الشيخ الرئيس.. ابن سينا أكثر الفلاسفة أصالة

Tuesday 17th of August 2021 10:27:11 PM ,
5005 (منارات) (نسخة الكترونية)
منارات ,

علي عيد

هو أبو علي الحسن بن عبد الله بن سينا. قال عنه صاحب الموسوعة الفلسفية :فيلسوف فارس وطبيب؛ وقد نقل اسمه إلى اللاتينية وهو أكثر الفلاسفة أصالة «الفلاسفة هم المتدينون من فلاسفة المسلمين» وأقام مذهبا فلسفيا في الوحدانية يقترب إلى أقصى حد ممكن من تركيب يؤلف بين مبادئ الإسلام وتعاليم أفلاطون وأرسطو.

وقد امتزجت فيه رغبة فارسية عارمة في الحياة بسعي دائب نحو الحقيقة، فأنتجت فسقا فلسفيا يتجلى فيه عقل مبدع ناقد مفعم بشعور ديني عميق.

وابن سينا ـ على خلاف الفارابي الذي يدين له بالكثير، وعلى خلاف ابن رشد الذي ينحصر جهده الفلسفي الأصيل في شروحه إلى حد كبير ـ قد استطاع ان يصوغ «مجموعة فلسفية» بناء على دراسته لأرسطو دراسة ناقدة، مستعينا في ذلك بمن يشايع الأفلاطونية الحديثة من الشراح وبالرواقيين.

وقد كان لكتاب (الشفاء) تأثير كبير على المسلمين واليهود والمسيحيين. على الرغم من أنه قد أثار مع كتاباته الفلسفية الأخرى عداوة المتكلمين له، فلقد كان كتاب «تهافت الفلاسفة» للغزالي موجها إلى ابن سينا بصفة خاصة. وهو كتاب دفع التأمل الفلسفي في الإسلام إلى ان يتخذ موقف الدفاع بحيث لم يستطع ابن رشد نفسه ان يعيده إلى موقفه السابق.

أما في ميدان المنطق فقد كان من جراء تمسك ابن سينا تمسكا صارما بفكرة أرسطو عن العلة والمعلول ان اشتبك في صراع مع علماء الكلام ذلك أن جبريته المنطقية اصطدمت بجبريتهم الدينية.

وفي ميدان علم النفس، مزج ابن سينا بين ارسطو وأفلاطون في فكرته التي كانت موضع القبول على نطاق واسع، وأغنى فكرته عن خلود النفس العاقلة التي هي جوهر من حيث هي صورة.

وأبعد من ذلك مرمى، ما أسهم به ابن سينا في ميدان الميتافيزيقا، فهو ككل «الفلاسفة» قد استعان بأفلوطين وفورفوريوس الذي حاول ان يوفق بين أفلاطون وأرسطو، وهو بتوجيهه فكر أفلاطون وجهة تقربه من الواحدية الدينية قد مكن المسلمين من أن يوفقوا بين المعتقدات والمعتنقات التقليدية والفكر اليوناني.

ولقد أحرزت فكرة ابن سينا عن الله الذي يتوحد في ذاته الوجود والماهية. أقول إنها أحرزت رواجا واسعا في الغرب، وخاصة على يدي موسى بن ميمون اليهودي، والفيلسوف المسيحي توماس الاكويني.

والأمر كذلك فيما يتعلق بما يترتب على هذه الفكرة من نتيجة تنص على أن الماهية في جميع الكائنات المخلوقة منفصلة عن الوجود الذي ليس سوى عرض من الأعراض، ولما كان ابن سينا قبل فكرة ارسطو عن العالم، وخاصة فكرة قدم المادة، فقد اصطدم بالمسلمة الدينية «الخلق من العدم» يضاف إلى ذلك ان الخليقة نتيجة ضرورية تلزم عن وجود الله من حيث هو وحدة مطلقة بسيطة تندمج فيها المعرفة والإرادة والقدرة بماهيته، والله هو العلة الأولى التي لا علة لها.

ومن هنا كان هو الخالق بالضرورة، إلا أن موسى بن ميمون والأكويني يعارضان الفكرة السينوية ويقرران موقف الكتاب المقدس الذي ينص علي حدوث الخلق من العدم، حدوثه في الزمان نتيجة لإرادة الله الحرة.

