في كرادة مريم.. من ذكريات انتخابات سنة 1954

Sunday 13th of June 2021 09:11:30 PM ,
4964 (ذاكرة عراقية) (نسخة الكترونية)
ذاكرة عراقية ,

زاكي جمال الشوك

الزمان 1954. المكان مركز الشرطة في كرادة مريم. المناسبة الانتخابات العراقية، وهي كانت آخر انتخابات في العهد الملكي. لكن نوري سعيد ألغاها، وعطل البرلمان، لأن المعارضة استطاعت الفوز بعشرة نواب، عشرة فقط. ومع ذلك قرر إلغاءها، وأبطل كل مظهر من مظاهر الحياة الدستورية. وشهد أخي وليد في هذه المناسبة مسرحية ظريفة.

في يوم الانتخابات توجه وليد إلى مركز الانتخابات لمنطقتي الكرادة، الشرقية وكرادة مريم. وأدلى بصوته للمرشح عباس حسن جمعة من الحزب الوطني الديمقراطي، الذي لم يفز، بل فاز منافسه عبد الكريم الأزري مرشح الحكومة. وسأعود إلى عبد الكريم الأزري الذي قدم شهادة مذهلة عن هذه الانتخابات.

فور خروج وليد من مركز الانتخابات، تقدم نحوه شرطيأن يحمل كل منهما بندقية برمح، واقتاداه إلى مركز شرطة كرادة مريم، الذي كان قيد خطوات، وهو يردد هذه الكلمات: «هذه حكومة قراقوش». وظل يردد هذه الكلمات عندما أدخلاه مركز الشرطة. فبلغت أسماع كل من في المركز، شرطة ومراجعين. وسمع مفوض شرطة كان واقفاً في الطابق الثاني خلف سياج مطل على حوش الدار، فصرخ «اخرس» (قالها باللهجة العامية المهينة)، موجهاً كلامه إلى أخي وليد، فرد عليه وليد: «اخرس أنت». فأسرع المفوض لينزل الدرجات، ويلقن وليد درساً لأنه أهان موظفاً «عسكرياً» وهو في دائرته.

لقد أهلكنا أخي وليد من الضحك حين روى لنا هذه الحادثة. أسرع المفوض في خطواته، وتقدم نحو وليد ليضربه بكف على وجنته. لكن وليد لم يتح له أن يسدد ضربته، بل عاجله هو بكف على وجهه. وهنا حصل مشهد يدعو إلى الضحك والاستغراب. هجم المفوض على وليد، وقبض بشعر رأسه، فنتف منه مقدار قبضة من شعره. وكانت تلك بداية الصلع في رأس وليد! وهجم أفراد الشرطة لا لينتصروا لمفوضهم، بل ليباعدوا بينهما، ويقودوا أخي وليد إلى غرفة المعاون، المسؤول عن المركز، الذي سمع الآن هذه الضجة وحاول أن يرى جلية الأمر. (طبعا هو لم يكن جاهلاً بما جرى، لأنه هو الذي أوعز بتوقيف أخي). وعاد المعاون إلى مقعده خلف الطاولة عندما اقتاد شرطيان أخي إلى غرفته. في هذه الأثناء، كان المفوض قد قطع زرين أو ثلاثة من جاكيتته العسكرية ليزعم أن أخي فعل ذلك عند الاعتداء عليه، ليكون ذلك إثباتاً جرمياً يدان عليه أخي عند المحاكمة. ثم دخل الغرفة وضرب أخي وليد بكف ليرد الاعتبار لنفسه. فلم يفعل أخي شيئاً أمام المعاون، الذي يعرف من نحن، ومن هو أخي وليد. (كان المعاون من عائلة القريشي). وأوعز لوليد بالوقوف إلى الجدار، ثم ألقى على وليد خطبة حول تصرفه الفظ مع موظف حكومي. وبعد نصف ساعة أطلق سراح وليد. ولم يقدم المفوض شكوى!

– مستحيل، قال طارق، وليد، ذاك «الولد» الرقيق كفتاة يضرب مفوضاً في دائرته؟

– لكن، ألا ترون أن هذا كان في أيام العهد الملكي، أو هل أقول في أيام نوري السعيد، قالت سلمى. أنا لا أعتقد أن شيئاً كهذا يمكن أن يحدث في عهد آخر من العهود التي شهدناها.

ثم قال وصفي: – لنستمع إلى بقية الاعتقالات.

– لكن القصة لم تنته هنا، قلت لهم. هناك تتمة مثيرة جداً للاهتمام.

(ما سأذكره سأنقله من أوراق زوجي فاضل، لأنه يروي الخبر بتفصيل أدق).

يحدثنا السيد عبد الكريم الأزري، الوزير والنائب الذي تم انتخابه في هذه الدورة ممثلاً للحكومة، في مذكراته عن هذه الانتخابات، قائلاً: إن القائم بأعمال السفارة الاميركية ببغداد السيد فيليپ آيرلاند، زاره بعد انتهاء الانتخابات، وكان شاحب الوجه، بادي العصبية، على حد قول الأزري. وسأل الوزير عبد الكريم الأزري: ما رأيك في نتيجة الانتخابات النيابية؟

الأزري: أعتقد أن سؤالك ينصب على فوز النواب العشرة المعارضين، أليس كذلك؟

آيرلاند: بالضبط، هذا هو المقصود من سؤالي.

الأزري: بكل تأكيد، إذ لا خوف من إفساح المجال للمناقشة الحرة والحوار مهما اتسم بالقوة. إذ يجب التنفيس عما يجول في صدور الناس.

آيرلند: إني متخوف من أن يتكرر في العراق ما حصل في إيران، حيث تمكنت حفنة من النواب الايرانيين لا يتجاوز عددها أصابع اليد، بقيادة مصدق، وبما كانت تملكه من قوة بيان وبلاغة، من أن تسيطر على مجلس النواب الايراني، فانتزعت الحكم من يد الشاه وطردته من ايران. ولولا العناية الإلهية (في واقع الحال الاستخبارات الاميركية والبريطانية) التي أنقذت ايران من براثن الشيوعية بواسطة حركة زاهدي لكانت ايران اليوم في أسوأ حال... والوضع في العراق أضعف منه في ايران. والنواب المعارضون هنا أقوياء جداً. ولا يقوى النواب المعتدلون ولا النواب الحكوميون (...) على الوقوف بوجههم والتغلب عليهم. إن الوضع بوجود هذا المجلس وهذه المعارضة القوية، خطر جداً، والمستقبل مظلم وقاتم.

يعقب فاضل في أوراقه: لا شك أن المستر فيليپ آيرلاند لم يزر عبد الكريم الأزري وحده لهذا الغرض. لا بد أنه قابل الملك وولي العهد، ورئيس الوزراء (نوري السعيد)، قبل ذلك، لعرض وجهة نظره هذه... ثم ألغيت الانتخابات، وجمد البرلمان. وكان ما كان من عقد حلف بغداد، والاتفاقات الثنائية والثلاثية مع الدول العربية والسائرة في ركابها. فمن كان يحكم العراق بالفعل.

هنا ترنم الدكتور طارق بأغنية فيروز :دخلك ياطير الوروار / سلم لي ع الحبايب.

عن كتاب (اوراق بغدادية) الصادر عن دار المدى.