شيء عن الرصافي في القدس سنة 1920

Tuesday 18th of May 2021 09:11:11 PM ,
4946 (منارات) (نسخة الكترونية)
منارات ,

رفعة عبد الرزاق محمد

كتب الكثير عن شاعر العرب الكبير معروف الرصافي، وتناول الكتاب جوانب مختلفة من سيرته وشعره، وعلى الرغم من كثرتها وتنوعها فقد بقيت حلقات مهمة من حياة شاعرنا، بعيدة عن اقلام الكتاب وتحقيقاتهم لاسباب كثيرة، كما ان بعض كتابنا الافاضل، ابتعد ــ بقصد - عن الحديث حول موضوعات معينة في حياة الرصافي درءا للتقولات (كذا)، مع ان الرصافي عاش ومات فوق الشبهات وبعيدا عن كل مايشين وطنيته وحبه لوطنه وامته، فضلا عن ان حياته صارت ملكا للتاريخ ومجردة من الحساسيات الشخصية.

ومن هذه الموضوعات حياته في فلسطين وقصيدته الذائعة التي القاها في القدس سنة 1920، وما اثير حولها من شبهات، ومقالنا محاولة اولية، لبيان (حقائق) و(طرائف) من حياة الرصافي في القدس، وكشف بعض الصفحات المطوية منها. انتهت الحرب الكونية الاولى، وانهار الحكم العثماني في بلاد الشام والعراق، وتأسست دولة عربية في سورية ترأسها احد انجال الشريف حسين هو الامير فيصل وفي هذا الوقت كان معروف الرصافي في اسطنبول، فسر سرورا كبيرا لقيام الدولة العربية وشعر بأن منصبا كبيرا في هذه الدولة العربية ينتظره، لانه كان شاعر العرب وقصائده في العرب وامجادهم سارت بين الناس مسار الامثال، لكنه لم يفز بما كان يأمله، ولم يظفر بشيء يسير. لقد لقي من الحكومة العربية في الشام اعراضا بسبب موقفه المعارض لثورة الشريف حسين سنة 1916 ونظمه قصيدته الميمية (الديوان/ 3/ 59). واكاد اعتقد بأن حاشية الملك هي التي لعبت دورا كبيرا في عدم الاهتمام بالشاعر العربي الكبير، وربما اسروا للملك مايذكره بأن هذا الشاعر كان قد تعرض لابيه في مناسبات سابقة، واصيب الرصافي بخيبة امل كبيرة، وأحس بالضيق واليأس، ولما كان شاعرنا من الذين فطروا على عدم الاستجداء والتراجع عن مواقفه السياسية، فقد قرر العودة الى وطنه العراق.

وفي غمرة استعداده الى العراق، وصلته دعوة كريمة لم تكن في الحسبان،اذ تدارك امره اصدقاؤه في فلسطين، اسعاف النشاشيبي وخليل السكاكيني وعادل جبر، وكانوا يومئذ يتولون امر التعليم في فلسطين فترامت الى اسماعهم اخبار صديقهم الرصافي فدعوه للتدريس في دار المعلمين بالقدس، فوافق على دعوتهم ووصل القدس يوم (3 آذار 1920) واصاب في وظيفته الجديدة بعض الراحة والاستقرار، حيث خصص له راتب قدره ثلاثون جنيها، وسكن لائق في احد اجنحة دار المعلمين، وقد ذكر هذه الحقيقة رفائيل بطي (ت 1956) نقلا عن اسعاف النشاشيبي (مجلة القلم الجديد العمانية، ايار 1953).

عاش الرصافي في القدس في دعة ورخاء، محاطا بعناية اهلها الكرام وهو القائل:

اصبحت بالقدس في امن وفي دعة وكدت من قبلها في الشام اعتفد

(الاعتفاد: ان يغلق الرجل بابه عليه فلا يسأل احدا حتى يموت جوعا وكانوا يفعلون ذلك ايام الجدب). ومن مظاهر هذا الرخاء، قيام طلبة مدرسة الشبان في القدس بتكريم الرصافي في حفل ادبي رقيق (الاتجاهات الفنية في الشعر الفلسطيني، كامل سوافيري ص 27). وقد اقتنت نظارة المعارف في فلسطين الف نسخة من ديوان الرصافي الموسوم (الاناشيد المدرسية) الذي نظمه في القدس على اقتراح الدكتور خليل طوطح، وكان يستشير بعض الموسيقيين قبل ان يبدي له موضوع النشيد لينسجم اللفظ والنغم، كما افادنا استاذنا عبدالحميد الرشودي (ذكرى الرصافي، بغداد 1950، ص 84) وقد بقي الرصافي يذكر باجلال واعجاب كبيرين حفاوة الفلسطينيين:

