أنثوية القصيدة في ديوان العهد الثالث

Wednesday 3rd of February 2021 09:31:50 PM ,
4866 (عراقيون)
عراقيون ,

د. نادية هناوي

للدكتور محمد حسين آل ياسين منزلة خاصة في عالم قصيدة العمود المعاصرة، بسبب ما ينماز به عطاؤه الإبداعي من مخيلة وما تتصف به موهبته الشعرية من بصمة. وبموجب هاتين العلتين أعني المخيلة والموهبة صارت القصيدة عنده كيانًا واعيًا وحيًا.

تمتد تجربة الشاعر آل ياسين إلى أكثر من خمسة عقود بدءا من ستينيات القرن الماضي وقد أصدر ديوانيه( نبضات قلب) 1966 و( الأمل الظمآن) 1968 ومرورا بالسبعينيات بديوانين هما (قنديل في العاصفة) 1975 و(مملكة الحرف) 1979 ووصولا إلى التسعينيات بدواوين( الصبا والجمال) 1980 و(الصحف الأولى) 1995 و(أساطير الأولين) و( ألواح الكليم ) 1999وإذا عددنا هذه الدواوين بمثابة عهدين تناصفتهما الأعوام من السبعينيات إلى التسعينيات وقد بدا فيها العهد الأول نظما.. وغدا العهد الثاني شعرا..، بدلالتيهما المذكرة التي تحمل مقاسات لا تخرج عن الأبوية الشعرية ومعاييرها المتمثلة بالإتباع والانضواء والالتزام والاحتذاء؛ فإن العهد الثالث هو القصيدة بتوصيفها المؤنث وما يترشح عن هذا التوصيف من دالات وثيمات تحمل تجليات الأمومة والخصب ومعاني التوالد والصيرورة والانتماء ..

وتتجلى هذه الدالات والثيمات مترعة وطافحة عند الشاعر الدكتور آل ياسين في ديوانه( العهد الثالث ) الصادر عن مؤسسة الروابي ببغداد عام 2007 إذ كل قصيدة تبرهن على نفسها أنها كيان مؤنث بأبياتها التي تنتظم متساوقة الفكر، متواترة الألفاظ، وبلمحاتها الجمالية التي تجعل قصيدة العمود متجددة مبتكرة حاضرة بشموخ منتضية يراع الإبداع ومشرعة على ركائز أسلوبية خاصة.

وأهم تلك الركائز البناء اللفظي الفخم والتساوق الابتكاري للصور والاستقدام المنحاز لكل ما هو عتيد تقر به أبوية الشعر العربي ومنظومته الثقافية الراسخة.

لقد هضمت ذائقة الشاعر آل ياسين مدونة الشعر العربي القديم منها والحديث واستوعبت كلاسيكيته وايحائيته معا، صانعة لها منظومتها الشعرية المتفردة التي تتفنن حاضرة في شكل هرم قاعدته تراث شعري

قمته تنوير شعري مستحدث.

وهذه الهرمية هي نتاج صيرورة إبداعية لعهود شعرية ثلاثة كان أولها وثانيها عبارة عن فيض الهام وفطرة بينما كان ثالثها فيض حنكة ومراس لتجتمع الفطرة بالخبرة والماضي بالحاضر فيتسع حضن القصيدة طيبا ويغدو مداها أبديا.

من هنا غدت قصيدة آل ياسين في عهدها الثالث لا هي بالعاصفة ولا الراعدة كما أنها ليست منغلقة أو موتورة بل هي ولود تفيض حبا وبذارا متشكلة في هيأة صور وترنيمات بلا خيلاء وبعيدا عن العجب.

وجدير بالذكر أن الباحث صاحب رشيد موسى كان قد تناول تجربة الشاعر الدكتور محمد حسين آل ياسين في كتاب بعنوان( شعر محمد حسين آل ياسين دراسة موضوعية فنية) الصادر عن دار الحرية للطباعة 1999 لكنه لم يعط الصورة الشعرية حقها كونه تناولها في مبحث صغير ختم به الدراسة وكان حريا به أن يولي الصورة الاهتمام الأكبر كون تجربة الشاعر إنما تتجلى في الصورة التي بها تتضح ركائز التمظهر الشعري لديه.

وبسبب هذا القصور في تناول الصورة الشعرية التي لم تتعد حدود البيان والتناص مع التراث والدين، طغى البناء الموضوعي مقسما إلى موضوعات عامة شملت السياسة والإنسان والمجتمع وموضوعات أخرى خاصة هي في الأصل أغراض شعرية تمثلت في الغزل والمديح والرثاء والشكوى وغيرها.

