مع مشاهير أدباء العالم في ذكرياتهم وحواراتهم كاظم سعد الدين نتاج ترجمي ثر وثري

Wednesday 25th of August 2021 10:29:38 PM ,
5010 (عراقيون)
عراقيون ,

شكيب كاظم

هذا كتاب ضخم مادة وحجماً وفكراً، إذ يشتمل على ست مئة وأربعين صفحة، حرره وترجمه المترجم العراقي الضليع الأستاذ كاظم سعد الدين، الذي ظل على مدى نصف قرن ينفح المكتبة العراقية والعربية بالجميل والمهم، كتابةً وترجمةً، ومنذ سنة 1953 وكان لما يزل طالباً في دار المعلمين العالية، قسم اللغات الأجنبية، والتي تخرج فيها في السنة ذاتها، والمولود في مدينة بعقوبة سنة 1932،

تطالع هذا النتاج الثر والثري، لكاظم سعد الدين، فتعجب وتفرح، وفي الذاكرة عديد كتبه التي استأثرت باهتمام القراء ولاسيما كتابه (كبار الكتاب كيف يكتبون؟) 1986، ورواية (الأقرباء الابعدون) للروائي المكسيكي الشهير كارلوس فوينتس، وترجمته لقصائد مختارة للشاعر الإسباني القتيل (لوركا) فضلاً عن كتاب (الأدب العربي) للمستشرق الروسي فيلشتنسكي، وكان من المصادفات الجميلة، أن تكون باكورة أعمال كاظم سعد الدين المترجمة، كتاباً يحمل العنوان ذاته، للمستشرق البريطاني الشهير (هاملتون كب) (1895-1971).

كتاب مهم

الكتاب المهم والفخم الذي نروم الحديث عنه، وَسَمَهُ الأستاذ كاظم سعد الدين بعنوان (مشاهير أدباء العالم. ذكريات وحوارات) وقد أصدرته دار المأمون للترجمة والنشر في العراق، وإذ تطالع عنوانات الموضوعات المترجمة التي احتواها الكتاب يخالجك السرور والانبهار في الآن ذاته، إذ يقدم للقارئ حديقةً غنّاء، ومكتبة متنقلة ضافية، فيها مثابات من أدب العالم، مثل طاغور، وبوشكين، ودستويفسكي، وانطوان تشيخوف، وإيتماتوف، وهرمان هسّة، وبودلير، وكافكا، وسمرسيت موم، وجورج أوريل، وتنسي وليمز، والكاتب الدنماركي الذي كان من أوائل من كتب لعوالم الطفل (هانس كريستيان اندرسن) واشتهر بقصته عن الإمبراطور العاري، التي ذهبت مثلاً، اندرسن المولود في بُليْدة اودنسة سنة 1805، هذا الذي جلس عند نعشه ملك الدنمارك وولي عهده ووزراء، اندرسن هذا الطويل الهزيل، والذي كان يتعرض لسخط مدير مدرسته الابتدائية، واصفاً كتاباته الأولى، بأنها لا تصلح إلا لسلة المهملات، واصل ما بدأ به بإصرار، هو الذي تنبأت له العرافة بأنه سيكون له شأن أي شأن، وهو ما حصل حقاً، الطريف في الأمر، إن هذا الفتى الخجول، المصّر على أن يصبح شيئاً مذكوراً، وقف عنده التأريخ الأدبي طويلاً وما ذكر اسم الملك الذي جلس عند نعشه يوم مات مما يؤكد ان نتاج العقول ابقى وأدوَم من المناصب والمكاسب الدنيوية.

العرافة هذه التي تنبأت بمجريات حياة اندرسن اللاحقة، تذكرني بالعرافة الأمية البصرية، التي تنبأت بمصائر السياب، ومهدي عيسى الصقر، ومحمود عبد الوهاب، ومحمود البريكان، وسعدي يوسف، وقد صح حدسها فيها كلها.

