في العشرينيات..الدراسة في الجامعة الامريكية في بيروت بين أنصارها وخصومها

Sunday 14th of March 2021 09:08:01 PM ,
4897 (ذاكرة عراقية)
ذاكرة عراقية ,

د . منار عبد المجيد عبد الكريم

تباينت آراء الطلبة العراقيين حول الجامعة الأمريكية في بيروت في العشرينيات من القرن الماضي كل حسب طبيعة مستواه العلمي، فالطلبة الذين تفوقوا علمياً في الجامعة وصفوها وصفاً حسنا ، في حين الذين لم يحالفهم التوفيق وصفوها وصفا سيئا لا يخلو في اغلب الأحيان من انفعالات نفسية غير محسوبة في وقتها.يقول الدكتوراحمد سوسة عن الجامعة الأمريكية في بيروت:

«أن محيط الجامعة الأمريكية محيط يبعث روحاً جديدة يتشرب بها التلميذ من أساتذته خلال دراسته هي روح الديمقراطية الحقة المقرونة بالعمل المستمر روح يتدفق فيها ينبوع الطموح للتبحر في العلوم...ان الجامعة الأمريكية ترشد الطالب إلى كيفية الدراسة وتهديه إلى الطرق الأساسية التي يتوصل بها إلى المعرفة والثقافة بلا مدرس ولا دليل يعتمد الطالب على نفسه في عمله، لا ينتظر معونة من الغير...أنها ليس بالجامعة المستبدة التي تريد ان يترك تلامذتها العرب وان يهجروا لغتهم وتراثهم بل تشجعهم على حب أوطانهم وتغرس فيهم الثقافة الحرة والروح الديمقراطية، تعلمهم حقيقة الحياة الحرة والوحدة السياسية...أن الجامعة الأمريكية تحترم كل الأديان وتمنح الحرية المطلقة لتلامذتها ان يمارسوا طقوسهم الدينية...”.أما الطالب المسيحي مجيد خدوري، فقد وثق لنا ذكرياته عن الجامعة بهذا الشكل:”أما الطريقة التي كانت الجامعة الأمريكية تتبعها، فقد كانت تؤكد الموضوعية لا في العلوم الفيزيائية وحسب بل في العلوم الاجتماعية أيضاً...كانت لدينا حرية اكبر في اختيار المقررات الدراسية...».

بالمقابل، كان هناك طلاب عراقيون قد تحاملوا كثيراً على الجامعة لأسباب عديدة، أبرزها أنهم لم يوفقوا في اجتياز الدراسة فيها، الأمر الذي دفعهم الى ان يشنوا حملات إعلامية ضدها، مستغلين الصحف العراقية الصادرة يومذاك لنشر ارائهم بهذا الخصوص. فقد استغل الطالب عبد الرزاق الظاهرعلاقاته الشخصية مع القيمين على جريدة” النهضة” لسان حال حزب” النهضة العراقية”، فقام بنشر مقالاته التي هاجم فيها الجامعة الأمريكية بحجة انه طغى عليها” النزعة التبشيرية”، ومستواها العلمي ضعيفاً . لنقرا سوية ماذا كتب الظاهر عن الجامعة بهذا الشأن:

«ان الجامعة الأمريكية مؤسسة من مؤسسات الأمريكان، وهي لا تختلف عن سكان المؤسسات التي تديرها الجمعيات التبشيرية والتي تمولها الدول الأوربية بالمال والنفوذ ...فأذن لابد ان يكون غايتها استعمارية... ولايعقل مطلقاً ان تكون الغاية نزيهة ... غايتها نشر ثقافة الامس التي تنتمي اليها ... وبث الدعاية الدينية...وتسميم أفكار النشء وتربيتهم تربية ناقصة، ملقية في روعهم أشياء كثيرة من خرافات القرن العشرين كالقومية والأممية وغيرها من النظريات الخطيرة التي يجب مكافحتها اشد الكفاح من الشبان المسلمين».

لم يكتف الظاهر بذلك، فقد وصف الجامعة في المقال ذاته بأنها” جرثومة حضارية استعمارية، ونقطة سوداء قذرة يجب استئصالها، فنحن في عصر المدنيات، في عصر النور والحرية ولسنا في عصر التبشير وأغراء الشباب بترك أديانهم او زعزعة معتقداتهم القومية والدينية».

