كيف تأسس العراق ونال استقلاله قبل غيره؟

Sunday 25th of April 2021 09:45:38 PM ,
4930 (ذاكرة عراقية)
ذاكرة عراقية ,

جلاء القوات الانكليزية يعني ترك العراق هدفا للغزوات وبقاء الاحتلال يجرح الكرامة الوطنية فما العمل؟.

اموال النفط خصصت للري والخدمات فقط!

بقلم: عبدالكريم ثابت

قام اخيرا الاستاذ كريم ثابت برحلة الى العراق وانتهز فرصة اقامته لدرس احوال العراق السياسية والاجتماعية وفي هذا المقال يسرد كيف استقل العراق وكيف تمكن العراقيون من انشاء دولة في عشر سنوات، ولايخفى ان هذه الدولة ستدخل جمعية الامم بعد اسابيع.

مطامع الانجليز في العراق

كان للانكليز مطامع قديمة في العراق وكانت رغبتهم بالاستيلاء عليه معروفة بغية ضمه الى امبراطوريتهم لقربه من الهند واتصاله بها، فما كادت تركيا تخوض غمار الحرب العظمى ويدرو القتال بينهم وبين الترك حتى اسرعوا بانزال جنودهم في سواحل العراق وتقدموا لاحتلاله فقاومهم الترك مقاومة شديدة، ولكنهم لم يكترثوا للصعاب التي لاقوها في طريقهم وظلوا يواصلون الزحف حتى دخلو بغداد في اوائل سنة 1917 وكانوا في اثناء زحفهم وتقدمهم يكيلون الوعد للعراقيين العرب بالحرية والاستقلال يمنونهم بانشاء الامبراطورية العظمى ويوزعون عليهم منشورات المغفور له الملك حسين ملك الحجاز الاسبق.

الادارة الانجليزية ونتائجها

وبعدما وطد الانجليز اقدامهم في بغداد استأنفوا الزحف متجهين نحو الموصل، فلما وصلوا الى "شرقاط" بينها وبين الموصل مسافة قصيرة، عقدت الهدنة بين الترك والحلفاء وامضيت شروطها في 30 سبتمبر سنة 1918 فوقف القتال ولكن الانجليز مضوا في تقدمهم نحو الموصل فدخلوها وبذلك صار العراق كله في قبضة ايديهم فتناسوا عندئذ وعودهم للعرب وللعراقيين بانشاء حكومة عربية مستقلة، وانشأوا في بغداد ادارة انجليزية مرتبطة بحكومة الهند، اي ان العراق كان يدار على شكل مستعمرة تابعة للهند فكانت الحكومة الهندية تتولى شؤونه وادارته وترسل اليه العمال والموظفين حتى امتلأت مصالحه ودواوينه بهؤلاء الغرباء الذين لايعرفون لغة البلاد ولا عاداتها وتقاليدها، وكان التشريع عبارة عن قرارات او اوامر يصدرها الحاكم العسكري او معاونه، وكان ضباط حامية الهند ايضا يتقلدون المناصب الادارية في الاقاليم والبنادر والارياف، فمنهم المديرون ومنهم ضباط البوليس ومنهم رجال الامن العام، حتى اصبح العراقي غريبا في بلاده بعيدا عن دوائر حكومته مقصيا عن الوظائف التي جعلتها السلطة العسكرية وقفا على الذين تأتي بهم من الهند او غيرها من الاقطار الاخرى.

الثورة العراقية

وسرعان ما عيل صبر العراقيين من هذه الحالة فطالبوا والحوا بتعديلها ومنحهم حقوقهم والبر بالوعود والعهود المقطوعة لهم، ولما لم يجدوا آذانا صاغية تنادوا الى الثورة فاندلعت نيرانها في صيف سنة 1920 وقد ابتدأت يوم 22 يونيو باغتيال ضابطين بريطانيين في مدينة تلعفر التي تبعد بضعة كيلومترات عن الموصل، ثم شملت منطقة اواسط الفرات فحاصرت الحاميات البريطانية في المدن وقطعت عليها خط الرجعة، وكان عدد رجال الجيش الانكليزي في العراق يومئذ ستين الفا، فأعاد النظام بعد معارك عنيفة وبعد وصول نجدات جديدة اليه، وهكذا وجد الانكليز انفسهم امام حالة جديدة، فقرروا اجابة مطالب الامة والبر بوعودهم لها، وعكفت وزارة المستر لويد جورج على درس شؤون العراق دراسة دقيقة، فعرفت مكامن الداء واعراضه فقررت فورا تأليف حكومة برئاسة المرحوم السيد عبدالرحمن النقيب، نقيب اشراف بغداد، تستمد السلطة من مجلس وطني يمثل اعيان البلاد وعدد اعضائه 20 عضوا منهم ثمانية يؤلفون هيئة الحكومة الجديدة ورئيسهم هو النقيب.

الملك فيصل في العراق

وكان جلالة الملك فيصل، حين اضطراب الحالة في العراق، في لندن وكان قد خرج من سوريا على اثر احتلال الفرنسيين لها فاتفق مع الحكومة البريطانية على ان يرشح نفسه لمنصب ملك العراق وان يذهب الى بغداد لهذه الغاية.

وفي شهر يونيو سنة 1921 وصل جلالته الى البصرة وفي 11 يوليو قرر المجلس العراقي او مجلس الشورى وقد قلنا آنفا انه يتألف من 20 ذاتا، عرض عرش العراق على الملك فيصل فقبله وايد المندوب السامي البريطاني هذا الانتخاب واستفتى الشعب العراقي فنال جلالته 96% من مجموع الاصوات وفي يوم 23 اغسطس سنة 1921 نودي به ملكا.

