الشاعر الدكتور آل ياسين : أين أنت من ساحة الشعر العربي ؟

Wednesday 3rd of February 2021 09:28:47 PM ,
4866 (عراقيون)
عراقيون ,

لقاء اجرته : نهى فاضل

البعض يقول : إن الشعر طائر يحلق بجناحيه . فماذا تقول ؟

-لهذا الطائر المحلق ألوان وأشكال ؛ فمرةً هو الخيال الشعري حين يرود أقاليم الرؤى وأصقاع الصور وحدائق المعاني وحرائق الحضور والطواف ، راحلاً في الدروب الموحشة يغمرها خفقاً واخضراراً ، ويعيد خلقها جمالاً ودهشة .

ومرة هو الشاعر نفسه ، حين يرتفع به صدقه ويطير به ضميره النظيف ، وتحلق به انسانيته وشجاعته ، ويظل يطلّ من علٍ على أحبته بني البشر يمطرهم بالحب ويملأ عيونهم الانبهار والمتعة وانكشاف الطريق ، ومرة هو المتلقي حين تحلق به القصيدة إلى غيوم الأمل وقمم الأحلام ، يشهق لحرف ويصفق لكلمة ويسجد لبيت . كل شيء مع الشعر يطير ، وكل مخلوق يحلق، حتى يغدو الكون كله طائراً يحلّق بجناحيه فوق فيافي المادة وصحارى الرداءة .

أين أَنت من ساحة الشعر العربي والعراقي ؟

- أنا الآن بلا تواضع مصطنع ، القمة العليا في هذه الساحة ، الضاجة بالأسماء والعاجّة بالمدارس ، والمزدحمة بالأجيال ، بشهادة ما أكتُب وشهادة من يقرأه ومن يدرسه ويبحث فيه ؛ ولستُ قمة هذه الساحة لأني ما زلت فيها من ست وخمسين عاماً أطلُّ عليها و اتجذّر في كل ذرة إبداع فيها ، وأحترق بنيران الإبداع وهمه وطموحه ، ولا لأنني أفرعت في دوحتها الباسقة اكثر من اثنين وعشرين ديواناً سوى "الأعمال الكاملة" و "ديوان آل ياسين" التي طبعت في ست عواصم عربية هي بغداد و دمشق وبيروت والقاهرة وتونس وعمّان فأثارت مئات الأقلام تنقد و تبشر وتدرس حتى تجاوزت البحوث والدراسات والمقالات والتعليقات آلاف الصفحات المنشورة في الصحف والمجلات والكتب على امتداد الوطن العربي الكبير بين الخليج والمحيط ، ممّا لا يكفيه مجلدات لو جُمع ، وما كتاب الأستاذ ثامر عطا ابراهيم الموسوم "الشاعر آل ياسين بأقلام الآخرين" المطبوع عام 1986 الذي ضم مائة مادة نقدية إلّا احدى هذه المجلدات ، وما الأطروحة الجامعية التي نال بها الأستاذ صاحب رشيد موسى شهادة الماجستير من جامعة الأنبار عام 1999م إلّا واحدة من عشرات تناولت شعري بالدرس المنهجي المثمر ؛ ولا لأني شاركت بشعري بمئات المهرجانات والأماسي والندوات والمؤتمرات والملتقيات على مدى الوطن العربي وخارجه ، وكانت هذه المشاركات مثار الاهتمام لنجاحها الكبير ، ولا لأني أمثل مدرسة شعرية ذات خصائص وسمات وقف عندها النقاد وشخصوا ملامحها في جيل من الشعراء الشباب يترسمها ويقلدها ، ولا لأني كُرّمت بدرع ريادة الشعر في مهرجان الرواد العرب الأول في القاهرة مرتين 1999 و 2000م ، ولا لأني نلت عدداً من الجوائز والأوسمة والدروع في عدد من الأقطار العربية والعالمية بدءاً من العراق وانتهاءاً بيوغسلافيا ؛ ولا لأني عند النقاد والقراء والصحفيين والجامعيين : أبو الطيب ، والمتنبي الثاني ،وشاعر الأمة ، وشاعر الانسانية ، وخليفة الجواهري ، وشاعر العرب ، ولا لأن أبياتي محفورة على شواخص حضارية ومعمارية مهمة ، وقصائدي تحفظ وتردد في كل مكان ، ولكن لأني أخلصت للشعر فارتفع بي ، إذ هو همّي الوحيد ، ونبضي الحيّ ، لم أبتذله بالكذب ولم ألوثه بالتجارة ولم أُدنسه بالجبن ، ولم أُذلّه بالاسفاف والركاكة والعبودية ، محضتُه الصّدق والحس الانساني ، فصعد بي على جناحيه إلى قمته العالية.

