وجهاً لوجه مع كبير المذيعين حافظ القباني : أقرأ كل ليلة كتاباً متسلسلاً في أحلامي !

Wednesday 28th of July 2021 10:03:33 PM ,
4991 (عراقيون) (نسخة الكترونية)
عراقيون ,

علي جبار عطية

كنتُ محظوظاً هذه المرة بلقاء الاذاعي، والاعلامي الرائد حافظ القباني (عبد الحافظ أحمد القباني)(١٩٢٧م ـ ٢٠٠٤م) في بيته بحي الخضراء غرب بغداد.

كان ذلك يوم الخميس الموافق ١٩٩٨/٣/٢٦م.

إذ يقضي أوقاته مع رفيقة مشواره، وزوجته الدكتورة أمل القباني، وابنته الإعلامية إيناس القباني (التي حصلت على الدكتوراه من جامعة بغداد / كلية الفنون الجميلة سنة ٢٠١١ م، وكانت أطروحتها بعنوان: أدب السيرة بين الحقيقة التاريخية، والرؤيا الفنية في الدراما التلفزيونية /دراسة مقارنة)، وابنته المخرجة السينمائية دنيا القباني.

حاورته لمدة ١٣٥ دقيقة. طاف بي خلالها على بساطٍ سحري بين بغداد، وموسكو، والقاهرة وفي أروقة الصحافة والإذاعة والتلفزيون، والتأليف، والتدريس.

سيرته وضاءةٌ، وأنشطته متنوعة، لكنَّ طغت عليه صفة الاذاعي مع أنّه صحفي مهمٌ، ومحاضرٌ بارعٌ، ومؤسسٌ لمعهد التدريب الاذاعي، والتلفزيوني، وله مؤلفاتٌ منهجيةٌ بارزةٌ، وهي : (الريبورتاج الإذاعي) ، و(المذيع في الراديو)، و(حرفية المذيع)، و(الإذاعة العراقية، تاريخ وذكريات).

كان الوضع وقت المقابلة ملغوماً ؛ فالدكتاتور كان يواجه تحدياتٍ كبيرةً منها:التهديد الأمريكي بالإطاحة به، مع تزايد النقمة الشعبية عليه، والتهديد الأكبر كان تصدر السيد محمد الصدر(١٩٤٣م ـ ١٩٩٩م) للمواجهة مع النظام، وتحديه له ؛ لذلك لم أستطع نشر آراء القباني كاملةً، فدفعت بعضها إلى جريدة العراق فنشر الحوار في عدد الجريدة (٦٥١٤) الصادر يوم الثلاثاء الموافق ١٩٩٨/٤/١٤م بعنوان (في محراب ذكريات حافظ القباني ـ غابتا نخيله تلفهما العتمة، ما حكاية العم حق، وعاشق الدبابة) وحقق نجاحاً طيباً لثقل الشخصية، والتفتت وزارة الاعلام إليه، و تذكرته، ووصف المحاورة الكاتب (مهدي شاكر العبيدي) بأنَّها (مقابلةٌ صحفيةٌ رائعةٌ).

لم اقتنع بما نُشر، فعاودتُ الكرَّة لنشر جزءٍ ثانٍ من المقابلة بما يسمح به الظرف، فنشر الحوار في جريدة (الرأي) الأسبوعية لصاحبها الدكتور عبد اللطيف هميم في العدد

(٤٧) الصادر يوم الأحد الموافق ٢٠٠٠/٢/٢٧ م بعنوان

(حافظ القباني.. مذيعٌ زاده الصحافة).

حان الوقت لنشر الحوار كاملاً ضمن مشروع كتاب عنوانه (وجوهٌ في ذاكرة الأرض).

(الحوار)

هو شخصيةٌ غنيةٌ بالمعرفة، والتجارب، وتنوع الأنشطة. لا أدري من أين أبدأ مع موسوعةٍ معرفيةٍ، وشخصيةٍ لامعةٍ هو كبير المذيعين بحق، وهو الذي كان يوقع باسم (العم حق) !

