«أرض الله الصغيرة” لإرسكين كالدويل: في سبيل الذهب

Tuesday 15th of June 2021 09:30:26 PM ,
4966 (منارات)
منارات ,

إبراهيم العريس

يصعب العثور في الحياة الثقافية الأميركية على عمل روائي اضطر لخوض المعارك الرقابية اضطرار رواية “أرض الله الصغيرة” لخوضها. فهذه الرواية التي نشرها مؤلفها إرسكين كالدويل للمرة الأولى في العام 1933 ظلت ثلاثين أو أربعين سنة بعد نشرها تمنع في هذه الولاية الأميركية أو تلك وتُحاكم ودائما بتهمة “الإباحية”.

والحقيقة أنه إن كان في الرواية حقا بعض المشاهد “الديونيسية” وبعض العلاقات المنحرفة، فإنها لم تكن تتجاوز في هذا ما تحمله روايات أميركية أخرى صدرت وقُرئت ولم تدن منها أية رقابة. ومن هنا يبقى مصير هذه الرواية لغزا محيّرا، ربما نفسره بعد سطور، دون أن ننسى واقع أن الضجبج الذي ثار من حولها أوصل مبيعاتها إلى ما يزيد عن عشرة آلاف نسخة خلال سنوات قليلة، ناهيك بأن هيئة النشر العسكرية الأميركية أصدرت منها طبعة خاصة للجنود... خلال الحرب العالمية الثانية. ويقينا أن ذلك لم يكن بفضل “إباحية الرواية” المبالغ في تقييمها، بل بسبب إجتماعيّة موضوعها و”قوتها التعبيرية” و”كونها تتغلغل داخل المجتمع الجنوبي الأميركي لتصوّ واقعه بقوة لافتة” بحسب تعبير معظم النقاد.

حكاية عائلة ما...

كما حال معظم الروايات الأميركية المزامنة والمشابهة تدور أحداث رواية “أرض الله الصغيرة” ضمن إطار عائلة تبدو عادية في ولاية جورجيا بالحنوب الأميركي. وهي ترينا رب العائلة تي تي وقد علم أن ثمة كنزا من الذهب مخبوءا في باطن أرضه الزراعية. وعلى هذا النحو نراه يهمل زراعة الأرض باستثناء قطعة مجاورة لبيته يسميها “أرض الله الصغيرة” سيعهد بزراعتها إلى العناية الإلهية محوّلا بقية أراضيه إلى ما يشبه منجم الذهب متوقعا، عن ثقة مدهشة، بأن الذهب لا بد سيظهر يوما. ويستنفر تي تي في سبيل ذلك الهدف أولاده وكنته وأصهرته ومزارعيه وهو على يقين من أن الثروة ستهبط عليه ذات يوم. غير أن الذي سيحدث لن يكون أكثر من تفكك حقيقي إجتماعي وأخلاقي يصيب العائلة كلها، فلا يعود زوج مخلص لزوجته ولا إمرأة وفية لزوجها... ويفقد الأبناء احترامهم لأبيهم، كما لا يعود الأب قادرا على الشعور بأي حنان تجاه أولاده، بل إنه لا يتورع حتى عن مغازلة كنّته.

والأدهى من هذا أنه يعلم ذات يوم أن ثمة في المنطقة أفرادا من شعب يقال له “الألبينوس” من خصائصهم أنهم يعرفون جيدا كيف يحددون وجود الكنوز في منطقة ما ويقدرون على التنقيب عليها. وهكذا يندفع تي تي بمساعدة بعض من أفراد عائلته لخطف واحد عثروا عليه من أبناء ذلك الشعب، هو ديف الذي يجرّونه إلى المزرعة كي يعثر لهم على الذهب... لكن ديف هذا سرعان ما ينغمس في الحياة الغريبة المنحلّة التي باتت تعيشها هذه العائلة إذ يصبح واحدا منها، ليس لطمعه بالذهب، بل لانغماسه في العلاقات العائلية، وكذلك لشعوره أن تطلعاته “البروليتارية” تتلاقى في نهاية الأمر مع كفاح هذه العائلة في سبيل الوصول إلى مستوى لائق من العيش، إذ يتعين ألا ننسى هنا أن القسم الأول، والأفضل من “أرض الله الصغيرة” يتضمن وقوفا صلبا في مناصرته لإضراب عمال النسيج في المنطقة، ثم ثمة بعد حين نوع من صراع “إيديولوجي” بين من يمثل الطبقة العاملة ومن يمثل طبقة الفلاحين، ونعرف أن كالدويل مؤلف الرواية إنما كان يعكس في هذا الجانب من روايته سجالات صاخبة تدور من حول “رجعية” الفلاحين في مقابل “تقدميّة” العمال، وهي سجالات لا شك أنه حملها معه من الإتحاد السوفياتي الذي كان زاره في ذلك الحين، زمن الستالينية بالطبع، وعاد منه بانطباعات جيدة كما سوف نرى، يمكننا أن نفترض هنا أنها هي التي ألّبت عليه جمعيات حماية الفضيلة وجعلتها تكتشف “مدى ما في أدبه من إباحية».

