لميعة عباس عمارة.. فتاة بغداد

Wednesday 23rd of June 2021 09:11:32 PM ,
4972 (عراقيون) (نسخة الكترونية)
عراقيون ,

رشيد الخيّون

رحلت بسان دييغو الأميركيّة فتاة بغداد في زمانها، الشاعرة والشخصيّة الثقافيَّة لميعة عباس عمارة(1929-2021)، وقبلها رحل بالمنافي، في فترات متلاحقة، كبار مِن وجوه العراق، لم يجدوا لهم مكاناً بالعراق الجديد، عِراق لم يعد يعرفهم، شُغل عنهم بتقاذف الصواريخ والطائرات المسيرة، بسيطرة الكهنوت على مفاصل اللادولة، واللادولة عنوان لكتاب لأحد الكبار في مجاله، مَن أبتلعهم تراب المنافي، فالح عبد الجبار(ت: 2018).

ساهمت وزارة الثقافة العِراقية بشخص وزيرها حسن ناظم في نشر كتاب «اللادولة»، ومع ذلك عندما تطول أيدي الكهنوتيين، تُقصر يد الوزير المثقف، فأعواد منابرهم أعلى مِن منبر الوزارة، التي تحاول وسط خراب اللادولة النهوض، لذا لم يبق مكان لفتاة بغداد التي شغلت الخمسينيات والسيتينات بحضورها اللافت. حتى قضت شيخوختها في وحشة الاغتراب، والقول لها: «فإذا بيدي تمتدُ للصدقات يرميها الذي قتل الحضارةَ للقتيلِ»(مجلة الكلمة، 106/ 2016) .

يُنبيك زمن عمارة، وهي تتصدر المنتديات الأدبية ببغداد، أن الماضي هو المرتجى، فقيل كان البابليون يعدون الماضي مستقبلاً(كلشكوف، الحياة الروحية في بابل)، فإذا نظرنا في حياة فقيدتنا نغلق أعيننا عما حولنا، كي لا نفسد على أنفسنا الأمل بالماضي، أقولها حقيقةً لا مجازاً.

ولدت عمارة ببغداد، من أسرة صابئية مندائية، ثم عادت إلى بلدة والدها العمارة مركز ميسان اليوم، لتقضي الطفولة والصبا، وهناك نبغت بالشِّعر العامي، بما تسميه «غزل البنات». كان الجد محافظاً، حرم عليها «الغزل»، بعدها درست في دار المعلمين العاليَّة، وتلتقي هناك بكبار في فنونهم، بزميليها بدر شاكر السِّياب، وعبد الوهاب البياتي، وبأستاذتها علي الوردي، ومصطفى جواد، وسمت الأخير قاموساً متنقلاً: «أكثر من أثر بي، كان قاموساً متنقلاً، ومع ذلك كان يحمل قاموسه في جيبه... فتعلمنا منه أن لا استغناء عن المراجع، وتعلمنا منه الدِّقة والتَّواضع».

حدد اختلاف الدِّين علاقتها بمَن أُعجبوا، بحدود الزَّمالات والصَّداقات، فالحريَّة عندها مقيدة بثقة أسرتها، لتنتهي كل عواصف الاعجاب وتخمد بزواجها مِن طائفتها، ومع كلِّ التَّقدم الذي كان عليه المجتمع إلا أنَّ التَّمييز الدِّيني لا يشعر به غير المتضرر، سمته لميعة المندائيَّة ب«المُبطن»، غير أن ذلك التمييز لم يصمد أمام نبوغ المندائيين، ومِنذ بغداد العباسية.

كان محمد مهدي الجواهري(ت: 1997) ملهماً للشاعرة الفتاة، حسب عبارتها: «حبيبنا الجواهري». كان رئيس اتحاد الأدباء(1959) وهي عضوة في هيئته الإدارية. تقول: «كنا نصغي عندما يتكلم، ونراقب عندما يتحرك، محظوظة أنا لأني ولدت في زمن كان فيه الجواهري»(مجلة الكلمة) .

لم تحمل فتاة بغداد، ومالئة منتدياتها، سوى ذاكرتها، اغتربت «بلا ماضي»، غير مَن قالت فيه: «بلادِي ويَملأَنِي اَلزَّهْوُ أَنِّي/ لهَا أنتَمِي وبِهَا أتَبَاهى/ لأنَّ العرَاقَةَ مَعنَى العِرَاقِ/ ويَعنِي اَلتَّبْغَدِد عَزَاً وجَاهًا/ أَغنِي لبَغْدَادَ تُصغِي اَلقُلُوبُ/ وَأَلفِي دُمُوعِ اَلْحَنِينِ صَدَاهَا/ وإِن قَلَّت بَغْدَادُ أَعْنِي اَلْعِرَاقُ/ اَلْحَبِيبَ بِأقصَى قُرَاهَا»(أُغني لبغداد). رحلت عمارة وقد أوقفت ذاكرتها عند زمن ساهمت في قدح شعلة التنوير. كانت حاضرة والجواهري يشدو لمعروف الرُّصافي(ت:1945)، مُناشداً الشُّعراء ولميعة بينهم: «وتحرّقت منهم لتُعلي شُعْلةً/ لبلادهم كتلٌ من الأعصابِ». ساهمت بقوة الموقف الاجتماعي والثقافي، إلى جانب نساء رائعات، أخذ قناصو الجماعات الظَّلاميَّة يفتكون بحفيداتهن، يخرجون نساء تنظيماتهم يتظاهرن لإطفاء الشُّعْلة التي حملتها فتاة بغداد لميعة عباس عمارة، ومجايلاتها.