رسالة مفتوحة إلى أختي، الآنسة أنجيلا ديفيس

Tuesday 20th of April 2021 09:35:56 PM ,
4927 (منارات)
منارات ,

أختي العزيزة:

لعلَّ المرء كان يأمل حتّى هذه الساعة أنَّ مجرَّد مرأى الأغلال على الجسد الأسود، أو مجرَّدَ مرأى الأغلال وحدها، سيكون منظرًا عصيًّا على الاحتمال، وَذكرىً لا تُطاق للشعب الأمريكي، حتّى أنهم سينهضون بأنفسهم في عفويةٍ وَيحطّمون الأصفاد.

لكن لا، يبدو أنّهم يجلّون أغلالهم؛ الآن أكثر من أي وقتٍ مضى، يبدو أنّهم يقيسون أمانهم بعدد الأغلال وَالجثث. وهكذا تحاول صحيفة «نيوزويك»، المتحضّر الذائد عمّا يستحيل تبريره، أن تغرقكِ في بحرٍ من دموع التماسيح («لم يتضح بعد نوع التحرر الشخصيّ الذي تبتغي تحقيقه») وتضعكِ، مغلولةً، على غلافها.

تبدين مفرطة الوحدة – وحيدةً كربّة بيتٍ يهوديّة في عربة نقلٍ مغلقةٍ تتجه إلى داخاو، أو كأيٍّ من أسلافنا، مغلولين معًا باسم يسوع، متجهين إلى أرضٍ مسيحيّة.

حسنًا. ما دمنا نعيش في عصرٍ يكون الصمت فيه لا جريمةً فقط بل انتحارًا، صرتُ أُحدِث من الضجّةِ ما يسعني، هنا في أوروبا، على الإذاعة والتلفزيون – واقعًا، لقد عدتُ للتوّ من أرضٍ، هي ألمانيا، شاهت سمعتها بفضل أغلبيةٍ صامتةٍ منذ وقتٍ ليس بالبعيد. طُلِبَ مني الحديث عن قضية الآنسة أنجيلا ديفيس، فاستجبت. لعلّها ممارسة عبثية، غير أنَّ على المرء ألا يدعَ فرصةً تنسرب من يديه.

أكبركِ بما ينحو على العشرين عامًا، أنا، إذن، واحدٌ من ذلك الجيل الذي يجسر جورج جاكسون على وصفه بالقول: «ما مِن إخوةٍ أصحّاء – لا أحد فينا مطلقًا». لستُ مهيّئًا على أيّ وجهٍ لنقض هذه الفكرة (دونَ أن أنحدر، هذه اللحظة، إلى ما سيعَدّ تفاصيل عَرَضيّةً، على كل حال) ذلك أنّي أدرك جيّدًا ما يعنيه. إنَّ صحّتي متداعيةٌ بما يكفي وَلا ريب. حين أفكّر بكِ، وَبِهيُوي، وَجورج، وَ (على الأخصّ) جوناثن جاكسون1، أبدأ باستيعابِ ما عنيتِهِ حين تحدّثتِ عن الطرق التي يمكن عبرها توظيف تجربة الاستعباد. يبدو لي أنَّ ما حدث أنَّ جيلًا جديدًا كاملًا من الناس قد قيَّم تاريخه وَتَشَرَّبَه، وَعبر هذا الفعلِ العظيمِ حررَّ ذاته منه فلن يعود ضحيَّةً ثانية. قد يبدو هذا القول شاذًا صفيقًا خلوًا من التعاطف لا مبرر له إذ يُوجَّه لأختٍ في السجن، تحارب في سبيل حياتها – في سبيل حياتنا جميعًا. غير أني أجرؤ على قوله، ذلك أني أحسب أنكِ لن تخطئي فهمي، كما أني لا أقوله، آخر الأمر، من موقع المتفرّج.

