حقيقة الديمقراطية: فن العيش المشترك

Wednesday 8th of September 2021 12:39:42 AM ,
5019 (منارات)
منارات ,

المهدي مستقيم

لا بد للدولة الديمقراطية من شعب ذي هوية جماعية قوية يحرص على تطبيق مبادئها انطلاقًا من تشرُّب مبدأ الاحترام الوضعي، الذي منه تنبجس قيم التضامن والالتزام بيننا من أجل خدمة مشروع سياسي مشترك،

حتى يتمكن شخص أو جماعة من الأشخاص من حكم مجموعة كبيرة من الأفراد كان لا بد من الحصول على سلطة ذات شرعية تخوّل للحاكم إصدار أوامر ملزمة للجميع. ومن أجل ذلك صِيغَت صِلة مقنعة بين القانون والسلطة السياسية من جهة، وبين المعتقدات والممارسات الدينية من جهة أخرى أتاحت للحكام ضمان خضوع الناس لأوامرهم.

ولا تتحقق السياسة بوصفها مطلبًا، إلا بتحقق ما تعد به. ولعل أعظم وعد تعد به هو الحرية بما هي قيمة سياسية منشؤها من السياسة نفسها. وهو الأمر الذي فطن إليه الفيلسوف الفرنسي جان لوك نانسي في كتابه «حقيقة الديمقراطية» الصادر حديثًا عن دار توبقال للنشر والتوزيع-2020م، بترجمة الدكتور عز الدين الخطابي، غير أن السياسة تقتضي تشييد قواعد قوامها الشرِكة والاشتراك والمشارَكة والتشارُك، بيد أن المعايير التي يعتمد عليها العمل السياسي في ممارسته للحكم، حسب جان لوك نانسي، لا يمكن أن تنشأ من معانٍ متعالية، وإنما منشؤها من صلب التعدد والتنوع البشريين، ويرجع ذلك إلى كون الحكم السياسي ليس مسألة معرفية أو فكرًا تأمليًّا، بل هو مسألة حرية إنسانية، أي أنه يحيل إلى عالم يشترك فيه الناس الأحرار فيما بينهم.

لطالما اعتُبِرت «الكليانية» شرًّا سياسيًّا مطلقًا مضادًّا للديمقراطية، شرًّا عارضًا انقضّ على الديمقراطية من دون أن يكشف عن مصدرها، في حين أن هذا المصدر، كما يذكر جان لوك نانسي، ليس سوى الديمقراطية نفسها، لقد خذلت الديمقراطية نفسها حين عجزت عن التوافق مع مثالها ذاته، ومع حقيقة «الشعب» وحقيقة السلطة، وهو الأمر الذي جعلها وسيلة تدعّم أسس الحركات «الكليانية»، فقبل الحرب العالمية الثانية والأولى كذلك «كان من الممكن أن يعدّ المرء نفسه «ماركسيًّا» بهذا القدر أو ذاك بصيغ مصطنعة أو منمقة، أو يعدّ نفسه بالضرورة «ثوريًّا» ولو بصيغة «محافظة» أو «روحية».

وكيفما كان الحال، فإن الفكر تخلى عن الديمقراطية، وفي أفضل الأحوال، عدَّها أَهونَ الشرور. هكذا تَبيَّنَ أن الديمقراطية تحمل حتميًّا، إمّا كذبة الاستغلال أو كذبة الرداءة، ومن الممكن أن تكون الكذبتان مجتمعتين. بذلك، انغمست السياسة الديمقراطية بشكل لا يقاوم، داخل رفض مزدوج للعدالة والكرامة.

يبرز جان لوك نانسي أن الهجوم الذي عَرَّضَت له الديمقراطية نفسها جعلها مطالَبةً بالابتكار من جديد عوْضَ الاكتفاء بالدفاع عن الحالة التي وُجِدَت عليها، وتُعَدّ حركة 1968م أول مؤشر لمطلب الابتكار هذا، حيث «حصل تحول عميق للفكر في معناه الأوسع والأعمق والأكثر نشاطًا وإجرائية أيضًا، للفكر بوصفه خطة تأمل في الحضارة والوجود وأشكال التقويم. ومما لا شك فيه، أن المطلب النيتشويّ «لقلب جميع القيم» أصبح فعّالًا في هذه الحقبة، وذلك بشكل مغاير للنمط البهلواني والكارثي المميز للرايخ الثالث».

