جيجك.. معضلة الايديولوجيا

Tuesday 29th of December 2020 07:01:32 PM ,
4842 (منارات)
منارات ,

نصير فليح

موضوع الايديولوجيا من المواضيع التي تهم المثقف العراقي والعربي عموما، والمصطلح نفسه في تداول مستمر. كما ان الكثير من مثقفينا العراقيين والعرب اطلع على هذا الموضوع بدءا من خلال الارث الماركسي. لكن ثمة محطات مهمة تطورت فيها مقاربة الايديولوجيا، مرورا بانطونيو غرامشي، ولويس التوسير، وبيتر سلوتردك، ولعل اخر مقارباتها المهمة الجذرية هي مع سلافوي جيجك.

للايديولوجيا تعريفات كثيرة، فهي اي نسق شامل من المعتقدات وطرائق التفكير التي تمثل اساسا للفعل، او ترسيمة مفاهيمية مع تطبيقها العملي، او حسب تعريف التوسير: “العلاقة التصورية للافراد عن الشروط الواقعية لوجودهم”. وبينما نجد الفكرة الاولية عن الايديولوجيا في الماركسية اعتبارها “وعيا زائفا” يتوجب طرحه جانبا، فان المقاربات اللاحقة تناولت الموضوع بطرئق اكثر تفصيلا واغناء، ومن زوايا مختلفة ايضا.

بالنسبة لانطونيو غرامشي، فان مفهومه عن “الهيمنة” hegemony مفهوم متداخل جدا مع الايديولوجيا، وبدلا عن تعريف الايديولوجيا باعتبارها وعيا زائفا، فان مفهوم غرامشي عن الهيمنة اقرب الى ما نسميه اليوم “القوة الناعمة”. وبالتالي فان الحكومات لا تستطيع تحقيق هذه الهيمنة بمفردها بل تتطلب توافقا او تماشيا معها من قبل الناس الذين تحكمهم.

اما بالنسبة للمفكر الفرنسي لويس التوسير (الذي يُدرج عادة ضمن الاتجاه او الفلسفة البنيوية) فان الايديولوجيا كانت نطاقا هاما من نطاقات عمله ومنجزه الفكري. لويس التوسير يقسم القوى الفاعلة في المجتمع لجهة السلطة والسيطرة الى اجهزة الدولة القمعية واجهزة الدولة الايديولوجية. وبينما تتمثل الاولى ببساطة في الشرطة والجيش وما شابه، فان الاجهزة الايديولوجية تتمثل في المؤسسات الاجتماعية من قبيل العائلة والكنيسة والمدرسة، وفي عالمنا المعاصر قوة الاعلام. وهو يرى ان هذه الاجهزة الايديولوجية هي التي تضمن بقاء نسيج العلاقات الاجتماعية القائمة مستمرا.

ولكن كيف تفعل هذه الاجهزة الايديولوجية فعلها؟ هنا نصل الى مصطلح اخر هام في نظرية التوسير وهو “الاستجواب” او “المساءلة”. بمعنى ان الفرد يشعر انه موضع مساءلة افتراضية قد تصبح ممكنة فعليا، مما يجعله يندرج ضمن النسق المطلوب للعلاقات الاجتماعية القائمة، دون حاجة الى استخدام وسائل الدولة القمعية. فهذا الشعور بالاستجواب او المساءلة المحتملة القائمة كامكانية، يؤثر في الفرد شعوريا ولا شعوريا، ويجعله بالتالي يتصور العلاقات الاجتماعية القائمة التي يندرج فيها وجوده بانها علاقات طبيعية. وفي معجم التوسير فان “الفرد” هنا يخسر فرديته لكي يصبح “ذاتا”، والاخيرة هنا تعني تلك الصيغة من الوجود الفردي الناجمة عن شبكة العلاقات الاجتماعية القائمة والخاضعة لها في الوقت نفسه.