قد كان في الشام للايام مذ زمن ذنب محته الليــالي في فلسطين

اذ كان فيها النشاشيبي يسعفني وكنــــت فيها خليلا للسكاكيني

وكان فيها ابن جبر لايقصر في جبر انكسار غريب الدار محزون

واوحت فلسطين للرصافي بعدد من القصائد، هي: في سبيل الوطن، في ايلياء، دار الايتام، الحمد للمعلم، تحية سركيس . وخلال وجوده في فلسطين، نشرت الجرائد مقالا لشكري غانم المقيم في باريس صرح فيه بالتبرؤ من الامة العربية، فغضب الرصافي وظهرت غضبته في قصيدته (صبح الاماني) ورد على المقال ردا لامزيد عليه (الديوان/ 3/ 91) وعندما القى القائد الفرنسي (غورو) خطابه الشهير الذي تضمن روح التشفي والحقد على العرب، نظم الرصافي قصيدة لتسفيه الخطاب، سماها: العصبية في عصر المدنية (الديوان/ 3/99). ومما هو طريف ان نذكر هنا، ان الاستاذ سعيد العيسى ذكر ان الرصافي والنشاشيبي والسكاكيني وجبر، كانوا يسمرون كل ليلة في بيت السكاكيني، حيث تهيئ لهم ربة البيت (ام سري) اسباب الراحة وقد ظلت صورتها وعليها بيتان للرصافي معلقة في صدر صالون السكاكيني في القدس، حتى حلت النكبة في فلسطين..

أأم سري انت سلطانة اليها اطاعك منه ما عصى الناس اجمعا

ولم يرَ نقصا في محاذ ياك ناظري سوى ان كل الحسن فيه تجمعا

في اواخر سنة 1920 جاء القدس مستشرق يهودي اسباني يدعى (بن يهودا) وحل ضيفا على (هربرت صموئيل)، المندوب السامي في فلسطين، وقد القى هذا المستشرق محاضرة موضوعها (ماضي العرب في الاندلس) حضرها عدد كبير من اهالي المدينة، تزعمهم راغب النشاشيبي رئيس البلدية، ولكي لاينحاز مقالنا الا الى الحقيقة وحدها نسوق ما رواه شاهد ثبت لهذه الحادثة التي رددها خصوم الرصافي في اكثر من مناسبة ، وشاهدنا هو الاديب الكبير عجاج نويهض ، وقد نبهنا الاستاذ الفاضل عبد الحميد الرشودي الى امر نويهض ومقاله ( الرصافي كما عرفته ) المنشور في العدد الرابع من مجلة ( الفكر العربي ) ، فلنطلع على بعض ما جاء فيه :

(( .. وكان الرصافي والسكاكيني وعادل جبر يجلسون معا في صدر القاعة وانتهت المحاضرة وليس فيها مما ينتقد شيء يذكر ، غير ان الخيبرية اخذت تدب عقاربها من فم هربرت صموئيل ، لما نهض يشكر المحاضر والحضور والمحاضرة ، ثم اخذ يتطرق الى ماكان في رأسه وينقر نقرات حساسة هي عنده بيت القصيد ، ومما قاله صموئيل : والان مالنا وللذهاب الى الاندلس لنرى اثار العرب، فهنا في فلسطين نجد من اثارهم الناطقة بحضارتهم ما ينطبق على صحة الكلام للمحاضر . قتلك بلاد كانت للاسبان فقدوها ثم عادوا اليها . قال لي عادل جبر ما استطاع نقله بتمام حروفه تقريبا : لما نطق صموئيل بهذه العبارة ، حار الرصافي وهو بين السكاكيني يتكهرب ويتململ ، ثم راح يدمدم اشياء غير مفهومة وكاد يمتقع لون وجهه ، ومغزى صموئيل اوضح من ان يوضح ، اذ مراده ان اليهود عائدون الى فلسطين عودة الاسبان الى اسبانيا .

