المواطن الإنكليزي ومدير الأمن الشهيد..توماس مور رجل كل العصور

Tuesday 30th of March 2021 09:24:19 PM ,
4911 (منارات)
منارات ,

عواد ناصر

وقف الكاردينال جون مورتون أمام ضيوفه، متكئاً على حافة طاولة الطعام، ليقول لضيوفه: “إن هذا الصبي سيكون ذا شأن عظيم”، وهو يشير إلى وصيفه الصغير توماس مور عام 1490. وهذا ما صار عليه ذاك الصبي، نحيف البنية، الغارق في تأملاته المبكرة وأسئلته التي تكبره عمراً وشروده الذهني وهو ينظر إلى نقطة مضيئة في أفق بعيد.

لم يكن ذاك الشاب يهتم بمظهره ولا يولي ملابسه أهمية تذكر ولم ينشغل بما يشغل أقرانه المراهقين من لهو وملذات وكأنه منذور للقضية الكبرى: قضية الإنسانية، منذ صباه.انخراطه في سلك الرهبنة قربه من الله كأمر، عنى له، التقرب من فكرة العدالة، رغم تأرجحه بين منطقين: اللاهوت والعلم.

أما أبوه المحامي الناجح فأراد له السير على خطواته ليكون محامياً ناجحاً، هو الآخر، فدرس القانون بشغف الباحث عن العدالة والمرافع أمام القضاة مدافعاً عن الأبرياء وإحقاق الحق، وهذا ما صار عليه في عمر مبكر لينال عضوية أعرف برلمانات العالم، البرلمان الإنكليزي، وهو في السادسة والعشرين من عمره، ليخوض أول معاركه مع أكبر وأخطر خصم في الدولة: الملك هنري السابع الذي تقدم بطلب إلى البرلمان يمنحه مبلغاً من المال بمناسبة زواج ابنته، فنال أول عقوبة ملكية في حياته: سجن الأب ودفع غرامة مالية قدرها مئة جنيه، مع جملة من المضايقات الشخصية له ولوالده من جانب البلاط.

لم يفت هذا في العضد الهش للمحامي الشاب وعضو البرلمان قليل الخبرة توماس مور، بل زاده معرفة بألاعيب الملوك الجادة وعدم إجادتهم للمزاح.

خير صديق للفقراء

بوفاة هنري السابع انتعشت الآمال بحلول حقبة جديدة من تفاؤل كبير، لكن حذر، بعد رحيل هنري السابع وحكمه الثقيل الوطأة على الناس والذي اتسم بالقسوة واللاعدالة وفقدان حرية التعبير، ومع مجيء هنري آخر هو الثامن توقع أهل السياسة والنخبة والعارفون عهداً جديداً، مختلفاً، فالملك الجديد راع للعلم والعلماء والمثقفين، فاستقبلوه بتفاؤل كبير، رغم الحذر، واستهل العالم ورجل البرلمان حياته الجديدة بقصيدة ترحيب ومديح للملك الجديد عنوانها “نشيد التهنئة”.. وفي هذا النشيد عثر البرلماني الشاعر على مفتاحه الذهبي إلى بوابة النجاح والمجد والشهرة، رغم زهده بها، ليتبوأ مناصب حكومية مهمة عديدة.

كشفت الأضواء شخصية تثير الاهتمام ويشار إليها بأصابع اليد كلهان وها هو وسط المسرح: شاب متوسط القامة، ذو وجه صبوح، صافٍ، ودود، كشخصيته، بشعر بنيّ اللون ولحية خفيفة وعينان زرقاوان، ميال إلى المرح من دون إسفاف، يرتفع كتفه الأيمن أعلى من الأيسر بقليل، خصوصاً أثناء السير، يفضل القليل من الجعة ولا يقرب الخمرة إلا بما يمس شفتيه مجاملة لضيف أو نديم، اشتهر عنه قصة قميص الشَعَر الذي يرتديه لصق جلده لتعذيب جسده، ليس لمازوشية فيه بل للشعور بآلام الآخرين، وقطعة الخشب التي يضعها تحت رأسه وسادة للنوم بدل الوسادة العادية، فعرف عنه الزهد والاكتفاء بالقليل ومحبة الفقراء والمظلومين، ومن صفاه التي اشتهر بها في أوساط لندن “خير صديق للفقراء».

الثيمة الأساس في أعماله وأحلامه، في السياسة والكتابة، نقده للعنف والاستبداد وجشع الحكام، أي ممارسة دور المثقف النقدي، الصارم، رغم ما يقترن بهذا الدور من مخاطر منذ ذاك الزمان وحتى اليوم.

الشعور بالخطر دفعه لابتكار الترميز والهرب من الواقع إلى الخيال في وضع روايته الشهيرة “يوتوبيا” ليشيد مدينته الانكليزية، بل الإنسانية، الفاضلة، ولتخفيف صرامة الأفكار وجديتها أسبغ عليها بعض الهزل وخفة الدم.

كتبها باللاتينية، قبل أن تترجم إلى الإنكليزية، ثم إلى مختلف لغات العالم.. و”يوتوبيا” تعني، باللاتينية، كما فسرها مترجموها وكاتبو سيرة المؤلف، اللامكان، أو المدينة الخيالية.

