لميعة عباس عمارة: شعر السياسة ممزوج بالحسية والرومانسية

Wednesday 23rd of June 2021 09:20:53 PM ,
4972 (عراقيون) (نسخة الكترونية)
عراقيون ,

شكيب كاظم

كانت المرة الوحيدة التي التقيت معها خريف عام 1976، كانت مديرة الإعلام في الجامعة التكنولوجية، وكنت تخرجت حديثاً في كلية الآداب، وأروم مغادرة عملي في مصلحة توزيع المنتجات النفطية، الذي لا يتفق مع توجهاتي وطموحاتي،

فما شأني أنا عاشق الأدب والكتابة واللغة بالنفط والأرقام والحسابات؟ هيأ اللقاء، صديق لي كان مدرساً للتربية الرياضية بالجامعة افترسته الحرب سراعاً، وكان من المؤمل، الانتقال إلى إحدى الوظائف في الجامعة، مما تأتلف مع تخصصي؛ اللغة العربية لكن تطوراً سريعاً طرأ على حياتي الوظيفية، جعلني أصرف النظر عن هذه المحاولة وأظلّ قابعاً في النفط، حتى نهاية خدمتي الوظيفية ربيع عام 1989.

لا شك أنّها لم تعرفني إذْ كنت في بداية طريقي الأدبي، لكني كنت ممتلئاً بها، فلقد سبقتها شهرتها إليَّ بوصفها شاعرة من شواعرنا العراقيات، فضلاً على كونها ذات توجهات سياسية يسارية وقلة هنَّ الشواعر العراقيات: نازك الملائكة، عاتكة وهبي الخزرجي، مقبولة الحلي، وفية أبو أقلام، أميرة نور الدين، صدوف العبيدية، آمال الزهاوي، أمل الشرقي، وسمية العبيدي وغيرهن، وحصلت على شهرة ورسوخ ذكر، بسبب جرأتها في تناول موضوعاتها؛ لا سيّما الحسية منها أو الغزلية فإذا كانت بعض الشواعر يمسسن هذا الجانب الحسّي مسًّا خفيفاً حيياً خفراً وعلى استحياء بسبب تقاليد المجتمع العراقي فإنَّ لميعة عباس عمارة كانت تفخر بحبّ بدر شاكر السياب لها، وتجاهر بهذا الرأي كونه نظم العديد من قصائده فيها، وإنّها ما كانت تبادله الحب بل كانت تعطف عليه، لا بل إنَّ شعره في وفيقة إنّما، هو كناية عن شعره في لميعة، على عادة الشعراء العرب منذ أيّام الجاهلية لا يعلنون أسماء محبوباتهم، ومن يشببون بهن ويكنون والمعنى دائما في قلب الشاعر وقلب المعشوقة، شعره في وفيقة، صار ديوانا رومانسيا أسماه (شباك وفيقة)، لكنها ما بادلته حبا بحبّ، وكيف تحب فتاة جميلة مثلها، يهفو لها الرجال، تحبّ مثله، هو المفتقر لأبسط ملامح القبول، بله الوسامة التي ترنو إليها النساء، لذا ظلّت تعطف عليه من غير أنْ تحبّه.

ولادة لميعة

ولدت لميعة في محلة كرخية شعبية هي الكريمات، سنة 1929 والكريمات، محلة مجاورة للمحلة التي رأت فيها عيناي النور وأبي وجدي؛ محلة الشواكة لكنها أمضت طفولتها وشطراً من حياتها في مدينة العمارة، وهي ابنة خال الشاعر عبد الرزاق عبد الواحد، ولقد انتظمت في دراسة اللغة العربية في دار المعلمين العالية يوم كانت الدار هذه، زاخرة بالأسماء التي ستترك أثراً مدوياً في حركة الشعر العربي الحديث، فقد كان من زملائها في الدار: نازك الملائكة وبدر شاكر السياب وعبد الوهاب البياتي والشاعر السوري الشهير سليمان العيسى أمدّ الله في عمره فضلاً على ابن خالها الشاعر عبد الرزاق عبد الواحد.