ينبغي ان نشير هنا الى، ان هذا الرأي قد كتبه الظاهر في عز شبابه، اذ كان عمره 21 عاماً، اغلب الظن ، انه كتبه بانفعال عاطفي لا باندفاع علمي، ولاسيما ان هذا الانفعال كان نتيجة اصابته “بمرض عصبي “ خلال دراسته في الجامعة، وقد دخل على اثره “ مستشفى عقلي في بيروت “ طبقا لما جاء في وثيقة بريطانية. مع العلم، ان الظاهر قد تراجع عن انفعاله اللامسؤول باتجاه الجامعة بعد ان صهرته الحياة وتجاربها المريرة، اذ دون في مذكراته التي أوصى بنشرها بعد وفاته، هذا الرأي بخصوص الجامعة الأمريكية في بيروت:

«ساهمت الجامعة كثيراً في نشر العلوم والثقافة لجيل من المواطنين في لبنان وسوريا وفلسطين والعراق ... أسهمت في أنشاء جيل من المثقفين منهم أصحاب المقتطف والهلال وخصوصاً من أخواننا أبناء الطوائف المسيحية العربية في لبنان وسوريا وفلسطين. ويعود أليهم الفضل في نقل الكثير من الكتب الأدبية والعلمية الى اللغة العربية وجهدهم مشكور في خدمة الثقافة العربية بأوسع معانيها» )

لم يكن عبد الرزاق الظاهر وحده، من المتحاملين على الجامعة، فقد وافقه في الرأي زميله عبد المجيد القصاب الذي كان” شخصية فيها نوع من عدم الاتزان وذي مزاجية” كما وصفه البريطانيون ، فقد وصف الجامعة” بالمخازي” ، و “المهازل”، وأنها تضلل الشرق عموماً ، والعرب خصوصاً بان الغاية من تأسيسها هو خدمة “العرب والعلم والحرية”. وختم مقاله ببيت شعر نصه:

لا يغرنك ما ترى من رجال أن تحت الضلوع داءا دوياً

ويبدو، ان القصاب قد تراجع هو الاخر عن رايه ، بدليل انه ارسل ولده تغلب للدراسة في الجامعة الامريكية في بيروت في خمسينيات القرن العشرين.

وفي السياق ذاته، دعا طالب أخر العوائل العراقية بعدم إرسال أبنائها إلى الجامعة الأمريكية في بيروت، لان بيروت “ بيئة منحطة” ، إذ” يجتمع” فيها “ أقذر عناصر الحياة الغربية” ، وان ادعاء القيمين على الجامعة بأنها” معهد علمي لا دخل للدين فيه، فهذا هراء محض”. وقد كتب طلبة آخرون مقالات لا تخرج في سياقها عن هذا التحامل.

ومما يلفت النظر ، ان بعض اعضاء مجلس النواب العراقي قد تبنوا الاراء المتحاملة على الجامعة الامريكية ، فقد اعترض احمد الجليلي نائب الموصل بشدة على اجراء الجامعة بأجبار الطلبة على الدخول للكنيسة . لنتابع معا ماذا قال الجليلي بهذا الخصوص:

«ان الجامعة الامريكية في بيروت تجبر الطلاب المسلمين على دخول الكنيسة والصلاة بها وهذا يعد عملا فيه امتهان لكرامة الدين الاسلامي وبه مساس للشعور ومنافي لابسط القواعد الحديثة التي يزعمها مؤسسو الجامعة انفسهم، واذا الجامعة لايمكن ان تعمل كما هو حق خوفا من الاعانات التي تأتيها من امريكا افلا يجب البحث عن غيرها من الجامعات الراقية وارسال التلاميذ اليها صونا من كل ما يمس او يضعف شعورهم الوطني».

وتجدر الاشارة الى، ان كلام الجليلي، كان عبارة عن سؤال وجهه الى عبد الحسين الجلبي وزير المعارف يومذاك، حيث اجابه الاخير بأن “الصلاة الاجبارية في الكنيسة قد الغيت منذ عهد ولاية جمال باشا على سوريا خلال الحرب العالمية الاولى»

ويبدو، ان جريدة” النهضة” قد تقصدت بنشر آراء المتحاملين على الجامعة وعدم السماح بنشر الآراء المؤيدة لمسيرة الجامعة، وبهذا الحال فان الجريدة قد فقدت حياديتها ومهنيتها وموضوعيتها على اقل تقدير.

بالمقابل ، نشرت جريدة “العراق” اراء الطلبة الذين دافعوا عن الجامعة ، فقد نشرت اكثر من مقال للطالب علي حيدر الجميل الذي أكد فيه على أن خدمات الجامعة كانت خدمات “ سامية”، وقد خرجت العديد من الطلاب “ المشبعين بروح العلم والتهذيب الصحيح”، الامر الذي جعل الطالب ان يزداد “ علماً وثقافة وأخلاقاً”. مع العلم، أن الطالب رزوق غنام قد فند ما قاله زميله الظاهر بخصوص الجامعة جملة وتفصيلا.

ومهما تكن الآراء بخصوص الجامعة، سواء المؤيدة او المعارضة لها، فان الجامعة كانت تمثل “ المعين” ، و” المنبر الذي غذى الحركة الفكرية بين الشباب العراقي “على حد تعبير طالب عراقي كان يدرس في الجامعة دون أن تكون له أية ميول سياسية يمينية أو يسارية الأمر الذي جعلنا أن نكون أكثر اطمئناناً لرأيه.

عن رسالة ( الجامعة الامريكية في بيروت واثرها على الفكر السياسي في العراق الملكي )