دخلت قسم الاعدام في سجن ( ابو غريب )

Wednesday 10th of February 2021 09:25:32 PM ,
4871 (عراقيون)
عراقيون ,

عطا عبد الوهاب

دخلت سجن (أبو غريب) الجديد ظهر العاشر من حزيران 1970 بعد ثمانية أشهر من التعذيب الجسدي والنفسي في (قصر النهاية)، وهو سابقاً (قصر الرحاب) مقر العائلة المالكة الهاشمية في بغداد حيث قتلوا جميعاً بالرصاص صباح 14 تموز 1958.

كان بصحبتي اللواء الركن عبد العزيز العقيلي، وزير الدفاع السابق وكنا مع مجموعة أخرى نقف صباح ذلك اليوم في قفص (محكمة الثورة) لسماع الأحكام. كان الحكم عليه وعلي بالإعدام شنقاً حتى الموت، وعلى آخرين بالسجن مدداً مختلفة.

كانت محاكمتنا قد استمرت جلسات عديدة، ثم أجلت لصدور الأحكام. وعلى خلاف العادة طال التأجيل أمداً غير معتاد. وشعرنا أنهم حائرون في تقرير الأحكام، لأن المحاكمات كانت قد فشلت في إثبات إدانتنا بشيء. وعلمنا في ما بعد أن رسائل قد وجهت من الإذاعات الخارجية تتحدى السلطة، فاستفزتهم، فسارعوا إلى إصدار الأحكام.

تليت علينا الأحكام فأخرجونا من القاعة بغلظة. ساقونا، أنا وصاحبي، إلى سيارة مسلحة، وهناك أرادوا تكبيل أيادينا بما يسمى (الكلبجة) (ويطلق عليهم اسم الجامعة) فلم يجدوا ما يلبي رغبتهم. عندئذ شدوا أيدينا من الخلف بالحبال.

وهكذا دخلنا غرفة مأمور السجن في أبو غريب. قال هذا: آتوهما بملابس السجن. فجاؤونا بسراويل من قماش الجوت الذي يسمى (كونية) ، وكانت عريضة جداً، رفضوا إعطاءنا دبابيس أو ما أشبه لتثبيت السروال على الخصر. كان أحدنا يسير متعثراً وهو يمسك السروال بيديه من الجانبين لئلا يسقط إلى الأرض. في تلك اللحظة تذكرت ما كتبه وليم شيرر عن سقوط الرايخ الثالث حين سيق الجنرالات الألمان من المحكمة إلى ساحة الإعدام بسراويل عريضة جداً إمعاناً بالإمتهان، فكانوا يسحلونها سحلاً حذر سقوطها وتعريتهم.

بذلك الزي دخلنا قسم الإعدام، ويسمى (القاووش)، وهو كبير بطابقين، وذو زنزانات متعددة كثيرة، انفرادية، تعج بالمجرمين. وبحثوا عن زنزانات فارغة، فإذا بالزنزانة رقم (1) والزنزانة رقم (2) فارغتان. أدخلوا صاحبي في الأولى، وأدخلوني في الثانية، وأغلقوا من خلفنا الباب. ما أن دخلت، وخلعت السروال المهين، حتى سجدت على الأرض سجدة الشكر إلى الله الذي نجاني من جحيم قصر النهاية، انتظاراً لما قدره لي من مصير. فطال مكوثي في تلك الزنزانة خمس سنوات ونصف صدر بعدها مرسوم بتخفيض حكم الإعدام إلى الأشغال الشاقة المؤبدة !

في تلك الليلة نمت (بالثوب واللباس) على الأرض، وهو أمر يهون في الصيف! لم يكن في الزنزانة نافذة، إنما فيها مرحاض مفتوح ، وهذا يسهل قضاء الحاجة. وفي صباح اليوم التالي فتحت أبواب الزنزانات كلها من دوننا. قالوا لنا : هذا هو التقليد المتبع مع النزلاء الجدد مدة بضعة أيام ، فاصبروا.

مضت بضعة أيام على وجودنا في ذلك المثوى الإنفرادي الجديد ، وأخذوا بعدها يفتحون لنا صباحاً أبواب زنزاناتنا كما يفعلون مه النزلاء الآخرين . هناك ساحة خارجية ترابية ملحقة بالقسم يجوز خلال ساعة الفسحة الصباحية المشي فيها للتريض . أخذت أحرص على تلك الرياضة يومياً ، فأسير وحدي ، وأفكر . وذات يوم ، وإذ أنا أسير وحيداً جال في خاطري ما يشبه بيت الشعر : كان لي في قرية المجد ... وهكذا ولدت قصيدتي الأولى هناك بعد ما يزيد على سنتين من السكن في ظل المشانق التي كانت عاملة باستمرار.

ثانياً : قرية المجد كان لي فيقرية المجد صحاب وخمائل ونجوم تلد الضوء لأخرى .

ومشاعل وكروم يقف الدهر على صهبائها وفقة سائل وهموم لا تعي في رحلة الفخر سواحل

وجياد لبست من قصب السبق جدائل أين مني قريتي؟ أطلالها أضحت زوائل

الأماسي خوال ...

والأناسي رواحل قريتي! لم يعد يطرقها في خلوتي حلو الشمائل بل رسل من زمن نغل محنى برذائل!

أين مني صاحبي؟ والوصل فينا متواصل

صاحبي! ذاك الفتى المدلج في ليل خرافي الحبائل

شاخص الرسم، ولكن صدى إيقاعه الغائب زائل

المعنى . المغنى في دروبي . المكنى بالجلائل سرمدي السمت غربي المسافات وشرقي الفضائل قرية المجد . سفت ريح سواقينا ففاتتك القوافل

بابك المشرع مقطوع الخطى . والبئر عاطل

طمك الصمت ، فلا تشدو سوى خرس البلابل

واصطفاك القلب النوء برعد لمعي الضوء ، والأرض زلازل ها هنا ، يا قريتي ، الأحراش قتلى ، ووحوش الليل تعوي ،

والعصافير ثواكل.

عجباً يا قرية المجد ! ألا يشغل بال الدهر شاغل ؟

عجباً يا قرية المجد ! ألا تقرع آذان الورى قولة قائل ؟

عجباً يا قرية المجد ! ألا تمتد في الساحة إلا يد قاتل ؟

أنتِ مثلي : قمري في أفق القطب ، وليلي متطاول

مقفر الروح . كسير الدوح . مشدوه المحيا . متسائل . أوحد اللوعة . مكفوف الكرى – مبهم المهجة . مشكاة نوازل .

آهل القاع بأشجان كقاع البحر بالمرجان آهل

أجنبي المنتدى :

لا القيد مكسور ولا الحتف يعاجل.

عن كتاب سلالة الطين