إنَّه الإذاعي والإعلامي الرائد حافظ أحمد القباني الذي وجدته في بيته لا يرى إلا اشباحاً، يعاني الوحدة، والجفاء، والمرض.

بادرني بالحديث عن الصحافة فتركتُ له زمام الحديث فاسترسل قائلاً :

إنَّ الصحفي يجب أن يلامس هموم الناس ويأتي بالجديد دائماً.

ان كل جهد الصحفي، وبناءه ينتهي عندما تظهر الجريدة وهنا تبدأ مرحلة الهدم، حيث يجب عليه أن ينسى ما قدمه، ويبدأ عملية الهدم، ليصوغ أفكاراً، ومواضيع جديدة.

يتابع: كنّا في جريدة (الشعب) لا نستطيع الكتابة عن المستعمرات البريطانية، فكانت حريتنا في أن نكتب عن فرنسا، وكان هذا الشيء يُرضي وطنيتنا، وكنّا نكتب عن العنصرية الأمريكية، وقضية الزنوج، والهنود الحمر؛ لأنَّ صاحب الجريدة كان يكن الكراهية لأمريكا.

لم يكن هناك إقبال على الجرائد في العهد الملكي، لكنَّ القراء كانوا يتابعون الصفحة الرياضية في جريدة (البلاد) لصاحبها رفائيل بطي، وكان يشرف عليها الكاتب شاكر اسماعيل فكانت من أفضل الصفحات الرياضية.

وكان القراء يتابعون النقد الفني الذي يكتبه الفنان يوسف العاني في جريدة (الأخبار).

*قلتُ له:ما حكاية العم حق ؟

ـ قال: في عام ١٩٥٦ م كنتُ أحرر (بريد المحرر) في جريدة (الشعب) باسم (العم حق) (مختصر حافظ القباني)، ونشرتُ رسالةً لشابٍ نجفي اسمه فاضل عمره ١٦ سنة، في عينيه خلل ويحتاج إلى عملية جراحية، وليست لديه امكانية مادية.. نشرت الرسالة وعلَّقت عليها قائلاً: إنَّني لا أعتقد أن أحداً من أبناء شعبنا، يعجز عن معالجته، لذلك أُخاطب القراء بما عهد عنهم من شهامةٍ أن يتبرعوا بما يستطيعون من مبلغٍ، ويرسلونه إلى (العم حق) كما أُخاطب أطباء العيون الذين أتوسم فيهم القدرة على إنجاز العملية.

بعد صدور الجريدة انهالت علينا التبرعات، حتى أن بعض القراء خالف القاعدة فأخذ يرسل تبرعه بالظروف، فنفتحه فإذا به نصف دينار، أو دينار كما جاءتنا نداءات من عددٍ من الأطباء نذكر منهم: د. جلال الاستربادي، ود. مصطفى شريف العاني، ود. صبحي منيب، وغيرهم.

وإزاء هذا الإقبال من الأطباء، ولكي لا نزعل أي طبيب اتفقت مع هيئة التحرير على إجراء قرعةٍ، فوقع الاختيار على الدكتور جلال الاستربادي، وهنا خاطبت الشاب بأن يحضر فجاء هو وأمه من محافظة النجف، وسلم لهم المحاسب مبلغ (سبع مئة دينارعراقي)، وكان مبلغاً كبيراً وقتها، ودخل مستشفى (الرمد)، قرب الاذاعة، وأجرى العملية، واكتسب الشفاء، فسلمناه ما تبقى من المبلغ ليستثمره في مشروعٍ، وكان يرافق كل هذه المراحل ريبورتاج صحفي حتى شفائه !

إنَّ من يؤدي مثل هذه الخدمة، لابدَّ أن يشعر بارتياحٍ، وكأنه حقق نصراً عظيماً.

إن الصحفي عندما يكتب بهدفٍ تكون موضوعاته ناجحةً على إلا ينفصل عن الجماهير، ولا يضع في باله أنَّه يجب أن يكون مشهوراً، ولا يعير أهميةً للماديات ؛ لأنَّها تأتي بشكلٍ طبيعيّ كأجرٍ على عمله، فلا عمل بغير أجر.