الحسيات الغزلية

ما اقتصرت الشاعرة لميعة عباس عمارة، على لون محدد، من ألوان البوح الشعري، إذ كتبت في الرومانسيات الحالمة فضلاً على الحسيات الغزلية في شيء من الجرأة، التي تفتقر إليها المرأة العراقية والعربية والشرقية، عموماً في تلك السنوات كما أنّها كتبت في الواقعية التي تنهل من السياسة وأفكار اليسار، وما اكتفت بالقريض والفصيح بل تعدته إلى الشعر العامي الذي يجيد النظم فيه أهل الجنوب العراقي، ولعلها في هذه المزية، تقترب من الشاعر المبدع مظفر النواب، الذي كتب العامي والفصيح، وما زالت في الذاكرة قصائد ديوانه (للريل وحمد)، وإذْ تغادر العراق تطلق آهة حرى مصورة حالها، في اغترابها في مدينة سان دييغو في ولاية كالفورنيا الأمريكية قائلة: عشر الملايين (يوم كان سكان العراق عشرة ملايين) الهواهم ولالي عوض/ فاركتهم بالرغم من فرض علي انفرض/ وما صاحبي بعدهم غير التعب والمرض/ والدمعتين التنام بشعري تالي الليل/ أكول خلصت وثاري الخلص/ بس الحيل/ أدري جبيرة الأرض/ بس مالي بيها غرض.

لميعة، تبث شكواها، إنّها غادرت أرضها لسبب فرض نفسه عليها، ولم يبق معها سوى التعب والمرض، وإذ اعتقدت أنّها فرّت بجلدها وخلصت نفسها، لكن الذي انتهى وخلص القوة والحيل، وذهبت الصحة معهما، وتطلق صرختها الداوية أنَّ الأرض كبيرة لكن هذا لا يعنيها بعد أنْ غادرت وطنها وأرضها، لأن لا حاجة لها بالأرض ولا غرض؛ هذه الأرض على سعتها وكبرها لأنّها خالية من الوطن؛ العراق.

شاعرة جريئة

قلت: إنّها كانت شاعرة جريئة، وحسية، لكن ذلك لا يأتي على حساب الكرامة والشرف واحترام الذات الإنسانية. يحصل في أحد المرابد أنْ تتعرض لإزعاج بعض الشعراء المنفلتين ولعله نزار قباني، بدليل وصفها له بالخبير بالنسوان، سائلاً إيّاها هل تدخنين أو تشربين أو ترقصين؟ فكان جوابها الحازم كلا فقال لها متهمكا ما أنت جمع لا؟ فتطلق قصيدتها الموبّخة بوجهه كي يعرف حدوده: تدخنين لا/ أتشربين لا/ أترقصين لا/ ما أنت جمع لا؟/ أنا التي تراني كل خمول الشرق في أرداني/ فما الذي يشد رجليك إلى مكاني/ يا سيدي الخبير بالنسوان/ إنّ عطاء اليوم شأن ثان/ حلق فلو طأطأت.. لا تراني.

لقد قرأت شيئاً من شعر لميعة الذي كنت أجده منشورا في الصحف والمجلات، هي التي أصدرت عديد الدواوين الشعرية جاوزت أصابع اليد عدّاً، منها (الزاوية الخالية) و(عاد الربيع) لكني لم أقرأ سوى ديوانها الموسوم (لو أنبأ العراف) الصادر ببغداد عام 1980 وقرأته في ليل الأحد 30/ كانون الأول/ 1990 هذه الشاعرة الرومانسية الحالمة التي كانت تقترب من نسيج مدرسة أبوللو التي أسسها الشاعر المصري أحمد زكي أبو شادي، المتوفى في الولايات المتحدة سنة 1955 فضلاً على جماعة الديوان، ومن شعرائها: عبد الرحمن شكري، وعباس محمود العقاد وإبراهيم عبد القادر المازني:

ما زالــت مولعــة تدري تولعهـــا مشدودة لك من شعري ومن هدبي

من دونك العيش لا عيش وكثرته درب طويل فما الجدوى من النَصَبِ

وفي هذا النص الشعري، الذي تنسجه على نهج شعر التفعيلة، تقترب من حياة الرهبنة والتصوف، وإماتة مشاعر الجسد، وهذا جدها المعري سبق أنْ أماتها فهي رهينة الديرين بعد أنْ كان المعري رهين المحبسين تقول في قصيدة أسمتها (رهينة الدارين):

يعلم الله أنّني أتعذب/ رهبة من مشاعري أترهب/ لا تقل لي (أحبّ) هذا بعينيك اشتهاء/ ونزوة سوف تذهب/ لست أيوب/ لن تطيق وصالي/ هو شيء من الخرافة أقرب/ أنْ تراني وحشية التوق للحب/ وتبقى معي الرفيق المهذب/ أبعد الشعلتين كفيك عني/ لا تلامس هذا الكيان المتعب/ أنا رهينة الديرين/ إنساني الحرمان جسمي/ ولذتي أنْ أُصلب.