قصة الحب العجيبة بين بغداد وروما سنة 1621م

Sunday 23rd of May 2021 09:42:52 PM ,
4949 (ذاكرة عراقية)
ذاكرة عراقية ,

الأب بطرس حداد

ولد بيترو ديللا فاليه في روما عام 1586 من عائلة ايطالية رومانية عريقة ماتزال تحتفظ الى اليوم بشارع يحمل اسمها في قلب روما وكنيسة فخمة شيدها احد افراد العائلة، اهتم هذا الرحالة بالموسيقى والشعر والعلوم واتقن فنون الفروسية كجزء من متطلبات الانتماء الطبقي الارستقراطي.

وعندما فتح عينيه في شبابه على فتاة من طبقته احبها حبا متدفقا. ثم صارحها فصدّته ولم تبادله الحب، مما شكل لديه صدمة كبيرة اثرت على مجرى حياته. لذلك اختار الرحيل والتجوال في ارجاء المعمورة بحثا عن الحقيقة الكبرى كما قال في احدى رسائله.

في 8 حزيران 1614م سافر الى اسطنبول وهناك عاش سنوات من الجد والبحث حتى تعلم اللغة وكتب في نحوها واستعمالاتها والف كتابا. ثم قرر الرحيل شرقا لكن الظروف الامنية الصعبة جعلته يتحول عن التوجه الى بلاد فارس ليمضي في الطريق الى مصر وفلسطين حيث حج الى القدس. ثم بعدها توجه الى سوريا وبعدها الى العراق. قبل التوجه الى العراق كانت احواله النفسية قد تحسنت فكتب الى اهله في روما ليجدوا له رفيقة العمر. فيما هو في سوريا يهم بالرحيل الى العراق التقى (اليساندرو اليساندري) صديقه الرحالة الايطالي الذي كان قد عاد من بغداد للتو. فاستفسرمنه (دللا فاليه) عن احوال العراق وشؤونه وشجونه، فحدثه الرجل وشرح له الخواص العامة للبلاد واهلها. اثناء الحديث تطرق الى عائلة بغدادية مرموقة ومضيافة يشتغل رئيسها في التجارة والتعامل مع التجار الاجانب وهي (عائلة جويريدة) المسيحية البغدادية المعروفة. ثم تطرق للحديث عن احدى بنات العائلة واسمها( معاني جويريدة ) لما تتمتع به من صبا وجمال وثقافة واتقان للغتين العربية والتركية. حينها وبصورة غريبة ولا واعية دق قلب (ديللا فاليه) وسجل في يومياته :

(( لقد تغير وقع كلامه في نفسي فاخذ يتسرب الى اعماقي ويحتل تفكيري بعد ان اعاد وكرر الوصف وقلت في نفسي حتى لو لم يكن لدي غاية لاسفاري فهذه الفتاة كافية لارحل الى بغداد والمكوث هناك لتحقيق هذا الغرض وهكذا تحول الشوق بعد قليل الى حب... كنت انصت اليه في اول الامر لتمضية الوقت لاغير، ثم بالتدريج تولد في نفسي شوق كبير للتعرف الى هذه الفتاة، وتحول بعدها الشوق الى حب))!

فيما هو يتهيا لترك سوريا والرحيل الى بغداد خامره احساس بالندم لانه كتب الى عائلته في روما ليجدوا له رفيقة العمر. بدا رحلته يوم 18 ايلول 1616 الى (بلاد النهرين) كما كان يطلق على العراق انذاك. كان الطريق طويلا والرحيل فيه مشقة. كانت القافلة تتكون من الف وخمسمائة شخص ولها اربعون خيمة يحرسها العشرات من حراس الليل المدججين بالسلاح من هجمات قطاع الطرق واللصوص والخارجين عن سلطة مشايخهم وعشائرهم ..وفي 20 تشرين الاول 1616 توجه الى بغداد.ووجد ان المدينة تقع على دجلة وتنقسم الى قسمين بناؤها من الطابوق القديم والبيوت واطئة تفاديا للحر الشديد وهناك جوامع كثيرة فيما يسكن الوالي في بناء كبير يسمى القلعة يطل على النهر في نهاية المدينة عند السور. وهناك اسواق تجارية عامرة وبساتين مثمرة بين البيوت تثمر فاكهة وخضارا. فيما يتعب البغداديون بسحب المياه من النهر بطريقة الكرود وليس النواعير كما في مصر. وسكان بغداد مسلمون من مختلف الميول ومطلوب ان يسوسها الوالي بالعقل اكثر مما بالقوة !!