وذهب كل الى بيته ، واعتكف الرصافي في غرفته الخاصة في دار المعلمين ، واستبد به القلق في تلك الليلة ، وفي الصباح استفاق على قصيدة رد فيها على مغزى ما قاله صموئيل في اليوم السابق ولكنه ، وهو شاعر حر ، وليس بسياسي يالف الروغان ، رد على المجاملة بمثلها ، وبعد ذلك قال كأنه جزء من النبؤة السياسية ومنها هذا البيت :

ولكننا نخشى الجلاء ونتقي سياسة حكم يأخذ القوم بالقهر

وبعد سبع وعشرين سنة شاء الله امتحانا للعرب ان تتحقق هذه الرؤيا... وسرعان ما اثيرت على الرصافي عاصفة هوجاء احتجاجا على ماقاله من ابيات مجاملة . والصحيح ا ن ابيات المجاملة هذه كانت زائدة على المقدار ، ولم ينتبه الرصافي الى مافي ذلك من شطط لايفسر بانه ضرب من ضروب المجاملة ، ولكن العاصفة التي اثيرت عليه لم تكن تخلو هي الاخرى من شطط ، لانها كانت تريد النيل من راغب النشاشيبي من فوق راس الرصافي لاسباب حزبية ضيقة . كما ضويق الرصافي وهو الرجل الحساس. وقد نشر عادل جبر في جريدة (فلسطين) كلمة بين فيها ما للرصافي من حسن مقصد ، و حصر المجاملة بمقتضاها لا اكثر ونوه بمواقف الرصافي في سبيل العرب من ايام الاستانة ، فتلاشت العاصفة ولكن اثرها المر بقي في نفس الرصافي .. ))

ونستدرك على ماقاله الاستاذ الكبير عجاج نويهض مؤرخ الحركة الوطنية الفلسطينية ان جريدة ( الف باء ) المقدسية ، بأن نشرت قصيدة الرصافي غير كاملة ، مما اثار بعض من عد ذلك غريبا في بابه ،حتى ان احد الذين ردوا على الرصافي اظهر ندمه الى العلامة الشيخ عبد القادر المغربي وقال : ان الذنب ذنب مراسل (الف باء) الذي لم ينشر القصيدة كاملة من اول الامر فلم نعرف ما قاله الرصافي فيها ( رسالة المغربي الى الرصافي نشرها الرشودي في رسائل الرصافي ) .

وبسبب هذه الضجة التي اثيرت ضد الرصافي ، ذكر بعض الكتاب ان الرصافي فارق القدس مضطرا . والحقيقة ان الضجة لم تكن سوى ( زوبعة في فنجان ) كما يقولون ، فسرعان ما انتهت وتلاشت آثارها . وفارق الرصافي القدس لسبب اخر لايتعلق بالحادثة باي شكل من الاشكال ، فقد ذكر الرصافي فيما بعد الى صديقه الاستاذ كامل الجادرجي ، ما فحواه انه تلقى برقية من صديقه حكمة سليمان يدعوه فيها للعودة الى العراق لاسباب وطنية . وتبين ان جهة من السياسيين العراقيين الملتفين حول طالب النقيب وزير الداخلية في الوزارة العراقية المؤقتة ، ارادت اصدار جريدة سياسية لتكون لسان حال الجبهة التي نادت بفكرة ( العراق للعراقيين) .

ولما وصل الرصافي الى بغداد في التاسع من نيسان من السنة التالية ، بعد انتهاء مؤتمر القاهرة الذي تقرر فيه توجيه عرش العراق الى الامير فيصل بن الحسين وجد ان طالب النقيب قد انتهى سياسيا بنفيه الى خارج العراق وتشتت مؤيديه وموت المشروع في مهده . وقبل بوظيفة ( نائب رئيس لجنة التعريب ) التي سرعان ما سئم منها لاعتقاده انها وظيفة وهمية ابت كرامته ان يستمر بها ...

وبعد فهذه صفحة منسية من حياة الشاعر الكبير الرصافي ، لم يشر اليها الكتاب الا عرضا ، كتبتها وصولا الى غاية رئيسة ، هي دفع الشبهة التي ردده البعض بلا ترو وتحقيق.