صراع في البلاط الملكي سر الخلاف بين الملك فيصل الاول وفهمي المدرس

Sunday 19th of September 2021 10:08:17 PM ,
5027 (ذاكرة عراقية) (نسخة الكترونية)
ذاكرة عراقية ,

اعداد: رفعة عبد الرزاق محمد

في منتصف الثمانينيات كتبت مقالة بعنوان (إستجلاء موقف فهمي المدرس يوم التتويج سنة 1922) تناولت فيه الحادث الخطير الذي وقع أمام البلاط الملكي في يوم الذكرى الاولى لتتويج الملك فيصل الاول وأدى الى قرارات للمندوب السامي البريطاني في بغداد لضرب الحركة الوطنية، ومنها عزل المرحوم فهمي المدرس الذي كان يتولى منصب رئيس الامناء في البلاط الملكي.

وعندما التقيت يومئذ بالاستاذ خيري العمري عرضت عليه ما نشرته، فابدى رضاه عن التفاصيل التي اوردتها في المقال، غير انه لم يكتف بذلك رغم مرضه رحمه الله، بل شفع موافقته بكلمة عن الموضوع، اقدمها هنا لاهميتها التاريخية.

ربما وقع اختيار الملك فيصل الاول على فهمي المدرس ليكون اول رئيس للامناء في البلاط لاسباب عديدة منها ما كان يتميز به الرج من مكانة ادبية وعلمية منذ العهد العثماني باعتباره واحدا من العراقيين القلائل الذين برزوا في الاوساط العلمية فتبوأ مركزا مرموقا في جامعة الاستانة وصار احد الاساتذة فيها مما كان ينظر اليه العرايون بصورة عامة، والبغداديون بصفة خاصة باعتزاز.

وكان وجود المدرس في هذا المنصب وهو وثيق الصلة والعلاقة بالاوساط الوطنية يجعل البلاط في تلك الفترة، وبتشجيع منه مفتوح الابواب امام العناصر الوطنية لذلك لم يكن المدرس في البلاط محل ثقة العناصر الاخرى التي كانت تنظر اليه من هذه الزاوية نظرة لا تخلو من السخط.

وقد مر على البلاط عهد كان يتجاذبه الى مجاراة الحركة الوطنية ومعارضة معاهدة سنة 1922 والسعي الى عدم قبولها، والثاني كان يحاول جر البلاط باتجاه يميل لقبول المعاهدة والرضوخ لاحكامها ويتزعمه رستم حيدر سكرتير الملك الخاص.

وظل الصراع بين المدرس وحيدر يدور في اروقة البلاط يلوح مرة بشكل علني، ويختفي مرة اخرى بحيث لايبدو الا من وراء الكواليس حتى حسم في حادثة وقعت في 22 آب سنة 1922 عندما قامت مظاهرات نظمها الحزبان المعارضان وها حزب النهضة والحزب الوطني احتجاجا على سياسة الانتداب وبمناسبة مرور سنة على تتويج الملك فيصل وقد اتجهت المظاهرات الى البلاط وفي ساحة القشلة تجمعت الجماهير وهي تطالب بمطاليب وطنية. وتعاقب الخطباء من الحزبين كل منهم يؤكد مطاليب حزبه. ووسط هذا الجو الحماسي وصل فجأة المندوب السامي البريطاني السير برسي كوكس ليقدم التهنئة التقليدية الى الملك، وما ان اقبلت سيارته يتصدرها العلم البريطاني ووقفت وسط تلك الساحة وامام باب البلاط وسط الجماهير المحتشدة ونزل عنها السير برسي كوكس حتى استفز مظهره الجماهير فاندفع احد المتحمسين من المواطنين وهو (حسون ابو الجبن) وهتف بسقوط الانتداب امام المندوب الساي الذي امتقع لونه فدخل البلاط هربا من غضب الجماهير وقدم احتجاجا رسميا معتبرا المدرس مسؤولا عن هذا الحادث ومحرضا عليه.

