إن تحيا حياة حقيقية ، يعني أن ترفض الأخرين

Tuesday 4th of May 2021 09:41:56 PM ,
4937 (منارات)
منارات ,

علي حسين

اعترف انه جاء الى الدنيا بسبب غلطة ارتكبها قسيس متزمت تزوج من امراة كئيبة وحزينة . في واحدة من رسائله يكتب :" كثيرا ما افكر بامي ، وعلى وجه الخصوص ، بسوداويتها التي اورثتني سمها والميل اليها " ،

ستموت هذه الام بمرض القلب بعد أن قرأت كتاب ابنها الاول " على ذرى اليأس " وكانت متحمسة له ، وقد توقع انه سيموت مثلها بنوبة قلبية في سن الشباب ، لكنه سيعيش حتى الرابعة والثمانين عاما ، مات في يوم 20 حزيران عام 1995 ، وكانت يسخر من ان تكون الحياة التي يعتبرها تجربة مريرة وفاشلة تمتد به كل هذه السنين ، وخلال سنواته الطويلة في الحياة حاول الاحتفاظ بقطعة السواد التي زرعتها فيه الحياة كما يقول ، وتعلم من شوبنهاور أن الانسان لا يولد عدميا وانما يصبح كذلك ، حيث تبدو الحياة هشة وعقيمة . واذا كان معلمه شوبنهاور قد منح التشاؤم صورة مفزعة يكتب وهو في الثمانين، انه مارس الكتابة لكي يتفادى الانتحار :" أكتب لأتفادى نوبة اليأس ، الكتابة انتحار مؤجل " ،ويضيف ان " فكرة الانتحار هي وحدها تجعل الحياة محتملة " ، يتذكر عندما كان في الثانية والعشرين حيث راودته فكرة الانتحار ، بعد ان فشل في الحصول على عمل :" كنت حائزا الشهادات العليا التي تخولني ان اكون استاذا للفلسفة في جامعة بوخارست . لكن كيف لإنسان متعب أن يستطيع مواجهة طلاب صف الفلسفة . وهكذا يمكنني القول إن ليالي البيض في سيبوس كانت محور كل افكاري اللاحقة وكل التوجهات التي سأعطيها حياتي " . ظل العالم بالنسبة اليه سجنا كبيرا ، وضرب من ضروب الاشغال الشاقة ، واعلن في معظم كتبه ان الجنس البشري يمضي في طريق مسدود :"انني مؤمن بالكارثة النهائية التي ستحل بعد وقت . لست ادري اي شكل ستتخذ، لكني على يقين بانه يتعذر تجنبها " .

عاش الغربة في أعماقه ورفض ان ينتمي إلى أي أرض :" أشعر أنني منفصل عن كل البلدان وعن كل المجموعات. أنا متشرد ميتافيزيقي. أشبه قليلا أولئك الرواقيين في نهاية الامبراطورية الرومانية والذين كانوا يشعرون بأنهم مواطنو العالم ، الأمر الذي يعني أنهم مواطنو اللامكان " ،

كان ينظر الى الحياة على مدى عقود عمره الثمانية ، بوصفها تأجيلا للانتحار، :" كنت دائما أؤجل انتحاري، لقد استثمرت هذه الفكرة، عشت كمتطفل عليها ولكن في نفس الوقت كان الإقبال على الوجود لدي قويا جدا" ، ليموت في النهاية موتة طبيعية عام 1995 .