التوفيق بين الفريقين

وكانت العلاقات السياسية يومئذ بين الحكومتين البريطانية والعراقية مبهمة مشوشة، فان الانكليز كانوا يتمسكون بالانتداب ويقولون ان جمعية الامم عهدت اليهم به محاولين الاشراف على الكبير والصغير من شؤون البلاد والتدخل في اكل امر من امرها وجعل الاستقلال جلائهم ورحيلهم عن البلاد بقضهم وقضيضهم وتركهم ادارتها لابنائها، وكان رأي العقلاء ان يبتكروا حلا يوفق بين الوجهتين المتناقضتين، لانهم ادركوا ان جلاء الانجليز عن العراق قبل يعود على اشد مما كان عليه في عهده السابق كما ان سيطرة الانجليز المطلقة على الادارة وتصريفهم للجليل والحقير من شؤونها لايسير بالبلاد الى الغاية التي تنشدها وتسعى لبلوغها، نقول ان العقلاء رأوا ان يبتكروا حلا يوفق بين الوجهتين المتناقضتين، فلم يجدوا احسن من عقد معاهدة تقرر علاقات الحكومتين احداهما بالاخرى.

المعاهدة والدستور

وكان اول ماعمله جلالة الملك فيصل بعد جلوسه على العرش انشاء حكومة جديدة برئاسة نقيب بغداد ففاوضت هذه الحكومة الانجليز لعقد معاهدة تحدد علاقات العراق بانجلترا بدلا من صك الانتداب الذي رفض العراقيون قبوله اساسا لعلاقاتهم ببريطانيا، وفي يوم 10 نوفمبر سنة 1922 تم توقيع هذه المعاهدة ومدتها 20 سنة فلقيت معارضة شديدة من الوطنيين الذين رأوا في نصوصها غبنا ببلادهم، بيد ان ذلك لم يمنع الحكومة من مواصلة العمل فدعت الامة الى انتخاب جمعية وطنية حصرت مهمتها في ثلاثة امور:

1-التصديق على المعاهدة واقرارها.

2-وضع دستور العراق.

3-وضع قانون الانتخاب.

ومع ان الحكومة العراقية لقيت صعوبات جمة في حمل الشعب على الاشتراك في هذه الانتخابات بسبب الدعوة الشديدة التي بثت لمقاطعتها الا انها استاعت جمع الجمعية فاجتمعت في شهر ابريل سنة 1923 واقرت المعاهدة ووضعت الدستور وقانون الانتخاب فتم بذلك انشاء الحكومة العراقية الجديدة.

تعديل المعاهدة

غير ان المعاهدة العراقية البريطانية لم تلبث ان عدلت في سنة 1924 وفي سنة 1925 وفي سنة 1927 وذلك تبعا للاحوال والظروف، وآخر معاهدة عقدت بين العراق وانجلترا هي معاهدة شهر يونيو سنة 1930 وضمنت للعراق دخول جمعية الامم ونظمت علاقاته بانجلترا.

وقد اقر البرلمان العراقي هذه المعاهة وستنفذ من اليوم الذي يصير فيه العراق عضوا في جمعية الامم اي في شهر سبتمبر القادم.

تقرير العلاقات الخارجية

واتجه هم العراق بعد ذلك الى تقرير صلاته بجيرانه وتسوية المسائل المعلقة بينه وبينهم وفي مقدمتها شؤون الحدود، فعقد المعاهدات مع تركيا والحجاز ونجد واليمن، وعقد اتفاقات تمهيدية مع ايران.

وقد ادت زيارة جلالة الملك فيصل لطهران في الشهر الماضي الى تفاهم رجال الحكومتين العراقية والايرانية على اساس المسائل التي كانت لاتزال تفتقر الى تسوية وينتظر ان تعقد المعاهدات الخاصة بها، وزار الملك فيصل في السنة الماضية عاصمة تركيا الجديدة فكان لهذه الزيارة اثر كبير في توطيد علاقات حسن الجوار بين البلدين.

اهتمام بالاصلاحات الداخلية

ولم تصرف السياسة الخارجية المسؤولين من رجال العراق عن الاهتمام بالشؤون الداخلية. فاصلحوا الطرق والفوا جيشا منظما اصحبت البلاد تستطيع ان تعتمد عليه الان، واوجدوا شرطة ووضعوا لها نظما تماثل نظم الشرطة في ارقى بلدان العالم، وزادوا عدد المدارس وعنوا بزيادة عدد المدرسين العراقيين ونشطوا الصناعات المحلية على نحو ما تجلى في معرض بغداد الذي افتتح في شهر ابريل الماضي.

وستوقف الحكومة العراقية ايرادها من امتيازات البترول التي منحتها لشركتين انجليزيتين حتى الان على مشروعات الري الجديدة التي يراد بها احياء نحو مليوني فدان، وستكون 800 الف فدان منها صالحة للزراعة خلال السنوات الخمس الاولى، وعلى تحسين الطرق الموجودة وانشاء طرق جديدة، وعلى تعميم المدارس ونشرها في جميع انحاء البلاد.

فمما تقدم يتضح ان العراق تقدم من جميع مرافق الحياة، واستطاع من خلال عشر سنوات ان ينشئ دولة على النظم الحديثة وان ينظم علاقاته الخارجية ويكفل التقدم المادي والادبي والعملي والاجتماعي لشعبه، ومما لا ريب فيه ان الفضل الاكبر في هذه النهضة المباركة يعود الى ما اظهره العراقيون من التضامن القومي.

مجلة الهلال 1-6-1932