كنا في جريدة الشعب نحل مشكلات الناس قبل مؤسسة ليلة القدر التي أسسها مصطفى أمين وعلي أمين في مجلة (الجيل الجديد)، و(أخبار اليوم).

كنتُ رئيساً لتحرير صحيفة (النديم) ثمَّ تركتها، وعملتُ مصححاً، وهذا هو من مبادئ الصحافة أنَّ الصحفي الناجح يجب أن يبدأ من المطبعة، ثمَّ ينتقل إلى غرف التحرير.

اشتغلت (مخبراً) آتي بالأخبار إلى الجريدة، وهم الآن يسمونه (مراسلاً)، وهذا غير صحيح، لأنَّ تعبير المراسل هو الذي يرسل الخبر من خارج البلد، أمّا من كان في داخل البلد، ويستطيع أن يأتي إلى مكان عمله بالسيارة، فإنَّ التعبير الصحيح عنه هو المخبر.

*قلتُ له: الآن يأتي المندوبون بالأخبار إلى صحف القطاع الخاص، ويتفاوضون معهم على الأجور، فأيُّ جريدةٍ تدفع أكثر يدفعون لها الأخبار !

ـ قال: مثل هذا لا يجوز، وعندنا مثل هذا المندوب يُطرد من باب الجريدة، ولا يُسمح له بالدخول ؛ لأنَّ من الأعراف الصحفية أن يقتصر عمل المندوب على جريدةٍ واحدةٍ، ويطرد أي مخبر يعطي معلومة إلى صحيفة غير صحيفته.

* قلتُ له: ما حكاية أول صورة لك ؟

ـ قال: لم تكن صحافتنا تعرف الصورة الفوتوغرافية المحلية، بل كانت تعتمد على الصور الجاهزة التي تأتي مع الحوادث من خارج العراق، وحدث أن ماتت الملكة عالية عام ١٩٥٧ م، فاستقدم (عبد الهادي الجلبي) من مصر المقرئين عبد الفتاح الشعشاعي، وأبا العينين الشعيشع ؛ للقراءة في هذه المناسبة، فذهبتُ إليهما في فندق السندباد، وأجريتُ معهما حواراً، ولكي أُعطي للموضوع حيويةً، ذهبت للبحث عن مصورٍ، وبصعوبةٍ بالغةٍ أقنعتُ مصوراً، ليصور وفاة الملكة عالية، ليظهر أول ريبورتاجٍ مصورٍ في صحافتنا، وقد وثقتْ هذا الشيء جريدة (الجمهورية) في أحد أعدادها لأنَّ تكاليف التصوير كانت عالية، وكان هذا المصورهو حازم باك.

كان يحيى قاسم صاحب جريدة الشعب محامياً خاصاً لشركة نفط العراق الـ(آي بي سي).

*قلتُ له : بمناسبة الحديث عن قراء القرآن الكريم، فمن هو برأيك أعظم القراء ؟

ـ قال: أعظم قارئٍ عربي هو الشيخ محمد رفعت، وعندما أجريت اللقاء مع الشيخ عبد الفتاح الشعشاعي، والشيخ أبي العينين الشعيشع كان الوضع حساساً ؛ لأنَّ المعجبين بالقراء العراقيين استُفزوا ؛ لأنَّنا كتبنا كثيراً عن القراء المصريين وغمزنا قناة القراء العراقيين.

إن القراءة العراقية تعتمد على المقام العراقي الذي يتميز بالحزن، فالأبوذية يقال انها قد جاءت من الأذية، وهي قمة الحزن، والبكاء أمّا القراءة المصرية، فهي قراءةٌ مفرحةٌ وكان شيخ المحتجين بصمتٍ الحاج محمود عبد الوهاب والحافظ الملا مهدي، ومن المؤيدين للقراء المصريين المقرئ عبد الرحمن توفيق، لأنَّ قراءته مستحدثةٌ.

بعدها بسنوات زارنا الشعشاعي مع الشيخ عبد الباسط عبد الصمد.

