الشاعر الجواهري واحداث مايس 1941

Sunday 21st of March 2021 08:59:04 PM ,
4903 (ذاكرة عراقية)
ذاكرة عراقية ,

عباس غلام حسين

تميز الوضع السياسي في العراق قبيل الحرب العالمية الثانية بالقلق الشديد بعد وفاة الملك غازي في حادثة السيارة إذ اتهم الرأي العام العراقي بريطانيا بتدبير أغتيال الملك غازي الذي أثارت مواقفهِ بشأن الكويت وفلسطين غضب البريطانيين.

أصبح عبد الاله بن علي وصياً على الملك فيصل الثاني بعد وفاة الملك غازي وذلك في 4نيسان 1939 وتزامن ذلك مع تطور الأحداث العالمية اذ أعلنت بريطانيا الحرب على ألمانيا في 3أيلول 1939 مما أدى الى اضطراب الحياة السياسية والاقتصادية في مناطق مختلفة من العالم ، ففي العراق أصبحت الأوضاع التجارية والمالية غير مستقرة مع احتكار للمواد الغذائية، وجاء أعلان من الحكومة بان الموقف العالمي خطير جداً .

إزاء ذلك أعلنَ العراق قطع علاقاته مع ألمانيا وتسفير جميع رعاياها من العراق ، وتبادل الوصي مع لندن البرقيات مؤكداً الالتزام بمعاهدة عام 1930، وفي هذه الأثناء كان نوري السعيد على رأس الوزارة الثالثة في 6نيسان 1939 التي أجرت تعديلاً في الدستور ، فقام بتصفية العناصر التي لم يكن مرتاحاً اليها على رأس الجيش وأعادَ تشكيل الوزارة في 22 شباط 1940 ، ولكن سرعان ما سقطت نتيجة للخلافات بين اعضائها ، اذ كان التناحر واضحاً بين تيارين الأول يدعو الى الوقوف الى جانب الحليفة بريطانيا في الحرب وقطف ثمار نجاحها المتوقع والثاني هو التيار القومي الذي دعا للوقوف على الحياد بانتظار نتائج الحرب.

اختيرَ رشيد عالي الكيلاني لتأليف الوزارة في 31 آذار 1940 وقامَ بأعمال جيدة في بداية حكمه فألغى الاحكام العرفية واطلق سراح عدد من السجناء السياسيين وأصدر تعليماته الى الدوائر يحثهم على العمل لخدمة الشعب ، وتقدم العمل في مشروع الحبانية ، واعاد انتاج النفط الى حالتهِ الطبيعية منذ ان تعطل شهراً في أيلول 1939 ، فضلاً عن تشجيع الزراعة ، وأكد أيضاً أن نهج وزارته قومي عندما صرح أمام المجلس النيابي في 21 كانون الأول 1940 بأن حكومته ستستمر في أداء الرسالة القومية التي سار عليها العراق فضلاً عن الوقوف على الحياد وعدم الانجرار نحو الحرب وانتظار نتائجها، وقد أشارت الحكومة البريطانية على الوصي بإقالة الوزارة الكيلانية خوفاً من اشتداد الأزمة بين البلدين ، وذلك عندما لاحظت بريطانيا أن الأمور تسير لغير صالحها ولاسيما من جانب الحكومة العراقية التي تميزت بالطابع القومي ، فأرسل الوصي إشارة الى رئيس الوزراء بأن أستقالتهُ مرغوب فيها بعد ان دب الخلاف بين وزير الخارجية نوري السعيد ووزير العدل ناجي شوكت.