الديمقراطية بوصفها روحًا

على الديمقراطية إذن حسَب جان لوك نانسي أن تفكر في نفسها بوصفها رُوحًا، لا بوصفها شكلًا ومؤسسة ونظامًا سياسيًّا واجتماعيًّا فقط، على أن الرهان الأعظم الذي تصبو إليه هو: الاهتمام بالوجود، «فما يجعل هذا الأخير مشتركًا، لا ينتمي فقط إلى نظام الخيرات المتبادلة، بل أيضًا إلى ما لا يمكن تبادله وما لا يتوفّر على قيمة معينة؛ لأنه خارج كل قيمة قابلة للقياس».

ويرجع جان لوك نانسي اعتقاد جان جاك روسو القائل: إن الديمقراطية الحقة (المباشرة، الفورية، التلقائية) لا يمكنها أن تكون صالحةً إلا لشعب من الآلهة- إلى إيمانه الراسخ بأن الشعب والإنسان يجب أن يكونا مؤهَّليْنِ حتى يتعين القول: إن اللامتناهي معطى؛ فأنْ «ننسى أن الإنسان ليس إلهًا، وأن ارتقاءه بصيغة المطلق لا يُعرض، بل يحدث هنا والآن ضمن حضور، لا يمكن لـ«كرامة الشخص» و«حقوق الإنسان» أن تضمنه بأي وجه من الوجوه، رغم الارتباط الحاصل بينها وبينه. يجب إذن، ألا ننسى أن «المشترك» أي الشعب لا يمكنه أن يحظى بالسيادة، إلا في وضع يميزه بالضبط عن الارتقاء السيادي للدولة ولأي تشكيلة سياسية كيفما كان نوعها: ذلك هو شرط الديمقراطية، وهو ما يتعين علينا فهمه منذ حركة 68.

السياسة الديمقراطية بوصفها سياسة منفصلة

ينفي جان لوك نانسي الفكرة القائلة: إن السياسة منفصلة، ويرجع ذلك إلى ماهية الكينونة المشتركة التي لا تقبل أن تؤقنم داخل أي شكل أو دلالة، فالمطلب الديمقراطي يضعنا وجهًا لوجه «أمام التمييز وليست هذه المهمة شيئًا آخر، غير ما يسمح بشق طريق الخروج من العدمية. وبالفعل، ليست هذه الأخيرة شيئًا غير إلغاء التمايزات، أي إلغاء المعاني والقيم، فالمعنى أو القيمة لا يحصلان إلا عبر الاختلاف؛ ذلك أن المعنى يتميز من غيره، مثل تميز اليمين من اليسار، والرؤية من السماع، وتُعَدّ القيمة على هذا الأساس غير متساوية مع غيرها».

ويوضح جان لوك نانسي أن السياسة الديمقراطية تفتح المجال أمام هويات متعددة من دون أن تصطف بجانب هذه دون تلك، وهو الأمر الذي يجعل الديمقراطية ترفض التمثيل؛ ذلك لأنها ليست من ماهية تمثيلية، «إنما تقدم ارتقاء تمثيل مصير وحقيقة ما هو مشترك، لكنها ترفض تمثيل الفضاء المشترك، بحيث تستطيع أن تفتح في إطاره كل تكاثر ممكن للأشكال التي قد يتخذها اللامتناهي، أو أيضًا لأوجه تأكيداتنا ولكل إعلان عن رغبتنا».

فن العيش المشترك

ومن ثمة يستنتج جان لوك نانسي أن الديمقراطية تقتضي تجاوز النظام السياسي، ولا يمكن أن يتحقق ذلك إلا داخل المدينة بمؤسساتها وصراعاتها بما هي فن للعيش المشترك، أي بوصفها شكلًا من أشكال الإنسانية اللامتناهية، هنا بالضبط يمكننا أن نحس بروح الديمقراطية. فـ« لا الموت ولا الحياة، يقدَّرانِ لذاتهما، فما يقدَّر فقط هو الوجود المشترك الذي يواجه غياب معناه النهائي، مثلما يواجه معنى كينونته الحقيقية- اللامتناهية».

لم تعد الديمقراطية كما كانت من قبل ذات صلة بالنظام السياسي، حيث سعت الديمقراطية الحديثة إلى أن تكون تأسيسًا جديدًا وشاملًا للعمل السياسي، وهو الأمر الذي فرض عليها أن تنزل لما هو أعمق من الأساس ذاته، أصبحت مهمة الديمقراطية هي أن تُوَلِّد الإنسان من جديد

عن الاندبندنت