـيـابـه. وقـد أمـر الـمـلـك عـلي حـالاً بـإعـداد تـشـيـيـع عـسـكـري يـلـيـق بـالـخـاتـون. ولـفّ تـابـوتـهـا بـالـعـلـمـيـن الـبـريـطـاني والـعـراقي بـعـد ظـهـر يـوم 12 تـمّـوز ووضـع عـلى سـيّـارة تـبـعـهـا الـمـلـك عـلي ورئـيـس الـوزراء والـمـنـدوب الـسّـامي وكـلّ الـمـسـؤولـيـن الـسّـيـاسـيـيـن والـعـسـكـريـيـن وأعـداد كـبـيـرة مـن أهـل بـغـداد، ودفـنـت في الـمـقـبـرة الـبـريـطـانـيـة الّـتي كـانـت آنـذاك خـارج أسـوار بـغـداد.

وأقـيـم عـلى روحـهـا قـدّاس في لـنـدن، في كـنـيـسـة الـقـدّيـسـة مـارغـريـت في الـويـسـت مـنـسـتـر. وشـارك الـوزراء في إحـيـاء ذكـراهـا في الـبـرلـمـان الـبـريـطـاني.

وقـد نـشـرت Dame Florence، زوجـة والـد الـمـس في شـهـر آب في لـنـدن : “رسـائـل جـرتـرود بـيـل The Letters of Gertrude Bell “، وأقـامـت حـفـلـة عـشـاء في ذكـراهـا في لـنـدن دعـت إلـيـهـا الـمـلـك فـيـصـل الأوّل ورئـيـس الـوزراء جـعـفـر الـعـسـكـري والـسّـيـر بـرسي كـوكـس وزوجـتـه والـسّـيـر هـنـري دوبـس وزوجـتـه …

وفي عـام 1930،أزاح الـمـلـك فـيـصـل الـسّـتـار عـن لـوحـة بـرونـزيـة يـعـلـوهـا تـمـثـال نـصـفي في الـمـتـحـف الـعـراقي في ذكـرى جـرتـرود بـيـل.

وفي عـام 1932، أسـس الـمـتـحـف الـبـريـطـاني “الـمـدرسـة الـبـريـطـانـيـة لـلآثـار في الـعـراق The British School of Archaeologie in Iraq تـنـفـيـذاً لـوصـيـة جـرتـرود بـيـل الّـتي كـانـت قـد خـصـصـت 6000 بـاونـد لـذلـك. وقـد أضـاف والـدهـا الـسّـيـر هـيـو بـيـل عـلـيـهـا 4000 بـاونـد.

وفي عـام 1947، ضـمـنـت الـخـزيـنـة الـبـريـطـانـيـة تـكـالـيـف الـبـعـثـة الأثـريـة الّـتي أرسـلـتـهـا الـمـدرسـة الـبـريـطـانـيـة لـلآثـار في الـعـراق، وأنـشـأت لـهـا مـركـزاً في بـغـداد .

عن بحث

( فيصل وجرترود ) في مدونة ( بين دجلة والفرات )