ولكي يسد ابن سينا الفجوة بين الوحي والعقل لاذ بنزعة صوفية عقلية في كتابه «الاشارات» فالصوفي المتأمل «العارف» الذي بلغ أعلى مرتبة من المعرفة يصل إلى الاتحاد العقلي مع الله عن طريق الإدراك الحدس؛ والفلسفة العملية جزء من «ميتافيزيقا» ابن سينا، لأن بلوغ السعادة الإنسانية لا يتيسر إلا في مجتمع، والنبوة والشريعة «القانون الإسلامي المنزل على النبي» لا غنى عنهما لبقاء الإنسان وسعادته.

فالنبي المشرع يأتي للبشرية بقانون إلهي يضمن لها الرفاهية في هذه الدنيا والسعادة في الحياة الآخرة، وقد وحد الفارابي النبي المشرع بالملك الفيلسوف عند أفلاطون؛ أما ابن سينا فلا يذهب هذا المذهب، وإنما يسلم للنبي بمعرفة حدسية تلقائية، وبذلك يضعه في مرتبة أعلى من الفيلسوف.

والدولة الإسلامية المثلى التي تتخذ من الشريعة المحمدية دستوراً هي «في فلسفة ابن سينا» قسيمة «لجمهورية أفلاطون» التي بينت «للفلاسفة» مع كتابه «القوانين» ما للشريعة من دلالة سياسية، وزودتهم بفكرة العدالة والقانون، وهما الأساس المشترك بينهم، الذي أتاح لهم أن يحاولوا التوفيق بين العقائد الإسلامية الأساسية والأفكار الإغريقية، وهنا موضع أصالتهم بوصفهم فلاسفة دين يتخذون من الشريعة العليا محوراً لفلسفتهم وأساساً.

وفي سنة مولد ابن سينا خلاف حيث يدور الخلاف بين سنة 370 و 375 ه، أما الوفاة فلا خلاف أنها حدثت سنة ثماني وعشرين وأربعمئة ودفن في همدان، فيكون الشيخ الرئيس قد عمر ثلاثا وخمسين سنة، وزار بلدانا كثيرة، وتقلد مناصب رفيعة، وذاع صيته في المشرق أولا، ودوى صداه في المغرب من القرن الثاني عشر للميلاد.

وإلى هذا الوقت، وسيبقى ذكره حيا ما دام إنسان يفقه ما يقرأ وحظي بألقاب علمية على صغر عمره وقصره ـ فيما لم يحظ العلماء المعمرون مثلها، فلقب بالشيخ الرئيس، وبجالينوس العرب، وهو في ريعان شبابه، حيث اعتلى المرتبة الأولى في الطب قبل ان يتم الثانية والعشرين من عمره، واغترف من العلم واللغة واستوعب ما اغترف في صباه، ما لم يتيسر لغيره قبل منتصف العمر أو قرب الشيخوخة.

وكان ابن سينا دون سيرته بنفسه ثم أتمها تلميذه الذي لازمه طيلة حياته،وهو أبو عبيد الجوزجاني الذي توفي بعد وفاة أستاذه بخمسة وعشرين عاماً.

قال الشيخ ابن سينا عن نفسه «ان أبي كان رجلا من أهل بلخ، وانتقل منها إلى بخارى، في أيام نوح بن منصور، وتولى العمل في أثناء أيامه بقرية يقال لها خرميثن من ضياع بخارى، وهي من أمهات القرى وبقربها قرية يقال لها أفشنة، وتزوج أبي فيها بوالدتي، وقطن وسكن ـ وولدت منها بها، ثم ولدت أخي، ثم انتقلنا إلى بخارى وأحضرت معلم القرآن، ومعلم الأدب، ولما أكملت العشر من العمر أتيت على القرآن الكريم، وعلى كثير من الأدب، حتى كان يقضي من العجب، وكان أبي ممن أجاب داعي المصريين، ويعد أباه من الإسماعيلية «فرقة باطنية شيعية غالية في عقائدها» .

ورغب ابن سينا في دراسة الطب، وصار يقرأ الكتب المصنفة فيه، وبرز في الطب في مدة قصيرة، حتى بدأ فضلاء الطب يقرأون عليه الطب، ذلك لأن علم الطب سهل المنال، فهو يقول: «وعلم الطب ليس من العلوم الصعبة، فلا جرم أني برزت فيه في أقل مدة» ويروى أنه درس الطب على أبي سهل المسيحي، وأبي منصور الحسن بن نوح القمري.

