عبد الجبار الدراجي .. خلاصة جيل من المطربين

Sunday 10th of January 2021 06:48:27 PM ,
4848 (ذاكرة عراقية)
ذاكرة عراقية ,

في جانب الكرخ من بغداد ولد عبدالجبار الدراجي عام 1936، وفي الثالثة والعشرين من عمره بدا أن الحظ قد حالفه حين وضعته أغنيته الأولى “تانيني صحت عمي يا جمال” على سلم الشهرة، لقد صارت تلك الأغنية هي لازمة لكل غنـــاء في كل مكان مثلهــا مثل “لا خبر” لفاضل عــواد أو “يا نجمة” لحسين نعمة أو “يا طيـــور الطايرة” لسعـــدون جابر.

ابتكار أغنية عراقية جديدة، عناء يعفي الدراجي نفسه منه، فقد كانت بغداد حين ظهر فيها تعج بمبدعيها الكبار: عباس جميل وناظم الغزالي ورضا علي ومائدة نزهت وعفيفة إسكندر ووديع خونده وناظم نعيم ومحمد نوشي، وكلهم بغداديون أصلاء، فما الذي يمكن أن يفعله ريفي هناك؟

أما حين غنى المطرب المصري إسماعيل شبانة أغنيته “نازل يا قطار الشوق” فقد بدا واضحا أن لأداء الدراجي إمكانية على استدراج الآخرين إلى الإعجاب به وتقليده. البعض يؤكد أن أغنية “خي لا تسد الباب” التي غنتها فائزة أحمد وهي من ألحان رضا علي كان الدراجي هو أول من غناها.غير أن الدراجي لم يسعفه الحظ في الغناء خارج العراق، كما حدث من قبله مع ناظم الغزالي ومن بعده مع فاضل عواد. بقي مطربا محليا، ولم يتوقف عن الغناء حتى عام 2004 حين فجع بموت ابنه، فكانت تلك بداية غربته التي قضاها في الأردن إلى أن توفاه الله. سيرة الدراجي في الغناء هي عبارة عن مجموعة متلاحقة من الأغنيات الناجحة التي ينطوي نجاحها على حسّ فطري عميق بالكلمة كما في اللحن. صحيح أن صوت الدراجي لم يكن خارقا في تميزه، غير أن تميّز الدراجي كان يكمن في أدائه التلقائي المشحون بالعاطفة التي يغلب عليها طابع السؤال الرجولي.

كل أغنية منه كانت وقفة في تاريخ الغناء العراقي. لم يغن الدراجي أغنية لم تأخذ حقها من الشهرة؛ "ما ريد الما يردوني"، "علمتني اشلون أحبك"، “دكتور جرحي الاولي عوفه”، "شكول للناس لو عنك يسألوني" و"صبحة"، إضافة إلى أغنيته "نازل يا قطار الشوق" التي تخلى عنها لصديقه عبدالزهرة مناتي الذي أبدع في أدائها، حين وهبتها بحة صوته الكثير من ألم الحنين الريفي. و"هي أغنيتك" قالها الدراجي بكرم فاشتهر مناتي بها.

لم يكن مطلوبا من الدراجي أن يبتكر أغنية عراقية جديدة، كانت بغداد حين ظهر الدراجي تعج بمبدعيها الكبار: عباس جميل وناظم الغزالي ورضا علي ومائدة نزهت وعفيفة إسكندر ووديع خونده وناظم نعيم ومحمد نوشي، وكلهم بغداديون أصلاء، فما الذي يمكن أن يفعله ريفي هناك؟

أغنية عبدالجبار الدراجي كانت نوعا من التبغدد، وهو الدرس الذي كان صعبا بالنسبة إلى الكثير من الملحنين والمطربين الذين ظهروا في سبعينات القرن العشرين والذين أثر ظهورهم نهاية الحقبة البغدادية في الغناء، ليسود بعدها غناء ريفي، أعاد العاطفة العراقية إلى سابق عهدها في الحزن الأسود، وكان إلياس خضر هو رمز ذلك التحول الذي قضى على كل رجاء في استعادة الأغنية البغدادية.أحدث عبدالجبار الدراجي شقا في جدار الأغنية العراقية، تسلل من خلاله الريف إلى المدينة، لكن بحذر أنيق، وكان المعنى كله يكمن في خلق أغنية مدنية لا تنسى من يقيمون في الهامش، وهم عشاق حقيقيون ومبتكرو حقائق جديدة في الحياة العراقية التي كانت يومها مفتوحة على الأمل.

تمكن من أن يتسلل إلى الأغنية البغدادية بأبجدية غنائه الريفي، كان معلوما بالنسبة إلى أباطرة الغناء البغدادي أن تلك المحاولة إنما تنطوي على إضافة، قد لا يكون الدراجي نفسه مدركا لأسرارها، وهو ما حدث فعلا. كان الوجدان البغدادي قد تمدد بتأثير مباشر من لغة ريفية متأنقة، أصابها الغرام البغدادي بسحره. كان صوت المغني يقول “مثلما علمتني الحب، عليك أن تعلمني النسيان”. رحل عبدالجبار الدراجي غريبا وفي قلبه الشيء الكثير من بغداد، التي كان واحدا من صانعي عاطفتها.

لم يكن عبدالجبار الدراجي وحيدا حين ظهر مطربا، كان هناك من حوله جيل من المطربين الذين لا ينتمون إلى المدرسة الريفية القديمة، بالرغم من أنهم كانوا تلاميذها. لقد سحرتهم بغداد، فقرر البعض أن يقاوم السحر واقفا كما فعل عبدالصاحب شراد، وهناك من جلس على الأرض مستسلما لشروط ثيابه الريفية كما فعل الثنائي جواد وادي وعبدالواحد جمعة، أو حائرا بين الوقوف والجلوس كما فعل عبدالزهرة مناتي.

أما في ما يتعلق بسلمان النكوب وعبادي العماري، الثنائي الباكي فليس لهما نصيب، لا في الوقوف ولا في الجلوس، لذلك كان غناؤهما جنائزيا، بما يكفي لاستعادة المراثي السومرية كلها، كان الموت حاضرا في كل لحظة طرب.

في ذلك الجيل من المطربين لم يكن هناك من ينافس الدراجي على مكانته سوى عبدالصاحب شراد. غير أن شراد كان مغرورا وهو ما دفع به إلى ارتكاب حماقة الغناء بعجالة، فلم تترك أغنياته أثرا من بعدها، بل مرت كما لو أنها لم تكن، بالرغم من أن المطرب نفسه كان يتميز بحضوره الجذاب حين الغناء، كان هناك شيء من الافتعال في شخصية عبدالصاحب شراد وهو ما استفاد منه عبدالجبار الدراجي المعروف بتواضعه وتلقائيته وصدقه.

كان الدراجي خلاصة جيل من المطربين، كان الظرف التاريخي الذي عاشه العراق يومها قد وهبهم حاضنة للتجريب، فكانت مختبرات الغناء مفتوحة للمواهب القادمة من كل مكان وكان السباق صعبا. ذلك لأنه لم يكن سباقا مختصا بالأغنية الريفية، كان التحدي يكمن في اختراع أغنية ريفية تكون مناسبة لمزاج المدينة، لذلك نجحت "علمتني شلون أحبك" في استقطاب المعجبين من حولها، وهناك ما لم يكن يفهمه أبناء المدينة من أسرار الحب الريفي فكانت الأغنية تكشف عنه.

عن مجلة فنون