*قلتُ له متى دخلتَ الإذاعة؟

ـ قال: دخلتُ الإذاعة سنة ١٩٤٦ م ممثلاً لمدة سنةٍ، وفي عام ١٩٤٧م عُينت مذيعاً بعد أداء الامتحان، وكان عملي في الإذاعة، والصحافة متوازياً، فقد نشرت أول مقالٍ في عام ١٩٤٦ م في جريدة (السجل) لصاحبها طه فياض العاني.

لقد بدأت مراسلاً لبريد القراء في عددٍ من الصحف.

*سمعتُ أنَّ لك مع زوجتك الدكتورة أمل القباني قصة فهلا تفضلت، وقصصتها؟

ـ قال: أنا أكبر من زوجتي أمل (أم سلام) بعشر سنوات فقد ولدتُ سنة ١٩٢٧ م، ودخلت أمل الإذاعة سنة ١٩٦٠ م.

لقد عملنا سويةً في إذاعة جمهورية أذربيجان في باكو سنة كاملة عام ١٩٦٣ م، ثمَّ ذهبنا إلى موسكو، وقد درست البكالوريوس، وحصلت على الماجستير في القانون الدولي وكانت اطروحتي عن (الصراع الأيديولوجي عبر أجهزة الإعلام)، أما أمل فقد حصلت على الدكتوراه في الأدب العربي وكانت إطروحتها عن (الشعر العربي المعاصر)

لقد عملنا في موسكو في الإذاعة بالقطعة كمذيعين وعملتُ في إذاعة صوت العرب في القاهرة ثلاثة أشهر فقط. (ترك الإذاعة بعد مكيدةٍ من المذيع المصري أحمد سعيد بعد أن أجبره على قراءة كلمةٍ في كانون الأول سنة ١٩٥٩ م ضد عبد الكريم قاسم).

*قلت له: ما دمنا بصدد الحديث عن القسم العربي في إذاعة موسكو، فالذي يستمع إليه يشعر أنها تبث من دولةٍ ليست بحجم الاتحاد السوفيتي ؟

ـ قال: سأحكي لك هذه الحكاية: أرسل إليَّ مدير القسم العربي في موسكو وكان اسمه (سافن) وقال لي: ما رأيك باذاعتنا؟

قلتُ له: أنا صريحٌ، وأخشى أن تفقدني كصديقٍ.

قال: لا، والا لم أسألك.

قلتُ: عندكم آيديولوجيةٌ هي الاشتراكية العلمية، وربما تمارسونها بشكلٍ مخلصٍ لكنَّ الإخلاص ليس كل شيءٍ، بل يحتاج إلى جهدٍ، ودراسةٍ معمقةٍ للجماهير التي تتوجه إليها فتعرف طلباتها، والكلمة التي تستحوذ على الإعجاب، ثمَّ أضفتُ : وإنّي من مجمل دراستي لاذاعتكم، عندما كنتُ في العراق، والآن أنا قريبٌ منكم أنصحكم نصيحةً.

قال: ماهي؟

قلتُ: تجلب قنبلةً يدويةً، وتلقيها على القسم، أو تأتي بمعولٍ، وتحطّم القسم، أو تأتي بشفل فتجرف القسم، وتلغيه، ولا أقصد إلغاءه مادياً، وإنما أقصد إلغاء وسائله، وأفكاره.

قال: كيف؟

قلتُ: ليس عندكم قسمٌ يقف مقابل البي بي سي البريطانية، أو صوت أمريكا.

قال: لا تهمنا الوسائل التقنية، وأهم شيء أن نقول: نحنُ بلد يوري كاكارين !

مرت سنتان على هذه المحادثة، فإذا بيوري كاكارين، والعقيد بلاكوف يموتان بسقوط طائرةٍ، فقلتُ في نفسي: هل ما زال يقول: نحنُ بلد كاكارين، هذه العنجهية هي التي جعلت حركة صهيونية صغيرة تفشل الاتحاد السوفيتي.