فإلى أي جيل تنتمي إذن ؟

- زمنيّاً إلى الجيل الستيني ، ففي أوائل الستينات بدأت النشر في الجرائد والمجلات ، وبدأت المشاركة في الأماسي والندوات ، وبها شاركت في تأسيس ندوة "عكاظ" الشعرية عام 1965 ونشرت أول دواويني "نبضات قلب" عام 1966 ، وفزت بجوائز الجامعة والمجمع العلمي في مسابقات الشعر . أما اصطلاحياً فلستُ كذلك ، فالستينيون حينما اختاروا لأنفسهم الانتماء الى عقدٍ زمني أرادوا تصنيف القصيدة الحرة تصنيفاً يبعدها ظاهرياً عن تقليد روادها الأوائل ، السياب ونازك وغيرهما ، وكأن الذي يكتبون ليس تقليداً لأُولئك فهم ستينيون وأُولئك خمسينيون وهكذا سارت الأمور فظهر سبعينيون وثمانينيون . وأما واقعياً فلست قائلاً بالانتماء الى عشر سنوات معينة فالشعر الحقيقي فوق الحدود الزمنية والعقود المرسومة ، واستقراء الشعر الخالد يبرهن على ذلك ، فماذا نقول مثلاً في جيل المتنبي ، أو الجواهري أو سواهما من الذين اختزلوا الزمن بأيديهم ، بل نسبَ اليهم عَصرهم إذا ذكروا وذُكر العصر ، ويبدو أن التمسك بالجيل من أوهام العجزة الناضبين ، إذ يبحثون في تقدم الجيل تقدماً في الشعر ؛ وأنّى لهم هذا ، والموهبة هي المعيار .

يقول أبو شبكة : الشعر صنعة . ويقول الجواهري : الشعر غيبوبة . فماذا تقول ؟

- لا أَدري هل قالا ذلك فعلاً ، ففي النفس شيء من الشك في نسبة القولين اليهما . لأن كلاً منهما كتب شعراً لا يصدق عليه قوله . ذلك أن الصنعة وحدها لا تضمن شعراً كما أن الغيبوبة وحدها لا تضمن شعراً . ففي شعر الصنعة جفاف ومحول ، لا يفصح عن أكثر من التزام العروض واتقان اللغة ، وهو في احسن فروضه شعر ترصف فيه الألفاظ وتسلسل فيه القوافي خالية من النبض المتدفق والوجدان المنفعل ، والعاطفة المتفجرة صوراً ومعاني ، والبوح المحترق بنبوءة الشاعر والجمر المخضلّ بهواجسه وإحساسه . وهو حينئذ لا يفترض موهبة خاصة ، وقدرة ذاتية ينفرد بها الموهوب ، بل يمكن لمن يتقن العُدة العروضية واللغوية أن يكتب من شعر الصنعة – إذا صحّ حينئذ أن يسمى شعراً- ما شاء له هذا الاتقان الأكاديمي أن يكتب ؛ والواقع أن أغلب شعراء كل عصر يصنفون شعراء صنعة ، لأن الأمر لا يتطلب أكثر مما ذكرت ، وغالباً أيضاً أن لا يكتب لشعرهم طول البقاء ، فحياة الشعر وخلوده تشترط غير الصنعة . ومن جانب آخر فإن الغيبوبة – على أهميتها القصوى – لا تكفي خالقاً مبدعاً للشعر ، إن لم تقترن بالقدرة على تصنيعها نصّاً ، فالغيبوبة المجردة ، مما يتساوى فيها عدد هائل من الناس ، ينقطعون لحظات أو ساعات عن محيطهم مُهوّمين في عوالم الحلم والسحر والرؤى ، دون أن تكون لديهم القدرة المفصحة عن استعداد نفسي وثقافي عاليين على نقل هذا العالم الغائب الى نص محسوس مقروء أو مسموع ، وقد شاع في العقود الأخيرة ، اهتمام شعراء الموجات المقلدة للكتابة الأجنبية ، بالتداعي ومرادفاته ، ويريدون الايحاء بمسوغ الغيبوبة ، تفسيراً لأنماط ما يكتبون . فماذا كانت النتيجة ، سوى هذا الغث المسف من الكتابات المعمّاة التي لا لون لها ولا طعم ولا رائحة غير كونها هلوسات ليس فيها من الشعر سوى الانتماء القسري .

- وعندي أن الشعر ما نجح فيه اتحاد الغيبوبة بالصنعة اتحاداً عضوياً مصيرياً ، بحيث لا ينفك أحدهما عن الآخر وكأنهما وُلدا معاً ، وهما كذلك فعلاً ؛ إذْ لم يحدث لديّ أَن سبق أحدهما الآخر ، إذ يجيئان معاً ويذهبان معاً ؛ فحين يحدث هذا الانقطاع اللذيذ عن الواقع فيما ندعوه الآن بالغيبوبة فإن الصور والمعاني تمطر مسربلةً بلغتها ومرتدية ثوبها فالوعاء اللغوي جزء لا يتجزأ من لحظة البرق الشعرية في كل خفق لصورة أو رفة لمعنى ، بحيث لا يطغى أحدهما على الآخر ، لأنه بحسب درجة الطغيان يكون النزول من الهرم الفني درجةً درجةً ، بحيث إذا بلغ طغيان أحدهما على الآخر كبيراً كانت القصيدة على الأرض التي ينتصب عليها الهرم كله . وبهذا المعيار يتفاوت الشعراء كبراً ومنزلة ، وتتفاوت مواهبهم ابداعاً واسفافاً ، والخالدون منهم هم الناجحون في تحقيق هذه الوحدة الفريدة .

من ارشيف الدكتور محمد حسن ال ياسين