همنكوي هندي احمر

وإذ نقرأ الفصول التي ترجمها عن الروائي الأمريكي الشهير إيرنست همنكوي المولود سنة 1899، فإن، افضل الفصول هو الفصل الذي كتبه شقيقه (لستر) وستعرف ولأول مرة الأصول الهندية الحمر لهمنكوي، إذ يبوح بهذا السر لشقيقه، كما نطلع على تفاصيل تحويل روايته (الشيخ والبحر) إلى فيلم بعد الاتفاق مع سبنسر تريسي ليقوم بدور الشيخ ويتولى إخراجه (ليلند هيوارد) والبحث المضني عن سمكة عملاقة يمكن الإفادة منها عند تصوير النهاية التي آلت إليها بعد مهاجمة سمك القرش لها، وإذ لم يعثروا عليها، فقد التجأوا إلى حِيَل هوليود السينمائية، وفي هذا الفصل الجميل نتعرف الى الكتّاب الذين كان همنكوي يعجب بهم، ونذكر منهم اوريل وجون دوس باسوس والشاعر ارشيبالد ماكليش فضلاً عن تعاطفه مع الثوار الكوبيين الذين كان يقودهم فيدل كاسترو. كما يقدم كاظم سعد الدين، ترجمة لما كتبته آخر زوجاته الأربع (ماري ويلش) الصحفية التي عاشت معه منذ منتصف أربعينات القرن العشرين وحتى انتحاره المدوي فجر الأحد الثاني من تموز سنة 1961، هو الذي بدأ يعاني في سنواته الأخيرة، أزمات نفسيه وتصورات عدمية، وارتياب من الناس، وكانت هذه الذكريات التي كتبتها زوجته ماري ويلش من أروع فصول الكتاب، بسبب قرب الزوجة الكاتبة من حياته.

وفي فصل آخر ينقل لنا المترجم كاظم سعد الدين، ما كتبه أساطين الأدب الروسي عن الأديب الكسندر بوشكين، الذي تعرفنا إليه من خلال روايته (بنت القائد) هو الذي شاء حظه العاثر ان يتزوج امرأة فاتنة الجمال، فتجلب أنظار الرجال، وحتى القيصر نيقولا الأول (1796-1855) الذي ينقل زوجها من وزارة الخارجية إلى مقره عاهداً إليه وظيفة حاجب مخدع نومه، كي يتمكن من اللقاء بنتاليا، زوجة بوشكين، وسيقع في عشقها شاب من نبلاء فرنسة، اسمه جورج دانته ويبدأ الناس يلوكون سمعة بوشكين متهمين إياه بالدياثة، فيطلب بوشكين مبارزته دفاعاً عن سمعته وشرفه، وفيها يصاب بجرح يودي بحياته سنة 1837 وعمره ثمان وثلاثون سنة

كامو الوجودي العنصري

ويعقد الكاتب والمترجم كاظم سعد الدين فصلا عنوانه (شخصية العربي في أدب البير كامو) خصصه للحديث عن كامو الفرنسي المولود في الجزائر سنة 1913، وقد شكل في بداياته ثنائياً وجودياً مع المفكر الفرنسي الوجودي سارتر، وإذ عرف سارتر بدفاعه عن المظلومين في العالم، ولاسيما ثوار الجزائر منتصف خمسينات القرن العشرين، فان كامو كان على الضفة الأخرى تماماً، معادياً للعرب، ومؤيداً الاستيطان الفرنسي في الجزائر بوصفها جزءاً من التراب الفرنسي! وقد تجلى ذلك في تصرفاته وتصريحاته، فضلاً عن أعماله القصصية والروائية (المنفى والملكوت) و(الغريب) و(الطاعون) وغيرها.