ولد أميل ميشال سيوران في الثامن من نيسان عام 1911 في قرية من قرى رومانيا ، وعرف منذ طفولته بحبه للعزلة والتنزه في الجبال المحيطة بقريته ، وصف سنوات حياته الاولى بانها كانت رائعة ، في تلك السنوات يتحذ من المقبرة القريبة من منزلهم مكانا للعب ، يبحث عن الهياكل العظمية التي يغطيها التراب ، حتى ان امه قالت ان ابنها اصبح مهوسا بالجثث ، وسيؤكد انه ظل مهوسا بظاهرة الموت :" ليس الهوس بالموت ما يجعلك تكتشف بأن الحياة غير حقيقية، بل حين تكتشف بأن الحياة بلا جوهر، وبأنها لا شيء على الإطلاق، مجرد وهم، فأن الهوس بالموت يتعمق " . قال ان قلبه تحطم في سن العاشرة حين هجرت عائلته القرية التي ولد فيها ، فقد احس ان العالم يريد له ان يُحرم من فردوسه : " عشت لحظة اقتلاع جذور " ، في المدينة الجديدة والتي اصبح فيها والده رئيسا للكنيسة ، سيتمكن من اكمال دراسته الثانوية ، بعدها سيذهب الى العاصمة بوخارست لاكمال دراسته الجامعية حيث يدرس الفلسفة ، في بوخارست سيتفرغ للقراءة ومطاردة النساء " في سني شبابي الاولى ، لم تستهويني سوى المكتبات وبيوت الهوى "

في الجامعة يقرأ شوبنهور ونيتشه ، وسيحظى شوبنهور باعجابه ، فعن طريقه يتعرف على البوذية ، يكتب في يومياته :" ليس لدي ما يكفي من الكلمات للدفاع عن معلمنا الكبير – يقصد شوبنهاور – الذي قاطعه قطيع الطوباويين ناهيك عن قطيع الفلاسفة " . وسيجد ان نيتشه لم يكن فيلسوفا وانما كاتبا عظيما ، صاحب اسلوب متفرد ، وبعد سنوات سيصف نيتشه بانه كما لو كان شخصية من شخصيات تشيخوف " انسان جدير بالشفقة " .

إضافة الى شوبنهور ونيتشه تعرف سيروان على اعمال الشاعر الفرنسي لوتريامون الذي تعرض في حياته القصيرة إلى التجاهل ، والبعض كان يصفه بالمجنون ، وسيلعب أرثر رامبو الدور نفسه الذي لعبه لوتريامون في حياة سيروان ، ولعل من الغريب إن هذين الشاعرين ختما تجربتهما الشعرية وهما في العشرين من العمر ، توفي رامبو وهو السابعة والثلاثين من عمره وكان خلال الخمس عشرة سنة الأخيرة من حياته توقف عن كتابة الشعر ، فيما توفى لوتريامون في الرابعة والعشرين من عمره ، وكان سيروان يتوقع ان حياته ستنتهي في الثلاثين من عمره .

في الجامعة يصاب بحالات من الأرق التي ستصاحبه حتى اليوم الاخير من حياته ، وبسبب الأرق يتوقف عن دراسة الفلسفة بعد ان حصل على شهادة الدبلوم في رسالة عن فلسفة برغسون :" أدركت في لحظة يأس شديد بأن الفلسفة لا تقدم العون مطلقا ، وأنها قطعا لا تنطوي على أجوبة " ، يوظف معاناة الأرق في مشروعه الكتابي :" كان الأرق التجربة الأساسية في حياتي. وهناك أيضا حقيقة أنك وحيد مع نفسك. في منتصف الليل ، الجميع نائمون وأنت الشخص الوحيد الذي ما انفك يقظا. في هذه الحال ، أنا لست جزءا من المجتمع البشري ، وإنما أنتمي إلى عالم آخر. وهذا يستلزم إرادة خارقة لتجنب السقوط " .