*قلتُ له: كلما ذكرت ابنك الراحل (سلام)، أشعر أنَّك تتحدث بألم عن جرحٍ نازفٍ لا يندمل ؟

ـ قال: عندما تزوجتُ بأمل كنَّا في موسكو، فرزقنا الله بولدٍ اسمه (سلام) كان يراقب التلفزيون، ويعجب بالدبابة الروسية، ويقلد أزيزها، وكان يفكر، ويتكلم بالروسية فلما عادت زوجتي إلى العراق قبلي بعام، وعدتُ في ١٩٧٠/٩/٢ م والتم شملنا.

لم يستطع سلام أن يستوعب اللغة العربية، ففشل في الدراسة وسيق إلى الخدمة العسكرية جندياً مكلفاً. وفي عام ١٩٨٢ م وفي معركة شرقي البصرة جاءته قذيفة بينما كان يسوق الدبابة الروسية التي كان يعشقها فقتل في داخلها !

(تساقطت دموع أم سلام فغادرت الغرفة).

*ما قصة عينيك؟

ـ قال: أحلت على التقاعد سنة ١٩٨٤ م وتقاعدت أم سلام سنة ١٩٩٠ م.

قبل عشر سنوات حدث نزفٌ في عيني اليمنى وتحديداً في الشعيرات الدموية، فعالجني طبيبُ عيونٍ معجبٌ بالليزر فقضى عليها، أمّا عيني اليسرى، فأُصيبت بالماء الأبيض وعلاجي في إحدى هذه الدول (فرنسا أو اسبانيا أو إيطاليا أو الأردن).

لقد قابلت وزير الصحة بصعوبةٍ، فقال لي: نجري لك معاملة سفر، لكنَّ تكاليف السفر على حسابك، فابتسمت !

إنَّ زراعة الشبكية، والقرنية ممكنةٌ في الخارج، وهم يزرعون قرنيات الحيوانات، ويسحبون الماء الأبيض بواسطة الدواء لا بالتداخل الجراحي.

ليس أمامي سوى الاستماع إلى الإذاعة بعد أن حرمت من متعة القراءة، ورؤية التلفزيون.

لقد تركتُ الإذاعة لأنهم يعطونني ثلاث مئة دينار أجرة الحلقة الواحدة التي تكلفني ١٦٠٠ دينار مع السهر والتعب.

إنَّ متعتي هي في القراءة، وقد حرمت منها، لكنْ في الليل أقرأ في الأحلام.. نعم أقرأ لوحاتٍ، وقطعاً باللغتين العربية، والإنجليزية، ورؤيتي صافية بالليل لا النهار، وهذه القراءة مستمرةٌ في كل ليلة كأنَّها مسلسل في حلقات !

*قلتُ له: هل صحيح أنَّ أصدقاء الشدة قليلون؟

ـ قال: نعم هذا من أصح الأقوال، ولابدَّ أن قائله مر بتجربةٍ ضخمةٍ. تصور حتى الأهل انقطعوا عن الزيارة الا واحدٌ من أبناء عمي يتصل بالهاتف، وصديقي الدكتور جليل كمال الدين لم ينقطع عني ؛ إذ كنَّا صديقين في موسكو، نتبادل الهموم، ولم نعش حياةً مرفهةً، ومهند الأنصاري استشارني عندما كان في الكويت، فلم أحبذ له المجيء وعندما جاء أخذ يعاني من الوحدة والمرض.

لكنّ أقربائي يتذكرونني، ويعرفونني في الدوائر الرسمية، حين يرفع الموظف رأسه ويقول للمراجع : ماذا يقرب منك حافظ القباني ؟

عندما كنتُ في الإذاعة كنتُ أواجه بالترحاب، وعندما خرجتُ منها لم يسأل عني أحدٌ، فلما عدتُ عادوا للترحاب بي، وعندما خرجتُ ثانيةً عادوا لجفائهم !

عندما صار جواد العلي مديراً للإذاعة طلب مني حديثاً في برنامجي (مسألة فيها نظر) المأخوذ من بيتٍ شعري معروف هو:

قتل إمرئٍ في غابةٍ جريمةٌ لا تغتفر

وقتل شعبٍ آمنٍ مسألةٌ فيها نظر !