وقد استغلت هذه الحادثة من قبل السلطات البريطانية التي وجدت فيها ذريعة مناسبة لابعاد المدرس عن البلاط باعتبار ان وجوده في مثل هذا المركز يشكل خطرا على المصالح البريطانية ويعرقل تصديق المعاهدة، فاسرع الملك فيصل الى عزل المدرس من منصبه وكتب الى كوكس يطمئنه بذلك، وانقعت صلة المدرس بفيصل فترة من الزمن حاول بعدها الملك ان يسترضيه فعهد اليه بتولي رئاسة جامعة آل البيت التي تأسست في تلك الفترة تطمينا للمشروع الثقافي الذي كان المدرس يسعى لتحقيقه وقد بذل جهودا جبارة وكتب الكثير من المقالات في الصحف والمجلات عنه. ولما وضعت الفكرة موضع التنفيذ عهد اليه برئاسة الجامعة وكان المدرس شديد الاعتزاز بهذا المشروع الذي خطط له ليكون بداية متواضعة لجامعة عراقية تعيد لبغداد مركزها الحضاري القديم، ولكن سرعان ما اثيرت حوله المصاعب ووضعت امامه العقبات التي حسمها نوري السعيد عام 1930 فاجهض المشروع وقضى عليه!

وتلقى المدرس الضربة بالم، وشعر انه فقد شيئا عزيزا عليه فانسحب من الميدان وانتمى للحزب الوطني الذي كان في ذلك الحين يمثل الجناح المتطرف في الحركة الوطنية واصبح المعبر الاول عنها يطل كل يوم على المواطنين بافتتاحيات شديدة اللهجة تتصدر الصفحات الاولى من جرائد المعارضة وهي مذيلة بتوقيع (الكاتب الكبير).

وعندما اتجهت رغبة الملك فيصل ونوري السعيد لابرام معاهدة عام 1920 وقامت قائمة المعارضة الوطنية، برز المدرس بمقالاته العنيفة ووقف وجها لوجه امام الملك فيصل حين كتب مقالته المشهورة (باسم الاستفتاء ومصيره) عارض فيه المعاهدة بعنف وغمر قناة الملك مذكرا اياه بمصير العروش التي تنكرت لاماني شعوبها، وقد وقع المقال وقوع الصاعقة على الملك وكبر عليه ان يهاجمه رئيس امنائه بهذا الاسلوب الذي لا يخلو من التهديد، فاوعز الى نوري لاسعيد بسوقه للمحاكم، وكانت المشكلة ان المقال الافتتاحي المذكور لم يكن يحمل توقيع المدرس. وانما كان كاغلب مقالاته مذيلا بتوقيع (الكاتب الكبير). ومضى نوري السعيد يفكر بمخرج قانوني فلم يسعفه الحظ فاضطر ان يلجأ الى قانون دعاوى العشائر الذي بخول وزير الداخلية تطبيق هذا القانون على بعض رجال العشائر لاسباب امنية فيبعدهم الى اماكن يقررها هو وحسب تقديره. واستنادا لهذا القانون القي القبض على المدرس ورفائيل بطي بوصفه رئيس تحرير جريدة (البلاد) التي نشرت المقال وابعدتهما الى السليمانية وكان الوقت شتاء والبرد شديدا فاثارت هذه الاجراءات ثائرة المعارضة فهبت الصحف الوطنية والاحزاب ورجال المعارضة في البرلمان تنتقد الحكومة على هذا الاجراء مما اضطرها الى اعادة المدرس وبطي الى بغداد بعد مضي ثلاثة اشهر على ابعادهما الى السليمانية. ولا شك ان هذه الحادثة وسعت الهوة بينه وبين الملك الى درجة انه عندما توفي فيصل ونظمت حفلات التأبين في رثائه التي ساهم فيها عدد غير قليل من الشعراء والكتاب بما فيهم الزهاوي والرصافي، لم يقبل المدرس المساهمة فيها رغم المحاولات التي بذلك لحمله على ذلك!...خيري أمين العمري