في شهر حزيران من سنة 1979، أصدرت مجلة (الأقلام) العراقية عدداً مهماً خاصاً بالأدب الصهيوني، كتب فيه الأستاذ كاظم سعد الدين دراسة عنوانها (حل رموز كافكا الصهيونية) فضلاً عن ترجمته لقصة كتبها الروائي فرانز كافكا (1883-1924) عنوانها (في مستوطنة العقاب) وقد استرعت هذه الدراسة العميقة اهتمام القراء والباحثين، فكتب الأستاذ أحمد الحكيم تعليقاً عنها نشر في العدد ذاته، كما ألفت الباحثة العراقية الرصينة والقاصة بديعة أمين كتاباً مهماً عنوانه (هل ينبغي إحراق كافكا؟) نشرت المؤسسة العربية للدراسات والنشر، طبعته الأولى سنة 1983، وهو كتاب أعود إليه مراراً لأهمية الشخصية المثيرة للاهتمام واختلاف الرأي، وأعني كافكا، وفي الفصل الذي خصصه الأستاذ كاظم سعد الدين من كتابه، الذي نتحدث عنه والموسوم بـ (مشاهير أدباء العالم) عنوانه (حقيقة كافكا. أية حقيقة تلك التي يبحث عنها كافكا؟) وأراه من أهم فصول كتابه هذا، يعاود سعد الدين مناقشاته مع الباحثة بديعة أمين، وكنت أتمنى لو أعاد نشر دراسته تلك في هذا الفصل، كي يحيط القارئ بالموضوع من جوانبه كافة، فلقد أمسى من الصعوبة بمكان العودة إلى ذلك العدد القديم من (الأقلام) الذي نشرت فيه دراسته.

هل كان كافكا صهيونيا؟

لقد ظل الأستاذ سعد الدين يؤكد صهيونية كافكا، واقفاً عند قصصه، مفلياً النص ومحللاً رموزه، وأرى أن حالفه التوفيق في سبر أغوار نصوص كافكا الإشكالية ورموزها الموغلة في التعمية، وهذا ناتج عن الخوف الذي عاش فيه يهود اوربة، واضطهادهم، فلجأ إلى هذه اللغة، فضلاً عن رواياته القصيرة مثل (المسخ) و(المحاكمة) التي حولت إلى فيلم سينمائي كان بطله الممثل الأمريكي الشهير (أنطوني بيركنز) في حين ظلت بديعة أمين تزيل عن كافكا كل ما علق به من غبار الصهيونية بحجة أننا يجب أن لا نخسر أديباً شهيراً بحجم كافكا وذيوعه لكن هذا سبب غير مقنع فأرى أن كافكا لا يمكن إلا أن يكون قريباً من أفكار أهله وقومه، ودفاعه عنها مما يأتلف مع طبائع الحياة والأشياء، ولماذا نصف من يتخلى منا عن مبادئه ومثله وقيمه ودينه، بأقذع الصفات وننعى على كافكا أن لم يتخل عنها ودافع عنها؟ وفي أدبياتنا وموروثاتنا ما يؤكد أن نحب لأنفسنا ما نحب للآخر، فالأستاذ سعد الدين وهو يحلل قصص كافكا ورموزها يستخلص منها أن كافكا كان يقف ضد عمليات الصهر والاندماج وترك دينهم والتنصر، التي دعا إليها بعض القادة اليهود لتلافي الاضطهاد الأوربي، فهل نقبل نحن أن نُصْهَرْ ونُسحَقْ، ولماذا نرتضي للآخر ما لانرتضيه لأنفسنا؟ وخشية الإطالة واقتباس نصوص، سأقتبس نصاً واحداً من الصفحة 323، ففي تحليله لقصة (تحريات كلب) يقف عند قول كافكا (لم نكن نحن الذين ينبغي أن يتحملوا الإثم، وإننا بدلاً من ذلك نستطيع أن نسرع بصمت بريء نحو الموت في عالم جعله الآخرون مظلماً، لا شك أن أجدادنا الأوائل حينما تجولوا كانوا لا يكادون يمتلكون أية فكرة عن أن ضلالهم سيكون لا نهائياً).

يعلق كاظم سعد الدين: (أي انهم حسب رأيه، يعيشون في عالم جعله الأخرون مظلماً، علاوة على الأسباب الأخرى، فهو يدعو إلى نبذ هذا العالم، عالم الشتات، عالم الظلام إلى عالم آخر).

