كاظم سعد الدين وبحوث في الثقافة العالمية

Wednesday 25th of August 2021 10:21:29 PM ,
5010 (عراقيون)
عراقيون ,

ناطق خلوصي

ظل حاجتنا إلى الترجمة قائمة بالحاح ما دامت الهوّة المعرفية قائمة بيننا وبين الذين سبقونا عقودا من السنين على طريق التطور . وحين نشير إلى هذه الحاجة فاننا لا نعني فقط الجهود الشخصية في الترجمة التي يقوم بها مترجمون أفاضل لنقل كتب وبحوث ودراسات ومقالات قيّمة إلى اللغة العربية ، وانما نشير أيضا إلى جهد الدولة ومؤسساتها لضمان تواصل الجهد الترجمي المتنوع الذي يغطي مختلف فروع المعرفة .

وتكاد دار المأمون للترجمة والنشر تتحمل الجزء الرئيسي من عبء هذا الجهد على الرغم من انها لا تملك مطبعة خاصة بها حتى الآن وهو مأخذ يضاف إلى المآخذ التي تحتسب على وزارة الثقافة . لقد رفدت الدار المكتبة العراقية والعربية ، وما زالت ، بمجدموعة منتخبة من الكتب المترجمة عن أكثر من لغة . وكان مما صدر مؤخرا كتاب ” بحوث في الثقافة العالمية ” ترجمة وتحرير شيخ المترجمين العراقيين كاظم سعد الدين ، وهو كتاب قيّم يتوافر على أهمية خاصة بالنسبة للنقاد والدارسين والباحثين في مجالات الألسنية والأدب والفن .

يقع الكتاب في 552 صفحة من القطع الكبير قام المترجم من خلاله برحلة فكرية منوعة في مختلف المجالات الثقافية الحديثة في العالم ربما لم يتوقف القارىء العراقي عند بعضها كثيرا . تصف دار النشر هذا الكتاب بأنه موسوعي ، وهو موسوعي حقا بفعل تعدد وتنوع الدراسات والمقالات التي وقع اختيار المترجم عليها . فهو ، كما تقول دار النشر ” يضم حشدا من الدراسات والمقالات في شتى ميادين الثقافة والأدب ينقل القارىء من الموسيقى إلى الشعر ومن الفن التشكيلي إلى اللغة والأسلوب ، ومن الحداثة إلى الواقعية السحرية ومن المسرح إلى التلفاز والأوبرا والخيال العلمي ” . أما المترجم فيقول ان كتابه يجيب على التساؤلات التي تدور في ذهن الباحث أو المهتم بالثقافة في ” بحوث في الفن والأدب وعلوم اللغة من مختلف أنحاء العالم ، بأقلام أساتذة مختصين تتناول أوجها ً ثقافية جديدة ” .يضم الكتاب خمسا وثلاثين دراسة ومقالة تتوزع على فروع معرفية مختلفة مع اشارة إلى اسم الكاتب المترجم عنه ومذيلة باسم المصدر المعتمد من أجل توثيق المادة المترجمة .

لعل أول ما يواجه قارىء أو عارض هذا الكتاب ، الدراسة التي تتناول تداخل الأجناس الفنية من زوايا نظر متعددة ، هذا التوقف عند مصطلح ” الموسيقى اللونية ” وهو مصطلح قد يبدو جديدا على كثير من المهتمين بالثقافة مع ان جذوره قديمة حيث كتب أرسطو قبل ما يقرب من 2300 سنة في مقالته ” الروح ” : ” تناغم الألوان في طبيعتها البهيجة يمكن أن يكون بينها علاقة منطقية كالأصوات وأن تكون ذات تناسب متبادل فيما بينها “. وتشير الدراسة إلى المحاولات التي قام بها فلاسفة وعلماء طبيعة ومؤلفون موسيقيون لايجاد نظرية في الموسيقى اللونية مع توقف عند نماذج من الأعمال الموسيقية التي تندرج في هذا النوع من الموسيقى ، إلى جانب مواقف التشكيك منها .