طلب مني الكتابة عن ٨ شباط، وهي ذكرى لا أُحبها فكتبتُ عن الفلاحين !

في اليوم التالي قال لي العلي: لقد تخلصتَ من الاختبار الذي وُضعت فيه !

أليس الانتصار يكون بالاهتمام بالمبدعين والانتصار لهم؟

إنَّني أنتصر عندما أجعل كوادر بلدي منتصرةً.

*قلتُ له: حدثنا عن عملك في التلفزيون ؟

ـ قال: كنتُ من أوائل ممن عمل في التلفزيون، وعندي الآن وثائق جاهزة في كتابٍ تكتبه زوجتي أمل، أنا أملي لها، وهي تكتب عن بدايات البث التلفزيوني، وأنا من أوائل من قدموا برامج المنوعات، واستخدمتُ الهاتف في التلفزيون للاتصال بالناس مباشرةً، وقد قدمتُ برنامجاً ثنائياً مع أمل اسمه (في التلفون) عام ١٩٥٩ م، فضلاً عن برنامج (القصة خون)، وكانت أمل تعلق على الأفلام الصامتة. وقدمت برنامج (سؤال وأغنية) و(صح المثل)، ومن البرامج الرصينة (ما وراء الخبر) وبرنامج (عشر دقائق) و(معالم إسلامية) في ثلاثين حلقة عن العتبات المقدسة حتى أنَّه عندما عرض في الدار البيضاء، وصف أحد التقارير الشوارع بأنَّها كانت تخلو من المارة وكأنَّ هناك مباراة كرة قدم عالمية مهمة !

إنَّ من أصعب البرامج، وهي أشق من الأشغال الشاقة البرامج التي تبث على الهواء مباشرةً.

كنتُ أسخر من الكبار على طريقة الممثل الكوميدي (توفيق لازم)، وكان هذا مطلع الستينيات، وقد هاجمتني جريدة (اليقظة)، وشتمتني ؛ لأنَّي أسخر من فارسٍ عربيّ هو (عنترة بن شداد)، وكان يمثل الشخصية الفنان خليل الرفاعي فاضطررت إلى تبديل اسم البرنامج وجعلته (مغامرات زعتر)، واستمرت حلقات البرنامج، فكانت كل حلقة تنتهي بغرق زعتر(خليل الرفاعي)، فيظل المشاهدون متلهفين أسبوعاً كاملاً لما يحصل في الحلقة التالية.

كان الزعيم عبد الكريم قاسم حين يخطب يسخر منه البعثيون ويقولون: خطب زعتر!

وصلتني هذه المعلومة، لاسيما أن الفارس زعتر كان يعفو عن المخطئين بحقه مثلما يفعل الزعيم في رفعه شعار (عفا الله عما سلف)، فخشيتُ أن تصل هذه السخرية إلى الشيوعيين فيسببوا لي مشكلةً، فأوقفت البرنامج من باب (جفيان الشر)، فأرسل علي مدير التلفزيون، وسألني عن سبب توقف البرنامج، فتذرعتُ بالتعب.

بالمناسبة فقد نصحتُ أحد الزملاء بالقول : لا تكن مثل الشيوعيين الذين أرادوا أن يضعوا خيمةً على كل الناس فيكون كل كاتب، أو فنان، أو مبدع تحت خيمتهم، فلا يعبر الا عنها.

* قلتُ له: هلا حدثتنا عن المذيعين، فما رأيك بالطريقة التي يقرأ بها المذيعون اللبنانيون الأخبار خاصةً في إذاعة (مونت كارلو) ؟

ـ قال: إنَّ هؤلاء لغتهم العربية ضعيفةٌ، وأخطاءهم كثيرةٌ والقاءهم يسير على موسيقى الإلقاء الفرنسي، ولا أعدهم متفوقين ؛ لأنَّهم يقرأون، وهم يلهثون، والتوقف ضروري للمذيع، ولايعجبني من المذيعين اللبنانيين سوى اثنين هما (أنطوان بارود)، و(إبراهيم يزبك).