في بغداد راحت مشاعره تفور وصبره ينفد وكان يعد الساعات ليصل ويمتع ناظريه بتلك الفتاة التي ملكت حواسه. يبدو ان العناية الالهية قد لعبت دورها في صناعة الحدث حيث عرف السيد (حبيب جان) والد (معاني) بقدومه وانه صديق(اليسندرو اليسندري) فاستقبله واكرمه واختار له سكنا يحتوي من الاثاث والافرشه ما يحتاجه اي اوربي، من طاولة الكتابة والكراسي وغيرها. ثم يصف ذلك المنزل وسقف الغرفة المرسوم بريشة فنان حيث يطلب من مرافقه الرسام تصوير ذلك التزويق ونقله معهم الى روما. وييدوا استمر باالبحث عن اخبار فتاة حلمه من خلال المعارف. فهو في مذكراته يتحدث عن توهج مشاعره ين يصف له مساعدوه تلك الفتاة وسحرها وجمالها عندما ارسلهم لتقديم الهدايا لعائلة السيد (حبيب جان جويريدة) والد (معاني). اخيرا صمم (ديللا فاليه) على زيارة العائلة مباشرة والتعرف اليهم وتقديم ايات العرفان لرب الاسرة لجهوده وتكريمه. هناك تعرف عن قرب الى (معاني) التي ضيّفته بفاكهه اصبحت فيما بعد : ((بذرة لثمار في قلبي)).. كما يقول في وصفها في احدى رسائله:

((انها من (بلاد اشور) عمرها ثمانية عشر ربيعا تتحلى بصفات حميدة ومواهب طبيعية جمالها معقول يقارن بجمال اهل البلاد. لونها حار فهي سمراء شعرها اسود اجفانها طويلة ظلال العينين توحي بالوقار. تتحرك بحشمة وجلال. جسمها متكامل معتدلة، سريعة الخطوات، نبيلة في مشيتها حلوة في حديثها جميلة في ضحكتها. اسنانها صغيرة بيضاء. انها بكلمة واحدة تتصف بكل ما كنت اتتمناه في المراة. اسمها (معاني) ترعرعت في (بغداد) منذ نعومة اظفارها. واسم عائلتها (جويريدة). وكان ابناء عائلتها من اكابر القوم. امها (ارمنية) ووالدها من (السريان المشارقة نسطوري) تتبعه زوجته وعياله باداء طقوس الديانة. اما سيدتي (معاني) فتعتبر العربية لغتها الطبيعية، لكنها تتكلم التركية جيدا وهذا يجعلنا اكثر تفاهما. (هذا يدل على ان الرحالة كان يتقن التركية اكثر من العربية).

ويمضي الرحالة في الوصف العام للبلاد والازياء والناس لكنه لايغفل عاطفته تجاه تلك الفتاة البغدادية التي اسرته وجعلت جرحه العاطفي الاول يلتئم، فقد كان غير قادر على مقاومة رغبة الامتلاك وكلما كثرت زياراته والدعوات المتبادلة بينه وبين هذه العائلة ازداد شغفا وتعلقا بها حتى حانت لحظة القراريقول:

(( التجأت اولا الى امها لاني لاحظت ان لديها عطفا كبيرا علي، ففي احد الايام ركعت امامها واخذت يدها فقبلتها واقسمت اني لن انهض مالم تعدني باعطائي ابنتها. شدهت المراة من عملي لكنها ضحكت فيما بعد وكانها تشير الى امكانية تلبية رغبتي)). لكن الامر لم ينته بعد فقد كان على العاشق المدلّه ان يتحدث الى والدها فهو بالرغم من قناعته انهم يثقون به وبمكانته من خلال عشرات الرسائل والتزكيات والتوصيات الدبلوماسية التي اطلعت عليها العائلة فانه مطلوب منه اقناع والدها وكسب ودّه ورضاه. ورغم ذلك فقد تردد الاب كثيرا نظرا لتقدمه في السن ولان (معاني) هي كبرى بناته الخمس ويخاف ان تغادر الى البلاد البعيدة ويقول: ((لقد تحير الاب كثيرا وخشي ان يخطيء في قراره فقبلني ورفضني اكثر من مرة لكنه وافق على مضض اخيرا )).

