بتهوفن… العبقرية والمعاناة: عالم قاسٍ من الصمت ينتهي بـ أنشودة الفرح

Tuesday 16th of March 2021 09:32:02 PM ,
4899 (منارات)
منارات ,

زيد خلدون جميل

لم يقدم أحد في التاريخ للموسيقى بقدر ما قدمه بتهوفن، وتعتبر سيمفونية التاسعة أكثر قطعة موسيقية عزفت في الحفلات الموسيقية الكلاسيكية في التاريخ، حتى إنه تم اختيارها لتكون السلام الوطني للاتحاد الأوروبي، بناء على اقتراح قدّم عام 1955 لتمثيل أوروبا.

ولم يكن الاهتمام بهذه السمفونية محصورا على الغرب وحسب، بل إن الدول الشيوعية خلدتها أيضا، فالاتحاد السوفييتي مجدها وكأنها السلام الجمهوري السوفييتي، وحتى الصين الشيوعية عندما كانت في خضم الثورة الثقافية التي كان من أهدافها القضاء على الرموز الثقافية للغرب، كانت هذه السمفونية إحدى المقطوعات الموسيقية النادرة التي سُمح بعزفها.

ألف بتهوفن مقطوعته الأولى في سن التاسعة عشرة في بون، ثم انتقل إلى فيينا عام 1792 حيث قضى أغلبية حياته، وألف هناك أشهر مقطوعاته الموسيقية. وبعد فترة قصيرة من وصوله إلى فيينا سمع بوفاة والدته التي أحبها بشغف، فعاد فورا إلى بون حيث وجد والده وقد غرق في إدمان الكحول، ولإنقاذ الموقف أقنع حاكم المدينة بإعطائه نصف مرتب والده كي يستطيع إنقاذ العائلة ماليا، وكذلك عمل في فرقة الأوركسترا المحلية للحصول على بعض المال. ولكن هذا لم يدم طويلا حيث توفي والده أيضا، فعاد بتهوفن إلى فيينا ودرس موسيقى موتسارت وتتلمذ هناك على يد أشهر موسيقيي عصره، خاصة الموسيقار جوزف هَيدن (1732 ـ 1809) وأنتونيو سالييري (1750 ـ 1825) واتاحت هذا الفرصة له دراسة جميع أنواع الموسيقى آنذاك. وكان تأثير موزارت واضحا على إنتاجه الموسيقي المبكر قبل أن يتطور بسرعة ليكون منهجا جديدا، اعتبر ثورة في عالم الموسيقى، وألف سيمفونية الأولى عام 1800. وفي فيينا كانت شهرة بتهوفن تزداد، ولكن معاناته أخذت منحى آخر.

رحلة المعاناة

عندما كان في أواسط العشرينيات أخذت تنتابه نوبات من المغص الحاد، لم يعرف أحد سببها. وكان يعاني كثيرا بسبب انكبابه على العمل إلى درجة أنه عندما كان يشعر بالنعاس كان يغمس رأسه في ماء بارد كي يبقى مستيقظا ليواصل العمل. وعرف بتهوفن في البداية كعازف للبيانو وبإيمانه بقدراته الموسيقية واعتداده بنفسه، فقد كان يتوقف عن العزف أمام الجمهور في منتصف القطعة الموسيقية ويخرج من القاعة بغضب، إذا شعر بأن الجمهور غير مهتم تماما بعزفه. عندما أصبح بتهوفن في نهاية العشرينيات اكتشف أن سمعه أخذ يضعف وأخذ يسمع أزيزا متواصلا واستمر سمعه في التدهور حتى فقده تماما عام 1812، وكان لهذا أثر بالغ على حياته ماديا واجتماعيا، فقد أخذ يجد صعوبة في عزف البيانو، كما انه أصبح يتكلم بصوت عال، ما جعل البعض يعتقد أنه أصيب بالجنون، وأخذ الناس ينفرون منه لأنه لا يتكلم معهم أو يجيب على أسئلتهم، بدون أن يكتشفوا السبب الحقيقي لذلك، والذي كان عدم سماعه لهم، كما ازدادت نوبات الغضب التي امتاز بها. ولكن بتهوفن لم يسمح لهذه المشاكل أن توقفه عن التأليف والإبداع، وكان طموحه أن يكون الأفضل في العالم وبالفعل فقد فاق نجاحه كل التصورات.

الحب المفقود

لكن بتهوفن فشل في تحقيق هدفا كان بالنسبة له في غاية الأهمية، ألا وهو العثور على امرأة تحبه وتقدره ليتزوجها وهذا ما فشل فيه تماما. وقد تم العثور على رسائل له موجهة إلى «الحبيبة الأزلية» التي بقيت هويتها مجهولة، وفشلت جميع محاولات المؤرخين لمعرفة تلك «الحبيبة»، وهناك نقاش حام حولها. وقد تكون هناك عدة أسباب لفشل بتهوفن في حياته العاطفية، ففقدانه للسمع وأمراضه الأخرى وسوء حالته المادية والنفسية كانت تنفر النساء منه، ومما زاد الطين بلة شخصيته البالغة التوتر التي كانت مشكلته منذ طفولته. وأصبح تجاهل النساء له معاناة مؤرقة تغلغلت في أعماقه.

