علي الوردي ودراسته الأبتدائية والمتوسطة بين الكاظمية والكرخ..ماهي الفترة البشعة من حياته ؟!

Sunday 29th of August 2021 10:32:28 PM ,
5012 (ذاكرة عراقية)
ذاكرة عراقية ,

علي طاهر تركي

بدأت رحلته الشاقة في مضمار الدرس والتعلم مع نهاية الحرب العالمية الاولى ، وهو ابن خمس سنوات ، معتمراً عمامة خضراء دلالة نسبه الشريف الى البيت العلوي ، حيث درس مبادئ القراءة والكتابة وشيء من الحساب ، الى جانب حفظه للقرآن الكريم ، في احدى (كتاتيب) الكاظمية في مسجد قرب دار أبيه .

استكمل بعد ذلك دراسته في احدى مدارس الكاظمية ، على الرغم من نظرة الريبة والازدراء من المجتمع المتخلف ازاء المدارس الحديثة أو كما اطلقوا عليها يومئذ بـ»المكتب” ، وهي نظرة من مخلفات العهد العثماني ، تركت اثرها الفاعل في عزوف العديد من ابناء المدن عن ارسال اولادهم الى المدارس .

لم يستكمل علي الوردي دراسته في المرحلة الابتدائية ، اذ اخرج من المدرسة في عام 1927 وهو في الصف الاخير من دراسته ، وزج به في دكان احد أقربائه ، ليتعلم عنده، وعلى حد تعبيره ، (فن العطارة) من بيع وشراء ، لقاء أجر شهري قوامه خمس ربيات فقط، بيد ان هذا التغيير المفاجئ والطارئ في مساره التعليمي لم يرقه ولم ينسجم معه ، اذ وجد نفسه غريباً في وسط (العطارة) ، وما يتعلق بها من معاملات التسوق وتعاملات زبائنه.

فلا غرو اذ نجده مقتنصاً كل فرصة سانحة لولوج عالمه الخاص ، حيث المطالعة وقراءة الكتب داخل دكان العطار ، وهو أمر قوبل بالرفض والاستهجان من رب العمل ، مشدداً على ضرورة الاهتمام بأصول المهنة من إغراء وجلب للزبائن ، محذراً إياه في الوقت نفسه من مغبة التقاعس عن العمل ، والتوجه ، وعلى حد تعبيره ، نحو “قراءة لا تغني ولا تسمن»، متوعداً أياه بالطرد من العمل إذا استمر في نهجه هذا .

ضاق ذرعاً به صاحب الدكان ، فقرر الاستغناء عن خدماته ، فتنفس الوردي الصعداء لحرية طال انتظارها لسنوات خمس . ناءت بأوزارها عليه الى حد وصفها بـ”أبشع فترة» في حياته ، بل و»مرارة لا حد لها» ، لاسيما انها وقعت وهو في خضم سني المراهقة وريعان الشباب ، مما زاد من معاناته وتأثره في هذه المرحلة الحرجة من عمره معاناة اضافية اثرت في تكوينه الشخصي تأثيراً كبيراً ، اكده وبصورة لا لبس فيها في احدى لقاءاته الصحفية اذ جاء فيها ما نصه :

« لقد أمضيت في مهنة العطارة نحو خمس سنوات ، وكانت تلك أبشع فترة في حياتي … وكنت في تلك الفترة اجتاز مرحلة المراهقة والبلوغ ، وهي مرحلة ذات أهمية بالغة في نمو شخصية الانسان ، ولعلني لا أغالي اذا قلت بأن شخصيتي نمت على أساس من المرارة لا حد لها “ .

استمر على هذا المنوال بين القراءة والكتابة ، حتى جاءت انعطافه تاريخية مهمة في حياته وذلك خريف عام 1931 ، تلك الانعطافة المتمثلة في عودته الى مقاعد الدراسة مرة اخرى ، عندما علم يوماً بافتتاح مدرسة ابتدائية مسائية في الكاظمية ، عندها قرر التسجيل فيها والانضمام الى فصولها الدراسية وملؤه حماسة وشغف بحب العلم ، ترجمه الى تفوق في الدراسة ، اهله الى استكمال دراسته الاولية في مرحلة المتوسطة ، فانتقل للدراسة في “متوسطة الكرخ»، تاركاً دكانه ومهنة العطارة دونما رجعة ، مستثمراً أرباحه فيها في الانفاق على دراسته التي عدها تطوراً «ذا أهمية كبيرة» في حياته.

شكلت مرحلة دراسته في المتوسطة والانتقال الى الكرخ ، تغييراً كبيراً اثر في تكوينه الشخصي ، ليس أقله الانتقال من زي (الملائية) الى البنطال والسترة والسدارة زي (الافندية)، انتقال حمل في طياته معنى ومعنى ، فهو ليس تغيير ملابس فحسب كما عدها الوردي نفسه ، بل تغيير رؤى وافكار ، كانت تصطدم مع واقع متخلف ، تمسك وسط حيوي من ناسه بكل ما هو قديم تقليدي رافض لكل مظهر من مظاهر التغيير والتجديد.

فلا مراء اذ نجد الوردي في ذهابه وايابه الى المدرسة ، قد سلك مساراً عبر الازقة والطرقات الضيقة في الكاظمية ، تجنباً لما كانت ترمقه بعض اعين العامة من نظرات امتعاض واستهجان لارتدائه زي الافندية غير المقبول في وسطها ، بل ان البعض عدّ ارتداءه بيع (الدين بالدنيا) ، ومفسدة للسلوك القويم وابتعاداً عن الاخلاق الحميدة.

لم تهن همته او تلن عريكته على الرغم من المعوقات والمعاناة الملاحقة لمسيرته الدراسية ، أذ كانت تزيده اصراراً وعزماً ، و لم يقنع طول سني دراسته في المرحلة المتوسطة دون الحصول على المرتبة الاولى بين اقرانه من التلاميذ ، متوجاً هذا التفوق بإحرازه المرتبة الأولى على عموم العراق في الامتحانات العامة (البكلوريا) صيف عام 1935 ، فكانت النتيجة مدعاة فخر وابتهاج استاذه المدرس ، وهو ما اثر في دفع مدير المدرسة الى تقديم توصية الى وزارة المعارف (التربية) ، لمنح الطالب المتفوق اعانة مالية شهرية تعينه على استكمال دراسته في المرحلة الاعدادية ، فوافقت الوزارة على منحه ديناراً ونصف شهرياً ، وهو امر لم يستمر طويلاً، اذ سرعان ما انقطعت عنه المنحة ، وحولت الى طالب اخر بسبب المحسوبية والمنسوبية ، التي طالما عانت منها البلاد والعباد معاناة كبيرة ، فترك ذلك اثراً عميقاً في نفسه لازمه الى أواخر حياته.

عن رسالة (علي الوردي و جهوده الفكرية وآراؤه )