سلافوي جيجك له اعتراضات على كل ما تقدم، اضافة الى الاغناءات والتطويرات والمقاربة المختلفة. وموضوع الايديولوجيا موضوع رئيسي في فكر جيجك، بل ان الكتاب الاول الرئيسي الذي دخل به جيجك العالم الانكلوفوني عام 1989 كان كتاب موضوع الايديولوجيا الجليل)، والذي لا يزال يعتبر من اهم كتبه واوضحها اسلوبا.

السمات الاساسية التي تتميز بها مقاربة جيجك لموضوع الايديولوجيا هي ان الايديولوجيا موجودة ومؤثرة عكس ما تريد القوى النافذة عالميا اقتصاديا وسياسيا تصويره من ان الايديولوجيا موضوع انتهى واننا نعيش في عصر ما بعد ايديولوجي. وهو يقر بعمق تغلغل الايديولوجيا الراسمالية الى الدرجة التي يقول فيها ان الناس اليوم يمكنهم تصور نهاية العالم والبشرية اسهل مما يمكنهم تصور نمط حياة اقتصادية-اجتماعية بديلة. كما ان جيجك يقارب موضوع الايديولوجيا وطبيعة فعله في الافراد من زاوية سيكولوجية اساسا مستخدما مفاهيم جاك لاكان الرئيسية، عن “الوقعي” و”الرمزي” و”الخيالي”. وفي مقاربة جيجك هذه تفاصيل وزوايا كثيرة ومعقدة ايضا.

لكن بصورة موجزة نستطيع ان نقول ان جيجك يعود الى نظرية باسكال حول الايمان وطريقة حدوثه وفعله في النفس، وكيف ان الشعائر والممارسات الدينية، حسب باسكال، هي التي تخلق الايمان لاحقا، رغم ان العكس قد يبدو للوهلة الاولى. فالممارسة الشعائرية نفسها تعكس ايمانا “بشكل جنيني” يتحول الى ايمان لاحق. جيجك يستخدم هذا المفهوم ليقارب به موضوع الايديولوجيا. فهو يرى ان نطاق الايديولوجيا الاساسي هو ليس “الوعي” و”الفكر”، بل الفعل والممارسة. واندراج الناس في ممارساتهم الفعلية ضمن المجتمع هو ما يولد هذا “الايمان الجنيني” بالايديولوجيا التي يعيشون في نطاقها.

كما ان الذات ما بعد الحداثية، حسب جيجك (وهو هنا يتفق مع بيتر سلوتردك) هي نوع من ذات “سينيكية” cynical، والذات السينيكية هي الذات التي تنتقد حالة معينة وتتهكم عليها دون ان ترفض ذلك فعليا في الممارسة (درجت العادة على ترجمة cynicism الى “كلبية” ولكننا نرى ان “الكلبية” في العربية لا علاقة لها بالمعنى الاصلي ومشتقة من كلمة “كلب” وهي نافرة وفجة في هذا السياق ايضا، ولهذا فضلنا ابقاء اللفظ الاصلي لها).

نقاط اختلاف جيجك الرئيسية مع من سبقوه تتجسد في طبيعة مقاربته وفهمه للايديولوجيا نفسها. فهو يرى ان مفهوم التوسير عن “الاستجواب” او “المساءلة” غير مقنع او كاف لتفسير فعالية التاثير الايديولوجي وابقاءه لنسيج العلاقات الاجتماعية القائمة مستمرا. من جانب آخر، بينما ترى الماركسية التقليدية الايديولوجيا بصيغة “انهم لا يعرفون ولكنهم يفعلون”، اي الانخراط في الممارسة الفعلية في النطاق الايديولوجي الناجم عن عدم المعرفة او الوعي الزائف، ويرى سلوتردك ان الصياغة هي “”انهم يعرفون جيدا ما يفعلونه، لكنهم مع ذلك، يفعلونه”، اي ما اشرنا اليه من طبيعة الشخصية السينيكة المعاصرة، فان جيجك يرى الصياغة الادق هي “انهم يعرفون انهم في نشاطهم يتبعون وهما، لكنهم مع ذلك، يفعلونه”، ذلك ان الايديولوجيا تتجسد اساس في الممارسة لا العكس.