رحلت ومعها ابتسامتها ووردتها وكحلها

Wednesday 7th of April 2021 10:46:29 PM ,
4918 (عراقيون)
عراقيون ,

سحر طه

في الغالب تعجز الكلمات عن رثاء الأصدقاء والمقربين. وهنا أحاول استعادة لقطات من لقاءات قصيرة، وتخيّل تلك النسمة الرقيقة، التي ستبقى حاضرة أمامنا بلوحاتها المنتشرة هنا وهناك، وتماثيلها وشخوصها “نحن الشعب”، ومادة أحاديثنا ما حيينا.

نهى الراضي، فراشة غادرتنا بصمت وهدوء قبل أسبوع لكني ما زلت أتوقع رؤيتها مقبلة نحوي في أحد شوارع بيروت أو لقاءها في إحدى المناسبات الثقافية أو في سهرة عند أحد الأصدقاء، تسبقها رفيقتها الدائمة تلك الوردة التي كانت تضيء شعرها الأسود الفاحم. عيناها المكتحلتان أبداً بكحل أسود كثيف، يلفتك بريقهما الأخاذ من طلتها البعيدة، فتكتشف خلف هذا البريق ذكاء وثقة، فيما يخفي ذاك الجسد الدقيق الناحل، قوة وإصراراً، وحيوية متدفقة.

لا أدّعي أن علاقتي بنهى الراضي بلغت حدّ الصداقة، لكننا في كل لقاء كنا نشعر برابط خفيّ ربما أكثر من الصداقة أو الانتماء إلى بلد واحد، ولعله همّ العراق هو الذي جمع قلوباً كثيرة كما فرّق أخرى أكثر.

طوى ثرى لبنان جسد نهى الراضي، وكم كانت ترغب في هذا إذ أحبت لبنان وأقامت فيه بصورة شبه دائمة منذ العام 1995 وحتى رحيلها، بعد أشهر من صراعها مع “اللوكيميا” أو سرطان الدم ذاك المرض الذي ذكرته في يومياتها البغدادية، فحسب دراسات الأطباء وتقارير “...ازداد عدد الأطفال الذين يولدون موتى بسبب تأثير اليورانيوم والباريت وغيرها من مواد كانت في القنابل التي قصفت العراق والتي بلغ حجمها سبعة أضعاف قنبلة هيروشيما، وهذه المواد وغيرها ستبقى آثارها سنين لتصيب العراقيين بالسرطان وسرطان الدم والماء الأزرق ومختلف أمراض العظام والمفاصل كما تصيب الأشجار وسائر المزروعات...».

أحد أقرباء الراضي من أصل عراقي نقل إليها حديثاً دار في الصومال لرجل أميركي يعمل في قسم الشؤون الإنسانية التابع للأمم المتحدة اسمه كنوت بوير، وكان العراقي من بين الموجودين. تحدث الأمريكي عن دفنهم رؤوساً حربية في الصومال تحمل مواد مشعة في حفرة إسمنتية ثم غطوها بغطاء إسمنتي لأسباب صحية إنسانية. ثم مضى يقول: في العراق كانت لدينا مهمة مماثلة، تفجير مواد حربية، وعندما ذهب إلى الموقع لاحظ أنه ليست هناك غرفة من الاسمنت أو حتى هيكل مبنى بل مجرد حفرة في الأرض. فاتصل لاسلكياً بمسئوليه وأخطرهم بذلك. قالوا له ألا يزعج نفسه بإجراءات السلامة وأن يفجر المادة بصرف النظر عن كل شيء. كان الجميع يعلم أن زوبعة كبيرة قادمة من الجنوب، لكنهم فجروا الرؤوس الحربية رغم ذلك.

كتب تقريراً وأرسله إلى مقر الأمم المتحدة لذا يفترض أنه جزء من بحر الملفات فيها. ثم مضى يقول لهم إنه ما بين العامين والأربعة أعوام المقبلة (حدث هذا في عام 1995) ستكون هناك زيادة رهيبة في السرطان وسرطان الدم ومشاكل العظام والمفاصل في العراق».»