أرادَ الكيلاني حل المجلس النيابي وطلب الى الوصي إصدار الإرادة الملكية بحلهِ الا أن هروب الوصي الى الديوانية حال دون ذلك مما حمل الكيلاني الى تقديم استقالة وزارته ، وانِيط الى طه الهاشمي تشكيل الوزارة الجديدة التي لم تستمر هي الأخرى حتى حُملت على الاستقالة في نهاية آذار 1941 ، فتشكلت على إثر الفراغ السياسي في العراق حكومة الدفاع الوطني برئاسة رشيد عالي الكيلاني إثر انقلاب عسكري قادهُ العقداء الأربعة إن صح التعبير وتمخض عن هروب الوصي الى البصرة لحشد التأييد لإسقاط حكومة رشيد عالي الكيلاني التي اختارت الشريف شرف وصياً على عرش العراق بدلاً من عبد الأله.

أزاء هذهِ التطورات لم يتخذ التيار الديقراطي الإصلاحي موقفاً سلبياً من قيام حكومة الدفاع الوطني وما لحق بها من تطورات ، فكان الموقف في الغالب مسايراً مع بوادر الترحيب والتأييد لهذهِ الحركة وظهر ذلك الموقف جلياً في صحفهم أمثال مجلة المجلة ، فضلاً عن جريدة الرأي العام التي كانت محسوبة على ذلك التيار وهي التي يصدرها الجواهري كما هو معلوم التي عدت “وثبة الجيش انتصاراً للأمة” نشرت جريدة الرأي العام برقيات التأييد للحكومة الكيلانية من جميع أنحاء البلاد ومن هذا نستكشف ان الجواهري قد ساند الحركة ورحب بها وتعاطف مع مواقفها والدليل على ذلك أنه بعد أن قامت العمليات الحربية في 2مايس 1941 ، وقيام القوة الجوية البريطانية بقصف القوات العراقية جوار الحبانية هرب الجواهري الى إيران بعد أن تأكد له أن بغداد ستخضع لقوات الاحتلال البريطاني وأن حكومة الكيلاني بحكم المنتهية وكانت مغادرة العراق بعد هروبه اولاً الى النجف ، لذا عزا الكثيرون هذا الهروب الى تأييد الجواهري للحركة .

ومع كل هذا يصح القول أن موقف الجواهري قد تغير قبل هروبه المذكور حال شعورهِ ان حكومة الكيلاني انحازت صوب المانيا واتخذت موقفاً معادياً للحلفاء ،وعّدَ الجواهري ذلك انتصاراً للنازية وخروجاً عن الحياد وكذا الأمر بالنسبة لإيطاليا الفاشية إذ كان الجواهري يكن لكلا الحركتين النازية والفاشية كرهاً عميقاً لكونهما تمثلانِ أعداء للبشرية ، وهذه الأسباب وغيرها جعلت من الجواهري في نهاية الأمر ان يأخذ موقفاً سلبياً .

وبعد انتهاء العمليات العسكرية في العراق وسيطرة بريطانيا على العراق واحتلالها ثانية ، عادَ الجواهري الى العراق وقد تلقى عدة انتقادات ومضايقات إثر فشل الحركة بعد تأييدهِ السابق لها وبعد أن شكل جميل المدفعي وزارته الجديدة في 2حزيران 1941 وطردت فلول حركة مايس والضباط القوميين ، كان الجواهري كعادته من بين الذين كانت تطاردهم سلطات الحكومة الجديدة ، وبهذا الصدد ذكر الجواهري ان التهمة التي وجهت اليه انهُ كتب قصيدة يحث فيها الشعب العراقي على مواصلة الصمود ضد الحلفاء وقد اذاعها يونس بحري من اذاعة برلين القسم العربي وبعد ذلك تبين أن هذه القصيدة هي القصيدة التي القاها الجواهري سابقاً في ذكرى ثورة العشرين.

ومن الجدير بالذكر أنه حال عودة الرأي العام للصدور إثر انتكاسة الحركة كتبَ الجواهري مقالاً داعياً فيه الى وحدة العناصر الديمقراطية في جبهة سياسية موحدة ، ومكافحة “أعوان النازية” مكافحة صارمة .