ما أحاول اقتراحهُ أنّكِ – على سبيل المثال – لا تبدين ابنةَ أبيكِ كما أبدو أنا ابن والدي. إنَّ آمال أبي وآمالي تتماثلان باطنًا، آمال جيله وآمال جيلي تتماثلان؛ يعجز البون الشاسع في أعمارنا وَالرحيل من الجنوب إلى الشمال عن تبديل هذه الآمال أو عن جعل حيواتنا أشد حيوية. ذلك أنه، باستعارةِ التسمية الوحشية لذاك الزمان، اللغة الباطنيّة لذاك اليأس، لم يكن سوى زنجي – واعظًا عاملًا زنجيًا، وكذا كنت أنا. لعلّي انحرفتُ عن المسار لكنَّ الأمر هنا لا يتجاوز في ذاته أهميّةَ أن يصبح بعض الإسبان الفقراء مصارعيّ ثيرانٍ أثرياء، أو أن يصبح بعض الأولاد السود الفقراء ملاكمين أثرياء مثلًا. نادرًا ما منحَ هذا الناسَ شيئًا أكثرَ من تنفيسٍ عاطفيٍّ عظيم، رغم أني لا أقصد التعالي على ذاك أيضًا. لكن حين أصبح كاسيوس كلاي محمدَ علي وَرفض أن يضع ذلك الزيّ (مضحيًّا بكل ذلك المال!) فإنّ أثرًا مختلفًا تمامًا أُوقِع في نفوس الناس، وَصنفًا جديدًا من التعليمات جدَّ مختلفٍ قد بدأ.

تمثَّل النصر الأمريكيّ – الذي كمنت فيه خفيةً المأساة الأمريكية دائمًا – في حملِ السود على احتقار أنفسهم. احتقرتُ ذاتي حين كنت صغيرًا، كنت جاهلًا. عنى الأمر، وَإن دونَ وعيي، أو رغمَ مشيئتي، أو في ألمٍ ممضٍ، أني احتقرت أبي أيضًا. وَ أمي. وَ إخوتي. وَ أخواتي. كان السود ماضين في قتل بعضهم البعض كل ليلة سبتٍ على جادّة لينوكس خلال نشأتي؛ وَلم يبيّن أحدٌ لهم، أو لي، أنَّ الأمر كان مقصودًا لهم كي يقتلوا بعضهم؛ أنَّهم محبوسون حيث كانوا، كالحيوانات، حتّى لا يعدوا أنفسهم خيرًا من الحيوانات. عزّزَ كل شئٍ هذا التصوّر عن الواقع، وَلم ينفِهِ شيء: هكذا صار المرء مهيئًا، حين يحين وقتُ الخروج للعمل، كي يعامَلَ كعبد. هكذا صار المرء مهيئًا، حين أتى الإرهاب البشريّ، كي ينحني لإلهٍ أبيض وَيستجدي يسوعَ الخلاص – الإله الأبيضَ ذاته الذي كان عاجزًا عن تحريك إصبعٍ لإنجازِ شأنٍ تافهٍ كإعانتك على دفعِ إيجار السكن، عاجزًا عن الصحو في الوقتِ الملائمِ لإعانتك في إنقاذ طفلك!

دونَ شكٍ، تحمل كلّ صورةٍ معنىً أكثر مما يمكن استيعابه على نحوٍ خاطف، رغم كل ذلك، تنصهر في كل هذا التأوّه والأنين وَالترقب وَالتحسّب وَالهرج وَالنجاة وَالحيلة، قوّةٌ عظمى، هي جزءٌ من إرثنا اليوم. لكنَّ هذا الجانب الخاصّ من رحلتنا الآن يبدأ بالتراجع. ها قد كُشِفَ السرّ: إننا بشر!