وكان هذا قدرها، غلبت المرض في مراحل عدة، لم تشأ الاستسلام له والتقوقع في البيت في انتظار النهاية، ولا الاستماع إلى نصائح الأطباء ووالدتها أو المقربين منها، بل كانت تعمل بجهد ونشاط بالغين، تسافر وتنظم المعارض التشكيلية فردية وجماعية، وتقيم ندوات تتحدث فيها عن أيام العراق السوداء التي شاءت أن تعيش فترة طويلة منها في العراق، وباختيارها هي، رغم إقاماتها في فترات سابقة، خارجه إذ كان والدها سفيراً لبلده في بلدان عدة، ورغم الفرص المتاحة لها للخروج في ذروة أزمة الحصار والقصف من قبل الحلفاء بعد غزو العراق للكويت، إلا أنها آثرت البقاء مع أقربائها وكانت النتيجة تسجيل “يوميات بغدادية” خلال 42 يوماً عام1991.

قبل أشهر استغربنا سفرها إلى أميركا وفرنسا، وهي التي قالت في يومياتها: “...لقد دمرونا ولا أعتقد أن قدمي ستطأ الغرب مرة أخرى...”، لكني أخمّن الآن سبب ذهابها، فهي ربما قصدت ذلك لتقول لهم: “... هذا ما جنت أيديكم ومثلي الآلاف في بلدي لا يحصلون على العلاج...” لكنهم فشلوا في علاجها.

كثير من صفحات “يوميات بغدادية”، الكتاب الذي سطرته يد الراحلة يوماً بيوم إبان الحرب على العراق عام 1991، هو لسان حال العراقيين في غالبيتهم. هو بمثابة سجل يومي لما كان العراقي يعانيه في تلك الأيام، لكن من دون أن يعلم ان الأسوأ كان في انتظاره الأعوام التالية، وتزداد سواداً ومآسي وقسوة يوماً بعد يوم وأصبحت يوميات الراضي أقل قسوة، والآن لا تكفي أي يوميات لتدوين ما يجري في هذا البلد المنذور.

كتاب الراضي أصبح من أكثر الكتب رواجاً في السنوات الخمس الأخيرة والدليل إنه ترجم إلى لغات عدة بعد أن كانت الكاتبة سطرته بالإنجليزية، حتى إن الراحل إدوارد سعيد في مقالة له بعنوان “اهتياج كلينتون” عام 1998، قال عن العراق: “... بالنسبة إلى كل المراسلين وممثلي وسائل الإعلام لا يتعدى أن يكون مجرد مهمة، أزمة يتم تغطيتها ثم مغادرة الموقع حالما تنتهي. أما العراق فهو غير موجود أثناء ذلك. فتشت عن كتب صدرت أخيراً عن العراق تقدم له وصفاً كبلد حقيقي لا كمشكلة استراتيجية لم أعثر إلا على كتاب واحد ممتاز وهو يوميات بغداد من تأليف نهى الراضي، ميزة الكتاب تلك الواقعية المأسوية التي عاشها شعب بأكمله، وبلد بكل مجالاته ومؤسساته. في عقوبة جماعية لم تشبهها عقوبة لشعب أو بلد في التاريخ.

وصفت الكاتبة الراحلة الأحداث التي مرّ بها العراق وتحلله التدريجي وتفكك نظامه بشكل شامل طال البشر والحجر ومن أصغر جزء فيه إلى أكبر جزء أو العكس، القارئ الذي لم يعش ذلك الواقع، سواء العراقي أو غيره، ربما يجد في جملها مبالغات لإثارة الشجن أو التعاطف أو لجذب القارئ، لكن من عاش الواقع بتفاصيله يعلم حتماً إنها المأساة الحقيقية، خاصة أن أسلوب الكاتبة كان مغلفاً بطرافة وتهكم تخفّفان من وطأة الواقع الذي يبلغ في أحيان كثيرة حدّ الخيال. وفي اعتقادنا هناك الكثير من المآسي الأخرى لم ترد في الكتاب كونها يوميات إنسانية ضمن مجتمع، والعراق المترامي الأطراف والمتنوع ديموغرافياً حمل الكثير من المشاكل، ومنها ما كان في المناطق الفقيرة جداً في العراق وما أكثرها، والكاتبة عاشت في هذه المحنة ضمن بيئة ومعطيات أفضل بأضعاف مما عاشه ملايين من الشعب، سواء في الأرياف النائية والمحافظات وكثير مما استجد بعد مغادرتها وبعد كتابتها لهذه اليوميات.