كما درس الفقه وناظر فيه وهو في السادسة عشرة من عمره، وأشارت بعض المصادر إلى أن ابن سينا أتقن الفقه وأخذ يفتي على مذهب أبي حنيفة وهو لما يزل في الثانية عشرة من عمره، وأعاد دراسة المنطق والفلسفة.

وكانت حياة ابن سينا حياة قلقة، وفترة عمره، فترة مليئة بالأحداث الحربية والتقلبات السياسية الأمر الذي أثر في نفسه تأثيراً بليغاً، فنراه حينا ناسكا متعبدا، ونراه غارقا في الملذات حينا آخر، وقد أجمعت المصادر على هذا: بل وجاء هذا في النص الذي ذكره تلميذه أبو عبيد الجوزجاني، فقد امتدت حياة ابن سينا إلى عهد الخلفاء الضعفاء الطائع والقادر والقائم، أي عهد انحطاط الدولة العباسية.

ولما مات منصور بن نوح الساماني الملقب بأمير خراسان سنة 365 هـ خلفه نوح بن منصور الذي صار أول حام لابن سينا. وقد كان لتولي ابن سينا الوزارة أكثر من مرة. ورفضه بعض الوزارات واتصاله بعدد من الأمراء، وتألب الجيش عليه وأن نعته من بعض حسادة بالزندقة والكفر. كما أن وفاة والده الذي غمره برعايته قد حز في نفسه.

كل هذه الأمور مع ما كانت فيه البلاد من ضعف في آخر الدولة العباسية جعلته عرضة للتيارات المختلفة، لذلك تلمس في حياته فترات ينغمر خلالها في الملذات.

ومن المؤرخين من يعتبر الفلسفة ميدان انتصار ابن سينا وبروزه وسبقه، وليس الطب، ولكن فريقا آخر يعتبر ميدانه الرئيس هو الطب، ولكن الحق انه سبق وبرز في الجانبين، فقد حلت كتبه الفلسفية محل كتب أرسطو، على الرغم من اختلافه مع أرسطو في الإلهيات وما وراء الطبيعة، أما في الطب فقد أصبح طبيبا بارزا فاق الأطباء جميعا في عصره وهو في السادسة عشر من عمره.

ولقب بالشيخ وهو في مقتبل العمر، وعندما تحداه النحوي أبو منصور الجبائي نرى ابن سينا قد عكف على دراسة اللغة والنحو والبلاغة والبيان ثلاث سنوات وجاء بسفر في اللغة قلما أتى به أحد من قبل وهو «لسان العرب» ونظم قصائد ضمنها مفردات اللغة العربية، وعندما قدمها إلى أبي منصور الجبائي، وطلب إليه تفسيرها عجز عن ذلك وأحس بخطأ ما عمل، واعتذر إلى ابن سينا.

كان ممن يفكر ويحدس، أي كان إلى جانب تفكيره ذا بصيرة نفسية: فلقد كان عبقريا عالما حقاً، وكان يخشى الله تعالى: «إنما يخشى الله من عباده العلماء إن الله عزيز غفور» «فاطر:28» وقد نشرت جمعية التاريخ التركية كتابا ضخما في اسطنبول عام 1937م بمناسبة مرور تسعمئة سنة على وفاة ابن سينا، وقد عالج القسم الأول من الكتاب «حياة ابن سيناء ووطنه، وحللاراءه الفلسفية ونظر القسم الثاني في ابن سينا الطبيب وقد اشترك عالمان اجنبيان في هذا الكتاب هما:جوميو من بخارست، وتريكو من إيران، مع عدد كبير من العلماء الأتراك، حيث درسوا أثر طب ابن سينا في الغرب، واختص القسم الثالث من الكتاب ـ بالرياضيات، والرابع بالأساطير التي وضعت حول اسم ابن سينا في تركيا وإيران، واقتصر القسم الرابع على ترجمات تركية لبعض كتب صغيرة لابن سينا،ومن بينها النص العربي لكتاب «الأدوية القلبية» نقلا عن مخطوط في مكتبة الفاتح في اسطنبول، مع مقابلته وتصحيحه بسبع عشرة مخطوطة موجودة في اسطنبول أيضا.

واشتمل القسم الأخير على قائمة بمئتين وثلاثة وعشرين كتابا لابن سينا، توجد في ست وخمسين مكتبة في اسطنبول، وقائمة طويلة لجميع الشروح والترجمات لكتب ابن سينا المكتوبة في المشرق.

عن جريدة البيان