ليس هناك شك من ان هذهِ المتغيرات الكبرى في العراق وخارجه وأثر انتكاسة الحركة أصبح موقف الجواهري واضحاً في الصاق التهم بها والكيل منها، وابعاد أي اتهام وجه إليه بتأييد هذهِ الحركة ودفع ذلك قدر الإمكان عن شخصهِ ، ولهذا بدأ يؤكد رفضه لتأييد رشيد عالي لصلتهِ بالنازية ، ورفض تأييد حكومة موالية لبريطانيا بعد احتلالها العراق فيقول في مذكراته مانصه “القادمون على أنقاض الكيلاني كانوا يسعون ورائي ويضايقونني بمثل ما ضايقني الكيلاني ، ولم يكن ثمة بدّ من الإفلات ، الكيلاني اراد فيّ قريضاً وغرماؤه يريدون جريدة الرأي العام، ذاك أرادني أن أبارك على نحو غير مباشر النازية مستغلاً غضبي على بريطانيا وهذا يريدني مادحاً له في ظل الحراب البريطانية مستغلاً كرهي للنازية.

ليس غريباً بعد تجارب كثيرة في ايام الثلاثينات المرّة واكتوائه بانقلاب بكر صدقي أن يعمد الجواهري الى توخي الحذر متجنباً “حياة المقارعة” وذلك رغم تأييد غيرهِ من الشعراء لهذهِ الحركة واعتبارها ثورة على الاستعمار فلم يكتب الجواهري الشاعر رغم الحريات السياسية المذكورة في وقت ما بعد الحرب العالمية الثانية أي قصيدة لا لبريطانيا ولا للحكم العراقي الموالي حتى نهاية عام 1945 اذ وجدَ طريقة جديدة لكتابة الشعر التقدمي وتجنيب مضايقات الحكومة والسفارة البريطانية في الوقت نفسه . ففي اواخر عام 1941 بعد صمت طويل بدأ بكتابة “القصائد للاتحاد السوفيتي “وبمعنى آخر “القصائد السوفيتية” في تمجيد بطولات الشعوب السوفياتية في مقاومة النازية وأضاف اليها قصائد في الرصافي والمعري والأفغاني ويافا بحيث تجمعت لديه حتى عام 1945 مجموعة من القصائد في موضوعات تقدمية أو وطنية عامة تنال رضا الجماهير والأحزاب المعارضة بحيث لاتغضب النظام والسفارة كما ذُكرَ سابقاً ، فيما يتحدث التكريتي في كتابة “حكايات مع ادباء” عن كتابة الجواهري قصيدته “يراع المجد” أولى قصائده السوفيتية فيذكر في مطلعها كان الأصل “جَدَع المشرق أنف المغرب ... وأصطلى الطاغي بنيران الأبي” لكن قبل المباشرة بطباعة القصيدة ، وثب الجواهري نحو الحروف المصفوفة ، فأبدل الشطر الأول من البيت الأول بقوله: “جَدَعَ الجبار أنف المعجب” هتف به التكريتي عن فعلتهِ مشيراً إليه بأن البيت في منتهى الضعف فردَ عليه الجواهري “ليس شغلك انه شغلي أنا” وقال له وما هو شغلك فرد عليه الجواهري “أخشى أن ينزعج الحلفاء من كلمتي “المشرق والمغرب” فيقول لم أعرف السبب ولكن أرجع ذلك االى انتهازيتهِ وتذبذبهِ ، وربما خوفه من ان تمتد يد السفارة البريطانية فتعطل صحيفتهِ . لهذهِ الأسباب وغيرها جعلت من الجواهري يواصل عمله الصحفي على هذهِ الشاكلة ، ولم يتوارى حتى كانت له مواقف في نواحي أخرى منها اجتماعية واقتصادية وتعليمية.

عن رسالة (محمد مهدي الجواهري ودورهُ السياسي في العراق)