ومهما يكن من أمر لا بد أن نتوقف هنا عند واقع أن “أرض الله الصغيرة” تكاد تعكس معظم المواضيع التي امتلأ بها أدب إرسكين كالدويل وبخاصة الحنان، والجنس والهزل الصاخب، كل تلك السمات التي جعلت منه واحدا من أكبر أدباء الولايات المتحدة شهرة في العالم، وعلى الأقل بسبب روايتين له، ترجمتا إلى شتى لغات الأرض: «طريق التبغ» و«أرض الله الصغيرة» التي نتحدث عنها هنا. ومع هذا، ورغم انتشار أدبه ذلك الانتشار الكبير، نادرا ما صُنّف كالدويل في خانة أدباء الصف الاول الاميركي إلى جانب إرنست همنغواي أو وليام فولكنر. ومن هنا اعتبر على التوالي أصغر الكتّاب العظام، أو أعظم كتّاب الصف الثاني.

رؤى المراهق

بيد أن ليس ثمة أدنى شك في أن كالدويل كان من أفضل الذين سجلوا مدونات حياة وآلام الريفيين في الجنوب الأميركي، لا سيما البائسين منهم والمحبطين والذين نادرا ما تتحقق آمالهم. وهذا ما جعله ذا حظوة في فرنسا والاتحاد السوفياتي تفوق حظوته في بلده الأم. غير أن هذا لم يمنع عالم الأدب من نسيان كالدويل بشكل شبه تام، بحيث إن الكثيرين تساءلوا حين رحل الرجل عن عالمنا ذات يوم ربيعي من العام 1978، كيف يموت الآن وكنا نعتقده ميتا منذ زمن بعيد. ذلك أن أدب كالدويل العنيف والكلاسيكي والواقعي إلى حدود التخمة تبدى، خلال النصف الثاني من القرن العشرين، أدبا ينتمي إلى عوالم ماضية. والحال أن كالدويل نفسه كان يشجع على ذلك، فهو لم يسع أبدا إلى تطوير لغته أو أساليبه، وظل رصده للواقع الاميركي رصدا متشبعا برؤى المراهق الذي كانه، خلال الربع الاول من هذا القرن، حين قيض له أن يرافق أباه الكاهن المبشر، متجولا بين كنيسة وأخرى في ولاية جيورجيا الجنوبية مسقط رأسه. ولقد أتاح ذلك التجوال لإرسكين أن يرصد أحوال الناس ويدخل إلى سرائرهم، ما وفر له ترسانة معرفية تتعلق بطبائع البشر وعلاقاتهم وتطلعاتهم، ساعدته كثيرا في كتاباته اللاحقة. وهو وصف هذا كله في الكتاب الفذ الذي وضعه عن أبيه في 1968 بعنوان «الجنوب العميق: مذكرات وملاحظات»، فأتى مكملا لكتاب ذكريات سابق كان أصدره أوائل الخمسينات ووصف فيه تكوّنه كروائي، وهو الكتاب الذي ترجم ونشر بالعربية لدى «دار الهلال» القاهرية.

على عكس الكتاب الآخرين من أبناء جيله، كان من نصيب كالدويل أنه قرر منذ حقبة مبكرة في حياته أن يصبح كاتبا، لذلك انتقل إلى ولاية ماين الشمالية في 1926، وكان في الثالثة والعشرين من عمره، حيث بدأ تجاربه التي اوصلته في 1932 إلى نشر «طريق التبغ» التي حققت له على الفور شهرة واسعة، خصوصا وإن تحويلها إلى مسرحية وعرضها في برودواي طوال سبعة أعوام ونصف العام على التوالي، كان ظاهرة لافتة في ذلك الحين. لكن كالدويل لم يركن إلى ذلك النجاح، بل استفاد منه لمواصلته الكتابة، فأصدر على الفور «أرض الله الصغيرة» (1933) ثم «اضطراب في تموز» (1940). وهو بعد كتابه الروائي الرابع «طفل جيورجيا» (1943) راح يكتب القصة القصيرة، والتحقيقات الصحافية اللافتة التي غالبا ما كانت ترافقها صور التقطتها زوجته المصورة مارغريت بورك - وايت. وهو برفقتها زار الاتحاد السوفياتي حيث تابعا الغزو الالماني للأراضي السوفياتية خلال الحرب العالمية الثانية، ولذلك اعتبرا على الدوام صديقين مخلصين لذلك البلد، وهو ما جر عليهما مشاكل عديدة في بلدهما. بقي أن نذكر أن آخر سنوات حياته انفقها كالدويل في تدوين مذكراته وكتابة القصص القصيرة، ناهيك عن خوض النضال الاجتماعي الذي طبع أدبه ككل ولم يتخل عنه لحظة واحدة.

عن الاندبندنت