كثير مما قرأته في يوميات نهى الراضي، ذات الأسلوب البسيط، الجذاب كنت شخصياً ألمسه من خلال زياراتي الدورية لأهلي. كنت أجد العراق جسداً ينخره المرض وكان يتهاوى في سرعة عاماً بعد عام. المباني الهندسية الرائعة المتميزة تصبح مجرد هياكل فيها أثر لجماليات سالفة، الطرق السريعة والجسور تشيخ وتتآكل، الكآبة تظلل كل شيء. كنت أسأل بصوت مخنوق أحياناً، وعالِ، صارخ أحياناً أخرى: لماذا اصفرت الأشجار وباتت غبراء متآكلة منحنية؟ ولشدّ ما يؤلمني إن الجواب كان سهلاً وبديهياً: بالطبع فالماء قليل أو شبه معدوم؟ لكن أين مياه النهرين؟ أسأل. يقولون: لا مكائن أو آلات أو مواد تعقيم تؤمن مياه الشرب أو حتى مياه السقي؟ فلا صيانة في ظل منع استيراد المواد.

آه كم هو جميل أن نقرأ مآسينا من خلال ما يكتبه الآخرون. كتاب الراضي ممتع بمأساويته، صوره الحاشدة وأصوات الناس في همسها وصراخها، وآراء في الحرب والحصار والمهزوم الأكبر هو الشعب العراقي.

نقلت إلى القارئ مشاهد الغارات الجوية العنيفة، تدمير منظم، نقص في الغذاء والدواء وأبسط الضرورات الحياتية من مياه ونظافة ووقود وأساسيات الحياة. هكذا عاش العراقي في عزلة والطاحونة ما تزال تدور وتطحن ما تبقى من مواطنية وكرامة وإنسانية لدى العراقيين.

كان هذا هم نهى الراضي وبقي همها اليومي رغم مغادرتها بغداد إلى عمان ثم بيروت التي اعتادت الإقامة فيها والتدريس في الجامعة اللبنانية الأميركية لسنوات. ووجدت في لبنان الملاذ كما الحال مع العديد ممن يتيح لهم هذا البلد فرصة التعبير عن آرائهم ومبادئهم التي يؤمنون بها.

قالت في ختام يومياتها: “... في لبنان، حتى بعد سبعة عشر عاماً من الحرب الأهلية التي خاضتها بضراوة كل الفصائل دونما سبب عقلاني أو سبب مفهوم، مازال هناك مظهر من مظاهر حرية الكلام. فالحق في التذمر والشكوى وهما خصيصة وطنية، لم يصادرا، ولهذا السبب كان لبنان دائماً المكان الأمثل للمنفيين السياسيين يلوذون به من سائر أنحاء العالم العربي. كان هذا يصح على أجيال أجدادنا وآبائنا مثلما يصح على جيلنا ولا يمكن للمرء أن يتمنى مكاناً أفضل يلجأ إليه «..

عرف عن نهى الراضي أنها من أوائل من تخصص في فن الفخار “الخزف” أو ما يسمى بالسيراميك في العراق منذ الستينات. وتعد من ضمن فنانات أخريات لعبن دوراً هاماً في الحركة التشكيلية في العراق إلى جانب مديحة عمر، نزيهة سليم، نادرة عزوز التجريدية الأولى في العراق. وخلود فرحان أول نحاتة عراقية وسعاد العطار وسوسن سلمان وليلى العطار وناثرة آل كتاب وأمل بورتر وسهام السعودي وسلمى الخوري وهيلدا آباكيان ونجاة حداد وثريا النواب وأديبة القاضي وغيرهن.