ويرجع المترجم إلى مقالتي هربرت ريد عن ” الشعر والنثر في الرسم ” و ” الشاعر والفيلم السينمائي ” حيث تتناول الأولى العلاقة بين الفنون البصرية ( الرسم بشكل خاص ) والشعر والنثر فيقول ” ان التناظر بين بعض أنواع الرسم والشعر يمكن توسيعه إلى تفصيلات أكبر وكما ينقسم الشعر إلى صنوف مختلفة ….. فإن الرسم الشعري يمكن أيضا أن يقسم إلى صنوف ثانوية ” ( ص 19 ) . أما المقالة الثانية فتشير ، ضمن ما تشير ، إلى مصطلح ” شعر الفيلم ” حيث جاء فيها : ” ان شعر الفيلم يتطلب ، أكثر من أي نوع من أنواع الشعر ، مسخا كاملا ً للأحلام في اللاعقلاني في محتواه إلى درجة تامة ، فيلم لا يمكن مقارنته الا بالحلم ، أو الكابوس ، ويكسب جميع حيويته وقوته بامتلاك الخصائص نفسها كالحلم ” ( ص 24 ) ، وهو يذكر فيلم جان كوكتو الموسوم ” دم الشاعر ” نموذجا لهذا النوع من الأفلام . وتتحدث مقالة ميخائيل كبسيليوف عن ” الموسيقى في لغة الرسم ” ينقل فيها عن الفنان ميخائيلكونستانيناس جيورليونيس ( 1875 ــ 1911 ) قوله : ” ليست هناك حدود فاصلة بين الفنون فالموسيقى توحد الشعر والرسم ولهما معمارهما. ويمكن للرسم أيضا أن يكون له النوع نفسه من المعمار كالموسيقى ويعبّر عن الأصوات بواسطة الألوان . لابد من أن تكون الكلمات في الشعر موسيقى ، ويجب أن يولد ارتباط الكلمات والأفكار صورا ً جديدة ” ( ص 27 ).

وفي دراسة تقع في ثمان وعشرين صفحة يتحدث : ك . فولكوف عن الانسجام العلمي والتكنولوجي ويربط التطور العلمي التكنولوجي بالمتغيرات الاجتماعية .وقد جاء في هذه الدراسة : ” ان الانسان الذي يغيّر الظروف المادية والفكرية لوجوده أثناء التقدم العلمي والتكنولوجي يغيّر نفسه أيضا . وان كل مرحلة جديدة من تطور العلم والتكنولوجيا تعني مرحلة جديدة في تطور القوى الأساسية للانسان ، لذلك فمن الطبيعي ان الثورة في العلم والتكنولوجيا اللذين يتقدمان بصورة متوازية مع التغيرات الاجتماعية سوف ينتج عنهما أيضا تغير جوهري في الشخصية الانسانية ” ( ص 38 ــ 39 ) ..

ومن موضوعات الكتاب ” الدلالة الاجتماعية للتجريد ” حيث يتم من خلالها تعريف معنى التجريد مع تتبع مراحل التطور التي مر بها . وثمة دراسة لروجر سلفرستون تتناول السرد من وجهة نظر فلاديمير بروب وغريماس وليفي شتراوس ، مع توقف عند الحكاية الشعبية وبنائها السردي ورؤية ليفي شتراوس وغريماس للاسطورة والحكايات الشعبية . أما توماس جي ونر فيتحدث عن نظرية الأنواع البنيوية والسيميائية ومما جاء في دراسته : ” لا تتأثر الصفات الجمالية وحدها بفصد المؤلف والمتلقين بل ان النص الجمالي ، مقابل نصوص أخرى ، يؤكد بنحو مستقل عناصره الشكلية كالقواعد والنماذج الصوتية . وفي أشد الأمثلة تطرفا ، أي الشعر ، يوجد أعظم استغلال للصفات الشكلية لبنية اللغة الطبيعية ” ( ص 129 ).

ولأدورد سعيد دراسة بعنوان” مناهج مطروقة وغير مطروقة في النقد المعاصر ” ، وثمة موضوعات أخرى مثل ” الواقعية السحرية في رواية مدار البرتقال ” و ” التكنيك في الرواية : عملية اكتشاف ” و” العلاقة بين بيت الأرواح ومئة عام من العزلة ” و ” استبدال الصور البشرية بالتلفزيون ” و ” تيارات في السينما اليابانية ” و ” أدب الخيال العلمي نقد وتعليم ” و ” ما هي الاوبرا ” ، وغيرها من الموضوعات في تنويعات لا يجمعها نسق زمني أو تحليلي واحد .

ولاشك في ان مراجعة مثل هذه لا تغني عن قراءة هذا الكتاب الذي يشكل اضافة نوعية مهمة للمنجز الترجمي الذي حققه شيخ المترجمين العراقيين كاظم سعد الدين ولدار المأمون للترجمة والنشر . لكننا نرى ان تسعير هذا الكتاب بواحد وعشرين ألف دينار سيحجّم عملية وصوله إلى أيدي العديد من القراء . ويقع اللوم في ذلك على وزارة الثقافة التي يبدو انها صارت تتعامل مع معطيات الفكر والثقافة بمعايير تجارية لا تليق ببلد يطفو على بحر من الثروات !