ويتم الزواج البغدادي بين (ديللافاليه) و(معاني جويريدة) في حفل بغدادي لم ير مثله هذا النبيل الايطالي في حياته وخلال رحلاته. وكان يجد في هذه الزوجة مكملا لشخصه في الحياة وفي الجهد العلمي وفي تعلم اللغات واصول الافعال والاعشاب وغيرها فيكتب :

(( انه لامر غريب حقا لعله لم يحدث من قبل ابدا بين رجل وزوجته ان لايعرف الواحد لغة الاخر وبالرغم من ذلك فهما يتكلمان دائما ويتفاهمان جيدا بلغة ثالثة(التركية) ليست لغة احدهما. فانا لم اتقدم في تعلم اللغة العربية رغم وجود الست (معاني) معي كما انها لم تتعلم اللغة الايطالية رغم ضرورتها واهميتها )).

تمكن الرحالة من اقناع زوجته ان تصاحبه في رحلته الى بلاد فارس. يقول:

(( في الطريق من بغداد الى هنا ونحن نقطع الفيافي والجبال وقد غمرنا صمت عميق. وفي الليالي الحالكة وانا بقرب زوجتي الحبيبة باغتني ملاك الشعر واذا بالشعر يتدفق تدفقا عجيبا من مخيلتي فاردت الاقتداء بالاقدمين فاضع قصيدة اكراما لزوجتي اصف فيها رحلتي واعبر فيها عن حبي ووضعت لهذه القصيدة الغزلية اسما هو ( اكليل جويريدة) نسبة الى اسرة معاني )).

لقد شرع الرسام الذي يصطحبه في رحلته يرسم صورة لمعاني فيما هي مشغولة باهتمامها بانجاب الاطفال. وكانت تستعجل قدر الانجاب الذي تاخر فكانت تتعاطى اعشابا وعطاريات وتنصح زوجها بتعاطي الخمر لانه يزيد من طاقة الانجاب كما تظن، فيما كان ينصحها ان تتحاشى هذه الافكار وهي مهمومة بحلم الحمل والانجاب. وحين ياخذه الحنين يقرر الرحالة العودة الى بلاده صحبة زوجته العراقية البغدادية التي احب. عندما كانا مايزالان في هرمز وفي شيراز اخبرته (معاني) بالخبر السار: ((انني احمل جنينا في احشائي هو ثمرة حبنا بعد سنوات من الانتظار كان ذلك يوم 27 تموز 1621)). ووسط ذلك الفرح والابتهاج بالخبر تصاب زوجته معاني بالحمى في مدينة ( مينا )، وترتفع حرارتها بشكل يؤدي الى اسقاطها الجنين. وتظل حرارتها في صعود: (( حتى انهكت قواها ولم تجد العقاقير المتوفرة نفعا فاسلمت روحها يوم 30 كانون الاول 1621 وعمرها ثلاثة وعشرون عاما)).

لكن الرحالة العاشق، يرفض التخلي عن زوجته حتى بعد موتها. فقد اتخذا قرارا جنونيا لا يتخذه الا المتولهين بنيران الوجد والعشق: (( لقد قررت ان لا اواريها الثرى في هذه البلاد بل ساحمل جثمانها الى مقبرة ابائي واجدادي في كنيسة اراجيلي في روما في ظلال الكمبيدولو التل العجيب)). فقام بتحنيطها بوضع كمية كبيرة من الكافور الهندي في داخل جثمانها واوصى على صندوق من خشب الصندل المحكم سده بمسامير حديدية كبيرة حفظ في داخله جثمان زوجته( معاني جويريدة). وخلال ترحال جنوني يثير العجب ظل يصطحب الجثمان مدة اربعة اعوام، من بلاد فارس الى الهند والبحر العربي والعراق وسوريا حتى اوصلها الى روما وانزلها بيديه في ضريح الاسرة في اجمل كنائس روما وقداصبح قصر( ديللافاليه) مزارا يجد فيه الزوار نوادر التحف والازياء والمومياء المصرية والمخطوطات الشرقية واللوحات والاثار التي حملها من رحلته الى الشرق ووضعها جوار قبر زوجته العراقية (معاني جويريدة). وللاهمية التاريخية التي مثلتها رحلة (ديللافاليه) وتجربته ردد غوته الشاعر الالماني الشهير:

((ان قراءة رحلة ديللافاليه كشفت لي عن الشــرق ))!!

م . آفاق عربية/ 1992