غير أنَّ التلفَظ الصريح المكشوفَ بهذا السرَّ قد أرعبَ الأمة حتّى الموت. وددتُ لو كان بوسعي القول «حتى الحياة»، لكنّه أملٌ كثيرٌ على مجموعةٍ متباينةٍ من أناسٍ مهجَّرين ما زالوا ينكمشون في مقصورة القطار وَينشدونَ «قُدُمًا أيّها الجنود المسيح». الأمّة، إن كانت أمريكا أمَّةً، غير مهيّئةٍ لهذا اليوم بعد. إنه يومٌ لم يأمله الأمريكيون يومًا وَلا رغبوا في حدوثه، مهما أعلنوا في خشوعٍ إيمانهم بـ «التقدّم وَالديمقراطية». باتت هذه الكلمات على الشفاه الأمريكيّة الآنَ شيئًا من بذاءةٍ عالميّة: ذلك أن هذا الشعب الأشدَّ تعاسةً، ذا الإيمان الراسخ بعلمِ الحساب، لم يخل يومًا أنه سيُجابهَ بِجَبْرِ تاريخه.

إن إحدى طرق قياس صحة أمة ما، أو معرفة ما تعدّه جديرًا باهتمامها حقًا – أو لأي مدىً يمكن اعتبارها أمّة، تمييزًا لها عن تحالفٍ لمصالحَ خاصّة – هي فحص الأشخاص الذين تنتخبهم لتمثيلها أو حمايتها. توحي نظرة خاطفة على القادة الأمريكيين (أو الشخصيات البارزة) بأن أمريكا موشكة على فوضىً مطلقة، كما تُلمح إلى مستقبلٍ تتهيأ فيه المصالح الأمريكية، إن لم يكن جلّ الشعب الأمريكيّ، للتخلّي عن السود. (واقعًا، إنَّ نظرةً واحدةً إلى ماضينا توحي بذلك). من الجليّ أننا قابلون للاستهلاك بالنسبة لجلّ مواطنينا (الصُوَريين). كما أن السادة نيكسون وَأغنو وَمتشل وَهوفر، دونَ حاجةٍ، بالطبع، لذكرِ أبترِ فيلم (King’s Row) المنتصر روني ريغان،2 لن يترددوا لحظةً في تنفيذ ما يصرّون على أنه إرادة الشعب.

لكن ما إرادة الشعب في أمريكا؟ وَمَن الشعب، بالنسبة للواردة أسماؤهم أعلاه؟ لا يعرف الشعب، أيًا يكن، عن القوى المسؤولة عن تنصيب المحترمين المذكورين أعلاه إلا القدر الذي يعرفه عن القوى المسؤولة عن المذبحة في فيتنام. لطالما كانت إرادة الشعب في أمريكا تحتَ رحمة جهلٍ ليسَ مستشريًا فحسب، بل مقدَّسًا وَمتَعَهَّدًا في قداسة أيضًا: كي يُحسِن استغلالَه اقتصادٌ ضارٌ يفتك بالبيض وَالسود، ديمقراطيًّا، وَيقدّمهم قرابين سويّة. غير أن أغلب الأميريكيين البيض لا يجرؤون على الاعتراف بذلك (رغم ارتيابهم فيه) لذا تنطوي هذه الحقيقة على خطرٍ مهلكٍ للسودِ وَمأساةٍ للأمة.

أو، بعبارةٍ أخرى، ما دام الأمريكيّون البيض يحتمون ببياضهم – وَما داموا عاجزين عن الإفلات من هذا الشَرَكِ البشع – سيسمحون لملايين من الناس أن يُذبَحوا باسمهم، وَسيكونون عرضةً للتلاعب وَالاستسلام لما سيحسبونه – وَيبررونه بوصفه – حربًا عرقيّة. ما دام بياضهم يرسم مسافةً مشؤومةً بين أنفسهم وَتجاربهم وَبين تجارب الآخرين، لن يتمكنوا أبدًا من أن يشعروا بجدارة إنسانيتهم، جدارة قيمتهم، من أن يصبحوا مسؤولين عن أنفسهم، عن قادتهم، عن بلادهم، أطفالهم، أو أقدارهم. ستودي بهم خطاياهم (كما عبرنا عن ذلك مرةً في كنيستنا السوداء) – أي ستودي بهم أوهامهم. وَلا حاجة للقول إن الأمر يحدث الآن في كل مكانٍ حولنا.

