ذكريات انقلاب 8 شباط 1963

Sunday 7th of February 2021 09:31:46 PM ,
4868 (ذاكرة عراقية)
ذاكرة عراقية ,

بلقيس شرارة

بدأ الانقلاب من قبل بضعة أشخاص، و بضعة دبابات، رفعت صور عبد الكريم قاسم للتمويه و الخدعة، مما مكنهم من احتلال الأستوديوا الإحتياطي للتسجيل ولاستخدامه كإذاعة في الظروف الاستثنائية في حالة حصول خلل في الإستديو الرئيس للإذاعة، و أذاعوا البيان الانقلابي الأول.

كان صباح8 شباط صباحاً مشمساً، جميلاً بصفاء سمائه، و كأنه يوم من أيام الربيع، بدفء حرارة أشعة شمسه عندما كنا نتناول الفطور، عكّر هذا الصفاء أطلاق النار المتقطع، ينقطع لفترات ثم يعود الإطلاق بشدة متواصلة لينقطع ثانية. علت علامات التساؤل و الاستفهام على وجهينا، تركنا الفطور حالاً و اتجهنا – رفعة و أنا- نحو دار أبو رفعة( تقصد دار كامل الجادرجي ابو زوجها رفعة )، الذي أخبرنا أن انقلاباً حدث ضد عبد الكريم قاسم، و إن الوضع ما زال غامضاً. أدركنا أن الوضع شائك و البلد مقبل على انتقام لا أحد يتنبأ بنتائجه. طلب منا أبو رفعة أن نترك الدار، و اتجهنا جميعاً إلى دار ابنة أخت أم رفعة، اسماء الكيلاني. قضينا النهار عندها نتابع الأخبار و البيانات الإنقلابية التي كان يبثها الراديو و التلفزيون. القلق و الوجوم باد على الجميع. عدنا جميعاً في المساء و أتجه كل منا إلى داره. ألقى المساء ستائره المخيفة على المدينة، بعد إعلان منع التجول. و هيمن صمت مطبق في الشوارع و البيوت، لا يقطعه إلا لعلعة الرصاص الذي نسمعه من بعيد! شعرنا بالجو الموشى بغيوم الرعب، عندما ألقي القبض على نصير شقيق رفعة بعد عودته لداره. أودع نصير في النادي الأولمبي الذي تحّول إلى معتقل كبير لليساريين و الشيوعيين.

ترك عبد الكريم قاسم داره و اتجه إلى وزارة الدفاع بدلاً من الذهاب إلى المعسكر، كان ذلك أكبر خطأ ارتكبه في حياته، فقد حصر نفسه في الوزارة، محاطاً بفوج من الدبابات، لم يستخدمها في الدفاع عنه. وخسر بذلك المعركة!

و انتبه أبو رفعة منذ الساعات الأولى للخطأ الذي ارتكبه عبد الكريم قاسم في حصر نفسه في وزارة الدفاع بدلاً من الذهاب إلى المعسكر. و انتهت بذلك مرحلة من تاريخ العراق، فسقط النظام الجمهوري و تهاوى حطاماً بعد بضعة ساعات من تحرك الإنقلابيين، و بدأت مرحلة جديدة.

أعلن في اليوم التالي عن تشكيل مجلس عرفي عسكري لمحاكمة عبد الكريم قاسم و جماعته، بعد أن سلموا أنفسهم. و لم تكن محاكمة و إنما مهزلة انتهت بإعدام عبد الكريم قاسم، و فاضل عباس المهدواي و طه الشيخ أحمد، رمياً بالرصاص. شاهدنا عرض جثثهم على شاشة التلفزيون، و لكي يثبتوا لعامة الناس وفاة الزعيم، رفع أحد الجنود رأسه و أخذ يركل الجثة بجزمته «البسطال» ثم دفع الجثة على الأرض. لكن الناس البسطاء من محبي عبد الكريم قاسم و رغم العنف و القسوة المقززة للنفس، لم يصدقوا أنه غادر الحياة، و استمرت شريحة من المجتمع تؤمن أنه لم يقتل بل اختفى كما اختفى من قبله المهدي المنتظر، و إنه سيظهر في يوم من الأيام!

لقد اسقط نظام قاسم بإذاعة بيان و بضعة دبابات، و منذ ذلك الحين أصبح الهدف الأول لأي انقلابي طامع بالسلطة، الاستيلاء على الإذاعة كأداة فعّالة.

تعرض نصير شقيق رفعة إلى عذاب نفسي و جسدي خلال مدة الاعتقال، و كان من بين المحظوظين الذين نجوا من القتل و الإبادة التي شملت شريحة واسعة من مثقفي البلد اليساريين. اضطرت زوجة نصير، أميرة إلى الاختفاء في مدينة النجف لأكثر من ستة أسابيع، و تركت طفلها سليمان برعاية جدته، لأن بقاءه مع والدته كما اعتقد أبو رفعة قد تعرضه إلى الخطر، رغم إبقاء الطفل بعيداً عن والدته في تلك المحنة يشوبها نوع من القسوة.