وإذ أؤكد أنه يقصد بـ (الآخرون) الأوربيين الذين أذاقوا اليهود مرَّ الاضطهاد، وأكلوا الحصرم ونحن الذين ضرسنا، ودفعنا ضريبة إجرامهم، ما الضير في أن يدعو كافكا إلى نبذ الظلام والشتات؟ وهل هناك في الدنيا أحد يرغب في الظلم والظلام والعيش في الشتات؟ لكن يجب أن لا يكون هذا الشتات على حساب شتات شعبنا الفلسطيني وظلمه وتهجيره.

ايتماتوف يصف نفسه إنتهازياً

وفي القسم الثاني من الكتاب هذا (مشاهير أدباء العالم) يترجم لنا كاظم سعد الدين مجموعة من الحوارات المجراة مع عديد الادباء والكتاب مثل: الكاتب الإيطالي ايتالو كالفينو، والشاعر السوفياتي المشاكس يفكيني يفتوشينكو، والروائي القرغيزي الشهير جنيكز ايتماتوف، الذي كان من أوائل من تحدث عن الصعوبات التي عاناها الاتحاد السوفيتي والتي ستؤدي به إلى الانهيار والتفكك، بسبب القيادة المركزة وغياب كل مظهر من مظاهر الديمقراطية وإبداء الرأي، قائلاً: أنا اعتقد أن السعادة في الاشتراكية يمكن تحقيقها فقط في ظل ديمقراطية كاملة يتعذر إلغاؤها تتخلل جميع مجالات الحياة الاجتماعية والوجود الشخصي، موجهاً الانتقاد إلى سياسة ستالين واصفاً إياها أنها أصابت الاشتراكية بضربة مرعبة وعطلتها، معترفاً بجرأة انه كان في عديد قصصه ومقابلاته انتهازياً، لأنه ما كان بمستطاعه قول الحقيقة، واضعين في الحسبان أنه ادلى بتصريحاته هذه أيام آخر الرؤساء السوفييت غورباتشوف، الذي دعا إلى المراجعة والمصارحة وهو الذي عرف بالأدبيات السياسية السوفيتية بـ (البريسترويكا) و (الكلاسنوست)، لكني وقد قرأت عديد رواياته مثل (السفينة البيضاء) و(والكلب الأبلق الراكض عند حافة البحر) ولاسيما روايته (ويطول اليوم أكثر من قرن) التي ترجمها الراحل الدكتور سعدي المالح ونشرتها دار رادوغا بموسكو سنة 1989، وجدت انتقاداً واضحاً للسياسة العامة السوفيتية البرقراطية، ومحاولة مسح ذاكرة الناس، حتى طقوسهم الدينية.

وإذ اعترف ايتماتوف بانتهازيته، فان الأديب البريطاني سمرسيت موم المتوفى أواخر سنة 1965، يعترف هو الآخر، بعد أن واصل بكل جد واجتهاد ان يكتب أفضل، يعترف ان مفرداته قليلة، وموهبته في الاستعارة ضئيلة، ونادراً ما يخطر له تشبيه أصيل ومدهش.

فضلاً عن مقابلته مع الروائي البريطاني جورج اوريل صاحب الروايتين الشهيرتين (مزرعة الحيوان) و (1984) الذي يكتب كتاباً عن الحرب الأهلية الإسبانية التي اندلعت سنة1936 بين الحكومة الجمهورية اليسارية والجنرال فرانكو، دافع فيه عن التروتسكيين الذين اتهموا بموالاة فرانكو وقتالهم ضد الجمهوريين، هو ما كان متعاطفاً مع تروتسكي ومن يدين بأفكاره لكن كان يبحث عن الحقيقة. ولأنه عرف -بسبب معايشته أجواء الحرب الأهلية – ما لم يعرفه إلا القلة من الناس فهل هناك احترام للحقيقة أكثر من هذا؟ فالاختلاف مع التروتسكيين لا يمنعه من إظهار حقائق الأشياء. تراجع ص599.