أدرك توماس مور استقلالية المثقف وضرورتها منذ بداية نشاطه الثقافي والسياسي، فرفض راتباً شهرياً من الملك، كي لا يخضع لإغراء المال وسلطة الحاكم.. لكنه انضم أخيراً إلى البلاط، عام 1518، بعد أن أبدى الملك إعجابه بثقافته ومرافعاته المدهشة في المحاكم، وهذا ما أثار حفيظة الباحثين والمعنيين بأمر السياسة والكتابة، حتى يومنا هذا، وعزا بعضهم قبوله المنصب، بعد تردد طويل، إلى رهانه (الخاطئ – كما سيتضح لاحقاً) على إمكانية خدمة الناس من خلال المنصب الرفيع، وذكر مور هذا في “يوتوبيا” في الحوارات الرائعة بين بطل القصة، قناع المؤلف، روفائيل هيثلوداي، ومحدثيه، ويصف فيها “عمل الفلاسفة مستشارين للملوك ومدى ما يحققه ذلك من خدمة للدولة والمجتمع» (*).

جاء على لسان بطله هيثلوداي عدم جواز تقديم الفلاسفة المشورة للملوك والحكام، وهذا ما يناقض موقف مور نفسه الذي حاول أن يمسك بالعصا من وسطها، لكنها جلدته في نهاية المطاف بعد أن توهم بإمكان خدمة المجتمع من خلال خدمة الحاكم.

عندما بدأ مارتن لوثر نشاطه الديني ضد الكاثوليكية، التي اعتبرها هنري الثامن مساساً بسلطته الملكية المقدسة، نشأت معارك دامية كثيرة واتهم مور بأنه وقف إلى جانب الملك ومارس العنف ضد أتباع لوثر، بل أدين بأنه مارس التعذيب بحق خصوم الكاثوليكية، ويبدو أن مهمة مدير الأمن غلبت دور المثقف التنويري في هذا الجانب، في التحالف الأكثر شهرة في التاريخ البشري: تحالف رجل الدين ورجل الأمن، أو المثقف والحاكم!.

بوادر الأزمة بين المثقف والملك

ادعى هنري الثامن ببطلان زواجه من زوجته الحالية كاترين لأن أخاه قد عقد عليها قبل وفاته، رغم أنها لم تزف له، وهي ذريعة لزواج ثانٍ من آن بولين التي ارتبط بها بحب عاصف، والذريعة الثانية هي أن كاترين لم تنجب له صبياً ليرث عرش أبيه.

كان البابا قد بارك زواج هنري الثامن من كاترين فكيف له أن يبارك الزيجة الجديدة؟ إنها قضية تتعارض مع قوانين الكنيسة.. فقاد الملك حملة إعلامية وسياسية بنفسه لإتمام الصفقة، واستشار خيرة المختصين دينياً وقانونياً لإنجاح مشروعه الغرامي، وكان مور في مقدمة مستشاريه!

عزل الملك وزيره الأول، كاردينال وولزي، لفشله في إتمام الصفقة الغرامية، وعين مور بدلاً منه.. ومور قبل المنصب الجديد الذي كان العتبة الأولى لحبل المشنقة!

أثار المعنيون، وبينهم أصدقاء مخلصون لمور، سؤالاً محيراً: لماذا قبل مور المنصب الجديد، وهو من يحترم ويحب كاترين الزوجة المهددة؟

قال أحدهم: لم يتوقع مور أن يجبره الملك على القيام بعمل لا ينسجم مع مبادئه.

لكن مور كان يدرك أهواء الملوك مثلما يعرف أن أصدقاءهم هم أعداؤهم عندما تتعارض المصالح والرغبات، فقال لصديق له: “إذا حالت رأسي بين الملك وبين قصر له في فرنسا (خلال الحرب بين الدولتين) فإنه لن يتوانى عن قطعها».

إذن، لماذا قبل المنصب والمهمة؟

إنه من بين خطايا المثقفين التاريخية.

الملك يعلن انفصاله عن الكنيسة الكاثوليكية ويعين نفسه رئيساً أعلى للكنيسة الإنكليزية، بعد رفض البابا طلاق كاترين والزواج من آن بولين.

كان مور، في هذا الأثناء، إما صامتاً أو متردداً، أو محتجاً بصمت، لكنه أعلن أخيراً موقفه الرافض للزيجة الجديدة، متمسكاً بموقف ديني وأخلاقي من القضية.

الملك يزج بمعارضي زواجه في السجن أو يسوقهم إلى الموت.. مور في مقدمتهم!

سيق إلى سجن برج لندن ليحاكم في الأول من تموز (يوليو) 1535 بتهمة الخيانة العظمى ليدان ويحكم عليه بالموت (المخفف!) أي بقطع الرأس فقط من دون شق الجسد وإخراج الأحشاء، كما تقضي اللوائح والقوانين، ويرمى رأسه في مياه التيمز، بعد أن فشلت الوساطات كلها في العفو عنه أو تبديل الحكم بآخر أقل وحشية.

من بين ما جاء في روايته اكتشافه للملكة الخاصة على أنها من أخطر الشرور لأنها تحمي من يملكون وتضطهد من لا يملكون، وهذا قبل أن يكتشفها كارل ماركس بزمن طويل، لكن “اشتراكية” مور طوباية، فردية، من دون البروليتاريا، حسب الأدبيات الاشتراكية الكلاسيكية، من دون تحميل الرجل أكثر من طاقته في تلك الظروف التي لا تتيح فهماً أعمق وأكثر علمية لقوانين الصراع الطبقي.

لكن مور يظل رجل الدولة اللامع والمثقف التنويري والمواطن الانكليزي المخلص للعدالة الاجتماعية حتى وهو في منصب مدير أمن المدينة الشهيرة لندن.

(*) في المقال اقتباسات للحوادث والتواريخ من مقدمة الرواية ومترجمتها أنجيل بطرس سمعان – الهيئة المصرية العامة للكتاب – 1987