أخذ الحرس القومي ببنادقهم يجوبون شوارع العاصمة، يفتشون عن الخونة «أعداء الشعب». ما أكثر أعداء الشعب في العراق و ما أقل أصدقاءه! الأغنية تتكرر « نحن لسنا ضد الشعب و إنما ضد المتآمرين العصاة من المجرمين أعداء الشعب!»! بينما الواقع، هو أن الشعب الذي عانى من الوضع الأحادي في الحكم، و فقدان التعددية، و هيمنة الحاكم أو الحزب الذي لا يقبل إلا فكره و أيديولوجيته.

انقسمت العائلات على بعضها و تفككت الروابط بين الناس بسبب اشتداد الصراع السياسي، و فقدان التسويات السياسية. و صار الإنقلاب سيد الموقف. فاطلق يد كل من أدعى أنه حرس قومي، لملاحقة المواطنين و إلقاء القبض علي من يشاء و ممارسة الخوف في تصفية حسابات سابقة.

كان حارث ناجي شوكت أبن خالة رفعة من الأعضاء النشطين و المتحمسين في حزب البعث، و لكنني كنت أجهل مهماته الحزبية. ساعد العائلة في جلب نصير ذات يوم من المعتقل إلى دار والده كامل الجادرجي. قال كامل الجادرجي لرفعة: قل لنصير آلا يعترف، لأنه إذ اعترف فلن يستطع أن يرى زوجته. قلة هم أولئك الآباء الذين يطلبون مثل هذا الطلب من أبنائهم، و يعرف أن ابنه ربما يموت تحت التعذيب! فقد اعدم ثمانية أعضاء من اللجنة المركزية للحزب الشيوعي، و نجا التاسع بهربه بأعجوبة من النادي الأولمبي.

و لم تنج حتى الفتيات و النساء من التعذيب. فانتزعت الاعترافات بشتى الأساليب الوحشية منهن. و القي القبض على إحدى الناشطات في الحزب الشيوعي و زوجها، الذي قتل بالتعذيب، و وضعت بجانبه لثلاثة أيام متتالية في سطح إحدى المعتقلات. اصبحا جثتين، جسد محمد أبو العيس، هامدة و أخرى إلى جانبه فاقدة الوعي من التعذيب يجمعهم مصير واحد، الخلاص من بربرية الإنسان المفترس الذي تجرد عما يميزه عن الحيوان. لم تكن تسمع المناضلة في الليل القارص إلا أنين الموت و رائحته، لكنها صَمدتْ بالرغم من التعذيب الوحشي الذي تعرضت إليه، ولم تمت بل تمسكت بالصمت و أبت البوح بأسماء من سيكون مصيرهم مثل مصير زوجها.

و وجدنا أنفسنا في وسط اللعبة الجديدة أيضا. ففي اليوم الذي تقلد به عبدالسلام عارف زمام الحكم في 8 شباط 1963 كرئيس للجمهورية، أصدر مرسوماً بتجميد أموال رفعة، و منعه من السفر خارج العراق، فكتب رفعة ورقة معنونة إلى الوزير المعني بدائرته: "اعتباري مستقيلاً" و ترك الدائرة حالاً. سحبت الحكومة الجديدة بعض المشاريع المعمارية التي كانت قد احيلت على المكتب الاستشاري العراقي، لم تكن بقيد التنفيذ بعد. بسبب موقف رفعة من عبد السلام في مجلس الوزراء، قبل الإنقلاب، عندما كان يتدخل عبد السلام في القضايا الفنية و التقنية، فكان يجيبه عبد الكريم قاسم بالقول: إن هذه القضايا فنية و كان يؤيد رفعة.

و لم اسلم أنا أيضاً من الانقلاب الجديد، فقد اعتقلت العميدة روز خدوري و حجزت في سجن النساء ببغداد، و حلت محلها الدكتورة سعاد خليل إسماعيل. لم أذهب إلى الكلية في الأيام الأولى من الانقلاب، بعد أن علمتُ أن الحرس القومي قد دخل حرم الجامعة و ألقى القبض على العميدة و عدد من المدرسات. ذهبت بعد بضعة أيام، و جلست بانتظار العميدة في غرفة السكرتيرة التي كنت اشغلها قبل أقل من أسبوع ، فوجدت أنها قد احتلت من قبل فتاة تخرجت منذ عام من فرع الفن. ثم دخلتُ غرفة العميدة الجديدة، و دار بيننا حديث قصير تميز بالمجاملة. طلبت مني أن اختار العمل الذي ارغب فيه في مكتبة الكلية، بالرغم من انعدام خبرتي بهذا الإختصاص مما كان يعني تجميداً متعمداً لي.

عن كتاب ( هكذا مرت الايام )

الصادر عن دار المدى