الفنان الأعظم

كان بتهوفن من المتعاطفين مع مبادئ الثورة الفرنسية التي اندلعت عام 1789 وتعاطف بعد ذلك مع نابليون حتى أنه كاد أن يهدي سيمفونية الثالثة له، ولكنه عدل عن ذلك. وعندما قام جيش نابليون بقصف فيينا عام 1809 وكان وقع القصف قاسيا على بتهوفن، لجأ الى السرداب وغطى أذنيه بالوسائد كي لا تؤذيها أصــــوات الانفجــــارات. لم يكن بتهوفن سعـــــيدا بالاحتلال الفرنسي لفيينا (عاصمة الموسيقى العالمية آنذاك). وعندما طلب منه أحد الأمراء الذيـــــن كانوا يساعدونه ماليا أن يعزف أمام مجمـــــوعة من الضباط الفرنسيين رفض بتهوفن الطلب بحدة، وقـــال للأمير غاضبا إن الأمراء كثيرون لأنهم أمراء بالولادة، وأما بتهوفن فإنه فنان عظيم ولا يوجد مثيل له وخرج غاضبا.

عالم صامت وموسيقى صاخبة

استمر بتهوفن في التأليف، على الرغم من ازدياد مشاكله الصحية والاجتماعية وأصبحت موسيقاه خير تعبير عن آلامه المبرحة، فقد كان غير قادر على السمع ومصابا بالحمى الروماتزمية والتيفوس ومشاكل جلدية والتهاب في شرايين القلب واليرقان والتهاب مزمن في العيون والتهاب الكبد الفيروسي وتشمع بالكبد وتسمم بالرصاص، الذي قد يكون سببه الأدوية التي كان الأطباء ينصحونه بتناولها. وفكر جديا بالانتحار عندما كان في الخامسة والثلاثين من عمره فعالمه يزداد صمتا وحالته الصحية تسوء، ولكنه لحسن الحظ غير رأيه واستمر في تأليف الموسيقى.

أنشودة الفرح

في عام 1817 طلبت جمعية لندن الموسيقية من بتهوفن تأليف سيمفونية التاسعة، والمعروفة بـ«أنشودة الفرح» واستطاع أن ينتهي منها عام 1824. وقام بابتكار شكل جديد من الموسيقى في هذه السمفونية، حيث صاحب جزءها الأخير غناء من قبل أربعة مغنيين وفرقة إنشاد، كما جعل موضوعها الأخوة بين البشر. وكان النص الذي اختاره بتهوفن بنفسه، والذي أنشدته فرقة الإنشاد من تأليف الشاعر الألماني فريدريك شيلر. وأراد أن يكون العرض الرسمي الأول للسيمفونية في برلين عوضا عن فيينا لعدم رضى بتهوفن عن الذوق الموسيقي الذي كان سائدا في فيينا، ولكنه عدل عن رأيه وقرر عزفها في فيينا بعد أن طلب الكثيرون منه ذلك.

وجمع بتهوفن أشهر الموسيقيين والمغنين في فيينا لذلك العرض ولدى المؤرخين أسماء أغلبيتهم. ولكن العقبة الحقيقية كانت في كونه غير قادر على السمع، ما جعل من المستحيل بالنسبة له قيادة فرقة سيمفونية ضخمة. ولحل هذه المعضلة، طلب بتهوفن من قائد معروف للفرق السمفونية مساعدته، ولذلك فقد قاد العرض الأول بتهوفن وذلك القائد معا، أما قاعة العرض فقد كانت مكتظة بالجمهور. وكان ذلك العرض مرهقا جدا بالنسبة لبتهوفن الذي كان قد قاد الفرقة كالمجنون وكأنه يريد أن يعزف كل آلة موسيقية بنفسه. وما ان أنهى بتهوفن العرض حتى نهض الجميع مصفقين بحماس غير مألوف حتى بالنسبة للمعجبين بالموسيقى الكلاسيكية وببتهوفن نفسه، ولكن ماذا عن بتهوفن في خضم هذا كله؟ لقد كان الرجل يواجه الفرقة الموسيقية غير مدرك بما كان يدور وراءه لأنه ببساطة لم يسمع تصفيق وصياح الجمهور. ولحسن الحظ أنقذت إحدى مغنيات الأوبرا الموقف ولمست بتهوفن لتديره نحو الجمهور وكانت صدمة الموسيقار العظيم كبيرة فقد فاجأه ذلك التصفيق والاستقبال الحار، وإذا كان غير قادر على سماعه فإنه كان على الأقل قادرا على مشاهدته، فانهار باكيا.

انتهت الكوميديا

في شتاء عام 1827 وأثناء رحلة خارج فيينا أصيب بتهوفن بالتهاب رئوي حاد وأجريت له عملية جراحية، ولكن مكان الجرح التهب ما أدى إلى نكسة صحية حادة وشعر بتهوفن بدنو أجله فكتب «صفقوا يا أصدقائي، فقد انتهت الكوميديا». ودخل في غيبوبة يوم الرابع والعشرين من مارس/آذار 1827، وبعد يومين وفي الساعة السادسة إلا ربعا مساء توفي أثناء عاصفة رعدية. بقيت جثة بتهوفن في المنزل يومين بعد ذلك وكان يأتي بعض الأصدقاء والكثيرين من المتطفلين الذي قطعوا الكثير من خصلات شعره الذي كان كثيفا وطويلا للاحتفاظ بها حتى لم يبق سوى القليل منه. وقام أحد المختصين بعد ذلك بتشريح الجثة لمعرفة سبب فقدان بتهوفن لسمعه وكذلك سبب وفاته قبل أن يشيع الجثمان إلى مثواه الأخير في جنازة حضرها عشرون ألف شخص. رحل بتهوفن، لكنه سيظل حيا وسيبقى لفترة طويلة بقدر عذاباته.