وصحيح أن الباحث أولى المستوى الإيقاعي اهتماما مناسبا من حيث الموازنات الصوتية ومستويات البناء للألفاظ ودلالاتها المتولدة من استعمال الطباق والمبالغة فضلا عن توظيف الألوان وأسماء الأعلام لكنه بالمقابل أغفل أنماط التشكيل الصوري من قبيل الإفراد والتركيب والتورية والتضاد والمفارقة والتساؤل والدراما والوصف والتسريد كسمات أسلوبية عرف بها الشاعر الدكتور محمد حسين آل ياسين صانعا لنفسه عالما جماليا ورؤيويا فيه شعرية القصيدة تعتلي متفوقة بالعمود إيقاعا وتصويرا.

وعموما؛ فإن القصيدة عند الشاعر آل ياسين ليست موصوفة سوى أنها أنثى، وهذا ما يعطيها تميزها الذي به تتجاوز مفردة الشعر وما فيها من الاعتداد الذكوري حاملة شاعرها على ملاحقة طيفها مهما طال المسار وبعد، وهي تتمنع أمامه وقد تخاتله جذلى:

كأني وقد سرت كل الطريق أخاف إلى الآن أن ابدأه

وقد مرق العمر سهما به وبلواه تصرخ : ما أبطاه

ولو كان مطلب الشاعر الشعر وليس القصيدة لما اقتضى الأمر منه سوى الاحتذاء للمنوال، لكنه بمطلبه للقصيدة صار يصادف المخاتلة والغنج والمناورة. ولا بد للشاعر وهو يطلبها أن يستشرف مستقبلها واجدًا بصيص أمل، يمحو شكوى الجدب والنضوب، قاصدا أفقا أخضر ستلده قصيدته ابتكارا وتجديدًا بلا عَنَد ولا استعصاء:

تاركا خلفي الحروف الغوالي لوريث يغنى بها وريثه

أين تمضي؟ والدرب أرهقه الجد ب وقد اجل السحاب نثيثه

………

يفنى الزمان ويبقى الشعر خيمته تؤوي الرياح ولا يلوى لها عند

وإذا كانت قصيدة النثر قد زاحمت قصيدة العمود داخلة معها في رهان لا يعلم أيهما الذي سيكسبه وحتى شاعرها لا يمكنه الإفضاء بنتيجة ذلك الرهان لكن الإيمان قائم بأن الإلهام في انقياده أو عدم انقياده لصاحبه سيظل واحدا سواء في قصيدة النثر أو التفعيلة أو العمود، والقصيدة بعد ذلك كله غالبة بصفتها المؤنثة على الشعر في صفته المذكرة.

لهذا يناديها شاعرها بالحبيبة التي بدت متوحدة فيه حتى أن كل حرف منها هو جزء منه، أنها النبض الساري في عنفوان إلهامه، وهي تسكن في حشاشة النسغ وخفقات القلب وتجليات الوجدان:

حبيبتي أي حرف فيك يعتذر إن كنت في كل خفق منك انتحر

هواك موتي وبعثي كل آونة فأي أخرى وعندي دونها آخر

إنها القرين الأبدي الذي فيه وجود شاعرها وعدمه وفيها تكوينه وفناؤه وهي الأثيرة التي فاقت الأخريات اللواني عافتهن نفسه منبهرة بقصيدته وحدها كروح مجندة لروحه وكعمود ونظام وهرم ألفاظ تنداح فيها المعاني التي حشر في تلابيبها زمنه وتخللها عمره ومشواره.

هي لا تفنى لأنها في الأساس مرنة لا مجسدة ومعقلنة لا ممسوسة وهي صورة وليست مادة وهي أيضا جوهر بلا أعراض وهذا ما يجعل شاعرها بجماليوني الإبداع، وهو إذ يترقب ولادة قصيدته ويسهم في صنعها يقدم نذوره مناجيا مترقبا ومتوسلا حتى كأن قصيدته المولودة ليست إلا جالاثيا خاصة به وحده:

تغري بها ألف بشرى قبل مولدها فان أظلت تحامت حولها النذر

وعلى الرغم من أن قصيدته هي منحوتته التي صنعتها يداه من روحه ودمه إلا إنه يراها متاهة فيغرم بالضياع فيها ويراها فقدا لكن فيها سفره القاصد الغانم بكل ما يعز مطلبه كما يجدها سؤالا لا جواب له وكأسا تذوب ولا تُعصر وألقا وصمتا ومرأى ومغيبا، وقد اجتمع فيها السحر والخبر، ولأنها كذلك تذوب فيها الدقائق والثواني كأنها الدهر كله، ويصبح كيانه كيانها منشدّا إليها لسانا وعينا مستبصرا ما يُسمع وسامعا ما يُبصر :

أسمعت بالقلب ما يعي اللسان به وصغت بالعين ما لا تدرك الغرر