عام 1934 يحصل على منحة دراسية في ألمانيا لاعداد أطروحة في الفلسفة ، لكنه لم يفعل شيئا ، وقد وصف السنة التي قضاها في برلين بانها سنة عقيمة ، انتهت بقراره السفر الى باريس التي راقت له ، يحصل على منحة من المعهد الفرنسي في بوخارست للدراسة حيث التحق بجامعة السوربون لدراسة اللغة الإنكليزية . عام 1946 يقرر الاقامة بشكل نهائي في باريس والكتابة باللغة الفرنسية ، لينشر عام 1949، اول كتبه بالفرنسية بعنوان "موجز التفكيك " ، الذي وضعه في مصاف الكتاب الكبار ، وسيقرأ البير كامو الكتاب مخطوطا لدى دار غاليمار فيوجه التهنئة لسيوران مع نصيحة ازعجته :" الآن عليك ان تدخل حركة الافكار " ، الامر الذي ازعج سيوران ، فهو يرفض النصائح والدروس :" كانت تلك اهانة بالغة لي ، كما لو كنت فقيرا مبتدئا وصل لتوه من الريف " .

في باريس يتفرغ للكتابة ، اثنى عشر ساعة يوميا يجلس في مقهى الفلور ، كان ينجز كتاب المهزومين ، وعلى بعد خطوات منه يجلس جان بول سارتر يضع اللمسات الاخيرة على كتابه " الوجود والعدم :" لا ادري اية صدفة كانت تجعلني كل يوم تقريبا اجلس الى جانب سارتر ، لكني لم ارغب ابدا في ان اتبادل معه اقل حديث " ، كان سارتر انذاك يتخلص شيئا فشيئا من سوداويته ، ليدخل في مجال الفعل الثقافي والسياسي ، فيما كان سيوران يعلن تخليه عن اي التزام اجتماعي ليدخل في متاهات العزلة او كما اطلق على نفسه وصف :" رجل هامشي ومنبوذ . فرد لا تربطه اية صلة ببني جنسه " .

في العام 1931 القى مارتن هايدغر محاضرة بعنوان " ما الميتافيزيقيا ؟ " وقد ترجمت الى الفرنسية ، وعلى الرغم من ان سيوران كان قد اطلع على كتابات هايدغر عندما كان في رومانيا ، إلا ان هذه المحاضرة قامت فيما بعد بتشكيل افكاره حول رسالة الكاتب في الحياة .

كان من بين الموضوعات التي طرحها هايدغر في " ما الميتافيزيقيا ؟ " موضوع " العدم " او اللاشيء ، وهو التعبير الذي اراد من خلاله هايدغر ان يكشف عن التعسف الكامل لوجودنا في العالم ، اي وجودنا ليس ذاتي الإرادة بل هو نتيجة لا اساس لها من احداث وظروف تسبق وجودنا وتخرج عن سيطرتنا ، يقول هايدغر :" إن جوهر اللاشيء المؤدي الى العدم أصلا يكمن في هذا ، اي انه ياتي بالحضور اول مرة امام الكائنات بهذه الصفة .. وكلمة الحضور تعني كون المرء حاضرا اللاشيء " .

تتوالى اعمال سيوران ، وتتوسع معها قاعدة قراء كتبه ، لكن الشهرة تاتي متاخرة ، حيث عاش اكثر من ثلاثين عاما في باريس فقيرا ، ومغمورا ، قبل ان يصبح واحدا من اشهر كتابها ، نظرالى الشهرة باعتبارها حالة من اللامبالاة :" كان لابد دائما أن أكون إما كئيبا أو غاضبا، حانقا أو شاعرا بالقرف، ولكن ليس في حالة عادية. ومن الأفضل أن أكتب وأنا نصف كئيب. لابد أن تكون هناك أشياء ليست على ما يرام. لأنني أعتقد أنه عندما يكون الإنسان متوازنا لا حاجة لأن يكتب؟ لماذا يصرح؟ وأيضا ربما كما قالوا ثمة إلى حد ما وجه مرضي لما أكتب. وهذا صحيح، لقد لاحظت بأن من يستقبلون كتاباتي هم على أحسن وجه المختلون، أنصاف المجانين، العاطفيون " .