لا تدرك غير ثلة معدودة من بين ملايين الناس في هذه الأرض الشاسعة أن القدَرَ المُعَدَّ لكِ، أيتها الأخت أنجيلا، وَلجورج جاكسون، وَللسجناء الذين لا حصر لهم في معكسرات اعتقالنا – فتلكَ حقيقتها – يوشكُ على الإحاطةِ بهم أيضًا. بالنسبة للقوى التي تدير هذه البلاد، ليست حياة البيض أشدَّ قداسةً من حياة السود، كما يكتشف العديد العديد من الطلبة اليوم، وَكما تبرهن على ذلك الجثث الأمريكيّة البيضاء في فيتنام. ما دام الشعب الأمريكي عاجزًا عن مجابهة قادته المنتخبين لاسترداد شرفه وَحياة أبنائه، فلن ننتظر نحن السود، أكثر أبناء الغرب نبذًا، إلا النزر اليسير منه: وهو أمرٌ ليس بالجديد على أيّ حال. ما لا يدركه الأمريكيّون أن حربًا بين إخوةٍ، في المدن ذاتها، على الأرض ذاتها، ليست حربًا عرقيّةً، بل أهلية. غير أن الوهم الأمريكيّ لا يفترض فقط أن كلَّ إخوتهم بيض، بل أنَّ كلَّ البيض إخوتهم.

ليكن إذًا. لا يمكننا إيقاظ النائم، وَيعلم الربّ كم حاولنا. علينا القيام بما في الوسع، أن نقوي وَننقذ بعضنا البعض – لسنا نغرق في كراهيةٍ للذات متبلدة، إننا نشعر بجدارة قيمتنا للحدّ الذي نجابه به حتى القوى العنيدة حتّى نبدّل قدرنا وقدر أبنائنا وَوضع هذ العالم! ندرك أن الإنسان ليسَ شيئًا وَلا ينبغي أن يوضعَ تحت رحمة الأشياء. ندرك أن الهواء وَالماء ملك الإنسانيّة جمعاء لا لملّاك المصانع وحدهم. ندرك أن الطفل لا يقدم لهذا العالم لمجرّد أن يستحيل أداةً لتحقيق ربح شخص آخر. ندرك أن الديمقراطيّة لا تعني قسر الجميع على ضحالةٍ قاتلةٍ – وَخبيثةٍ آخر الأمر – بل حريّةً يأمل فيها الجميع تحقيق أفضل ما فيهم أو أفضلّ ما وُجِد.

ندرك أنّا السود، وَلسنا وحدنا فقط، أنَّ السود كانوا وما زالوا ضحايا نظامٍ وقوده الوحيد الجَشَع، وَإلهه الوحيد الربح الماديّ. ندرك أنَّ ثمار هذا النظام الجهل وَاليأس وَالموت، وَنعلم أنَّ هذا النظام سيؤول إلى الهلاك لأنَّ العالم لا يطيق دفعَ فاتورته أكثر من ذلك – إن كان أطاقَ دفعها يومًا. كما ندرك أنَّا، من أجل ديمومة هذا النظام، سُحِقنا جميعًا دونَ رحمة وَلم نُسمَع سوى الأكاذيب، أكاذيب عنا وَعن أهلينا وَماضينا، عن الحب وَالحياة وَالموت، حتّى تخلد الروح وَالجسد معًا في الجحيم.

إن الثورة العظمى للوعي الأسود التي حدثت في جيلكِ، أختي العزيزة، تعني بداية أمريكا أو نهايتها. يدرك البعض منا، بيضًا وَسود، فداحة الثمن الذي دُفع حتى الآن لخلق وعيٍ جديدٍ وَشعبٍ جديدٍ وَأمةٍ بِكر. إن كنا ندرك ذلك وَلم نحرّك ساكنًا، سنكون أسوأ من القتلة المأجورين باسمنا.

إن كنا ندرك ذلك، فعلينا القتال في سبيل حياتك كما لو كانت حياتنا – وَهي كذلك – وَنحيل أجسادنا حاجزًا يسدّ الطريق إلى حجرة الغاز. ذلك أنهم إن أخذوكِ صباحًا، سيعودون لأخذنا ذاك المساء ..سلام.

الأخ جيمس