كان لها معارض عدة في الغرب وفي الوطن العربي إلى جانب مشاركة في معارض جماعية، دأبت على عرض أعمالها في لبنان منذ العام 1995، ومشاركات مثل “عرس قانا” الذي ساهمت في تنظيمه من دون عرض عمل لها ويومها بررت ذلك بالقول: بأنها في مثل هذه الحالة لا تقدر أن تترجم حالة إجرامية في لوحة أو صورة صماء”. وكانت آخر مشاركة لها في تموز الماضي ضمن معرض نظمه مركز المرأة في الأسكوا ضمن المؤتمر الإقليمي ودعوة إلى السلام.

وكان لها أسلوبها الخاص في تشكيل أعمالها بشهادة نقاد أمثال لور غريب التي كتبت عن معرضها في “إيبروف دارتيست” عام 1999: “مخلوقات الراضي متحررة من الضوابط التقليدية والأسلوب متطور متقلب على حسب المزاج ومتطلبات الموضوع... ولا يزعجها الانتقال من الواقعية إلى الأسلبة والتأليف الجريء في مزج مواد مختلفة شخصيات حية تمارس سطوة مباشرة... إنها استعارات حضارية تبرر حضورها في استخدامها إنجازاتنا العصرية... تنقل إلينا الراضي عدوى شخصياتها الفرحة والكاريكاتورية والساذجة والساخرة والناضجة والعفوية والنقاء والتلقائية الودودة” كانت في طريقها من البيت وإليه تجمع ما تجد فيه مادة صالحة للوحاتها وأشغالها. حصى بكل أحجامه، خشب، ورود، نباتات، أي شيء تعثر عليه تضفي عليه رؤاها التشكيلية وتجعل منه مادة وشكل وبانوراما للحياة والفرح، للبحر والسماء، لأشخاص عاديين، من الشعب بملامحه المتناقضة المتآزرة المتنافرة «.

ولعلنا حين نسترجع سينوغرافيا “ثلاث نسوان طوال” المسرحية التي أخرجتها الفنانة نضال الأشقر، نجد بصمات فنانة تشكيلية بكل معنى الكلمة إذ نعثر على مساحة لونية فعلية ترسم تداعيات تشكيلية أقرب إلى التجارب الانطباعية، ساهمت في الوصول إلى عوالم من التشكيلات المسرحية، في ميلودية فنية ولدت ظلالاً لمواد ما مقصودة أو مطلوبة في مسرح الأشقر وعناصر ضرورية لزوم الديكور، خزانة، شبّاك، إلخ.لطالما انتقدت نظام صدام حسين وفي المقابل انتقدت الغزو الأميركي: “لا منطق لما تفعله الولايات المتحدة إلا إذا كان منطق القوة والجشع والنفاق والأكاذيب. هذه هي فضائل الولايات المتحدة وأخلاقها. الدولة التي تحكم العالم».»

نهى الراضي:

مواليد بغداد 1941.1961 1963 تدربت في مدرسة بايماشف للرسم، لندن.1971 1975 درست في الجامعة الأميركية في بيروت.قامت بأعمال جدارية لمبانٍ حكومية ولقطاع خاص.أقامت معارض عدة فردية في بغداد وخارجها. شاركت في معارض جماعية. مارست التعليم في الجامعة اللبنانية الأميركية. وضعت كتاب “يوميات بغدادية” بين عامي 1991 و 2000 بالإنكليزية، وترجم إلى لغات عدة إضافة إلى العربية وضعت سينوغرافيا لأعمال مسرحية عدة منها “3 نسوان طوال” للمخرجة نضال الأشقر .

المستقبل8 أيلول 2004 - العدد 1692 .