في معظم كتاباته نجد السخرية من الاشياء ، فالحياة محكومة بالعبث ، ومع بعض الامل المستحيل من الشعور بالعبث . وقد توصل الى اسلوب خاص انتقل به من البحث المسهب الى العبارة الموجزة المكثفة : "الشذرة وهي الشكل الوحيد الملائم لمزاجي، تمثل كبرياء لحظة محولة مع كل التناقضات التي تحتويها. إن عملا ذا نفس طويل، وخاضعا لمتطلبات البناء ومزيفا بهاجس التتابع، هو عمل من الإفراط في التماسك بحيث لا يمكن أن يكون حقيقيا".

لم يشعر سيوران يوما ما انه فيلسوف رغم اصرار صديقه صامويل بيكت على اطلاق لقب " فيلسوف العدم " عليه ، وظل يؤمن ان الكتب التي تستحق الكتابة تلك التي تكتب دون ان يفكر اصحابها في القراء ، ومن دون ان يفكرو ا باية جدوى او مردود مالي او معنوي ، والفلسفة بالنسبة له تكمن في طريقة عيشه للحياة .

في كتابه "مثالب الولادة" الصادر عام 1973 – ترجمه الى العربية آدم فتحي – يعود سيوران الى معلمه لوتريامون حيث يشير الى مازق الانسان في الوجود والذي يكمن في ولادته :" ليس من برهان على ما بلغته البشرية من تقهقر أفضل من استحالة أن نعثر على شعب واحد، أو قبيلة واحدة، ما زالت الولادة قادرة على أن تثير فيها الحداد والمناحات". ، فما بين الولادة، والموت، نعيش المأزق الحقيقي ، ومن اجل تجاوزه علينا ان نتمرد مرة او مرات ، والاهم ان نتمرد على انفسنا .

يخبرنا سيوران عن الغاية من كتابة " مثالب الولادة " ، بأنه دخل يوماً على أمه وارتمى على الأريكة وهو يصرخ " لم أعد أحتمل هذه الحياة "، فردت عليه : "لو كنت علمت ذلك لأجهضتك ، هذه العبارة ستلهمه فيما بعد فكرة مثالب الولادة التي اراد من خلاله ان يقول لنا انه ابن الصدفة :" ما دمت استطيع التملص من النظام عبر تغليب الصدفة فان حياتي كانت زائدة عن النظام ، إذن هي لا تمت الى النظام بل الى الحرية " .

في " مثالب الولادة" يقلب سيوران الأسئلة المصيرية ، فبدل الحديث عن الموت وعن هاجس الموت، يطرح سيوران سؤالاً أكثر جذرية من سابقه، وهو لماذا الولادة أصلاً؟ ، فالكارثة أو النكبة بالنسبة الى الانسان ليست في الموت، وإنما هي الولادة ، ولا شيء غير الولادة :" كابوس الولادة حين ينقلنا إلى ما قبل ماضينا، يجعلنا نفقد الرغبة في المستقبل والحاضر والماضي أيضاً. بمجرد التفكير في أن لا أكون ولدت، أي سعادة! أي حرية! أي مدى " .

ثمة قرابة خفية يمكن الشعور بها عند المقارنة، بين هذه الشذرات، التي تتخذ من مثالب أو مساوئ الولادة موضوعاً لها، وبين ما كتبه نيتشه في هكذا تكلم زرادشت ، فسيوران مثل نيتشه يؤمن بان الطريق امام الانسان مسدود :" انني مؤمن بالكارثة النهائية التي ستحل بعد وقت . لست ادري اي شكل ستتخذ لكني على يقين بانه يتعذر تجنبها " . وهو مثل نيتشه لا يكتب من اجل معاصريه ، وانما من اجل الجنس الجديد الذي سيولد من البشرية :" ان ما يثار حولي من ضجيج يزعجني ويخيب املي . كنت اعلم ان ذلك سيكون حتميا ذات يوم ، لكن كبريائي كان يصور لي انه سياتي بعد الكارثة المستقبلية . كانت تصوراتي تتوجه للناجين وليس للمحتضرين ".