يعجبني حسن الكرمي صاحب برنامج (قولٌ على قول) وكذلك ابنته سهام الكرمي، أما المذيعة مديحة رشيد المدفعي فصوتها بديعٌ جداً، لكنَّ عيبه أنَّه بدأ بالتلف، ربما بسبب التقدم في العمر، أو لكثرة التدخين.

إن المبدع يجب أن يعتزل عمله إذا أحس بظهور صورة سلبية منه ليحافظ على المستوى الذي وصل إليه في أذهان الناس

يعجبني الإلقاء العربي السليم غير المتأثر بأية موسيقى لغة أجنبية كالالقاء السعودي، والمصري، والعراقي، هذا الإلقاء الخالي من الرنة الفارسية، أو التركية كلهجة بعض أهل الكاظمية وكربلاء، فالدولة العثمانية استعمرتنا طويلاً فأثرت في لغتنا.

* قلتُ له :ما رأيك بمذيعينا؟

ـ قال: المذيعون الجدد كلهم تلاميذي أفضلهم غضنفر عبد المجيد وإذا واصل حبه للعمل سيكون مذيعاً مهماً.

وهاد يعقوب صوته مقبول وأعتقد أنه حافظ على هذا المستوى.

أحمد المظفر تلقى شيئاً في المعهد (معهد التدريب الاذاعي والتلفزيوني) ومارس شيئاً آخر، فاضاع المشيتين.

سعاد عزة يبدو عليها أنَّ موسيقاها في الإلقاء ليست عربيةً وهي متأثرة باللغة التركمانية، واللغة الكردية، وصوتها يميل إلى المعمعة (صوت المعزة) !

سهام مصطفى مذيعةٌ جيدةٌ تلقي الأخبار بعربيةٍ سليمةٍ.

نهاد نجيب صوته رخيمٌ جيدٌ لكنْ عندما تسمعه لايعرف أين يقف، ولاتوجد لديه عاطفةٌ منعكسةٌ على المضمون.

إن شخصية المذيع يجب أن تكون ظاهرة، فعندما تسمع مذيعاً يجب أن يؤثر فيك، فالدكتور مصطفى جواد يستطيع أن يقرأ النشرة الخبرية بلغةٍ عربيةٍ سليمةٍ، لكنَّك لا تستطيع أن تسمعه في نشرة الأخبار؛ لخلو إلقائه من العاطفة، لكنَّك تسمعه في برنامج (قل ولاتقل).

مؤيد البدري صوته مقبول لكنَّه حين يصرخ عند تسجيل الهدف يقترب صوته من صوت المرأة.

شدراك يوسف صوته جيدٌ، واسترساله في الإلقاء جيدٌ، برغم انه يلقي مباشرة، ويستحسن في التعليق أن تسمع صوته، ولا ترى صورته، وهذه مسألة فنية !

*قلتُ له: لمن تقرأ من الشعراء؟

ـ قال: أقرأ للمعري، ولأبي تمام، ولابن الرومي، ولأبي نواس، والجواهري، والرصافي، والبياتي، ونازك، والسياب، ونزار قباني.. يعجبني نصف شعر نزار، ولا يعجبني نصفه الآخر.

كنتُ معجباً به في الأربعينيات لكنَّي أعيد النظر فيما يغنى له وأسخر من بعض صوره ومعانيه خاصةً عن العرافات وقراءة الفنجان، ورسائله المبرقعة من تحت الماء.

أرى نزار الذي بلغ من العمر عتياً، مرتدياً بدلة مراهق، وهذه المراهقة ليست في أعماقه، أو عقله إنمَّا في شعره الذي يرتديه في بعض قصائده، برغم إعجابي بتفعيلاته الحلوة الجميلة، ومعانيه، وتعجبني شتائمه الغضبى التي يوجهها إلى بعض الدمى العربية المذكورة !!

*فصلٌ من كتابٍ مُعدٍ للنشر عنوانه (وجوهٌ في ذاكرة الأرض) للكاتب.

عن مدونة الكاتب في الفيسبوك