الأديب الفيلسوف عبد الغفار مكاوي

Tuesday 21st of September 2021 10:36:52 PM ,
5029 (منارات) (نسخة الكترونية)
منارات ,

محمد بركة

سُئل الدكتور عبد الغفار مكاوي: مَن هو الإنسان? فأجاب: الإنسان هو الكائن الوحيد الذي يقاوم الموت بكل أشكاله، وهو الإنسان الذي يواجهه الموت بكل أشكاله المختلفة, ويؤكد مجد الحياة والعقل والحرية لما يبنيه من حضارة وما يبدعه من فن وأدب، وكأنه كائن يتحدى الموت دائمًا، وكأنه يقول للوجود: إذا كنت سأنتهي للعدم ولكنني لست عدمًا، وسأترك ما يدل على وجودي.

هذا الزاهد في محراب الثقافة الذي لبَّى نداء الحقيقة صباح الاثنين الموافق 24 ديسمبر 2012م، بعد أن ملأ خزانة المكتبة العربية بروائع الثقافة؛ فقد عشق الأدب، وتزوج من الفلسفة، وتناسخت رُوحه في ترجماته الرائعة التي كانت ومازالت جسرًا يصل الشرق بالغرب، فلن ينسى القارئ العربي أن الدكتور مكاوي هو الذي قدم له “برتولد بريخت” كاتبًا مسرحيًّا وشاعرًا، وأيضًا “جورج بوخنر” الذي اعتبره شقيق رُوحه بالإضافة إلى “هيلدرين”. أما عمله في كتاب “ثورة الشعر الحديث” (1972-1974م) فكان حدثًا كبيرًا في ذاكرة الشعر العربي المعاصر من خلال المقدمة والنصوص.

ويُعد الدكتور عبد الغفار مكاوي أحد أبرز أساتذة الفلسفة في العالم العربي، كما أنه من أفضل المترجمين من اللغة الألمانية للعربية، وحصل على جائزة الدولة التقديرية في الآداب من المجلس الأعلى للثقافة عام 2003م.

سيرة ومسيرة

ولد عبد الغفار مكاوي في 11 يناير عام 1930م بمحافظة الدقهلية، وفي عام 1937م دخل المدرسة وبدأ وعيه يتفتح على حب اللغات والاهتمام بالفنون.

وفي عام 1947م عندما قرأ رواية (آلام فيرتر) لشاعر الألمان الأكبر “جوته” التي ترجمها أحمد حسن الزيات؛ راوده إحساس غامض -كما يقول- بأن مصيره سوف يرتبط بهذا الشاعر الفيلسوف، لم يعلم في ذلك الحين أنه سوف يرتبط كذلك بالأدب والفكر الألماني.

أقدم على تعلم اللغة الإيطالية في معهد (داني الليجيري) بالقاهرة، وحصل على منحة لمدة ثلاثة أشهر عام 1953م للدراسة بجامعة (بيروجيا للأجانب). ثم ركز من عام 1954 إلى عام 1957م على دراسة اللغة الألمانية مع الالتحاق بمدرسة الألسن، كما حصل في عام 1957م على منحة لمدة عشرة شهور للدراسة في ألمانيا.

وهكذا نرى أن حب اللغات ودراستها وعشق الفنون قد تجذر وتأصل في وجدان وفكر الدكتور مكاوي الذي درس الإنجليزية والألمانية والإيطالية والفرنسية، لكن اللغة الألمانية تأتي في المرتبة الأولى من حيث الإتقان والإجادة والتجويد، بل استأثرت بنصيب الأسد في مترجماته التي نقلها إلى العربية.

وقد حصل على ليسانس الآداب من جامعة القاهرة عام 1951م، والدكتوراه في الفلسفة والأدب من جامعة فرايبورج عام 1962م، وعمل بقسم الفهارس الأجنبية بدار الكتب المصرية، وبالتدريس بقسم اللغة الألمانية عام 1965م، ثم بقسم الفلسفة عام 1972م، ثم بجامعة صنعاء من 1978 إلى 1982م، كما عمل بجامعة الكويت من 1985 إلى 1995م.

لازمه إحساس مزمن بالمأساوية وتراجيدية الحياة والقدرية, حيث يقول: أنا ريفي، والريفي مسحوق بالقدرية، وهي تحيط به كما تحيط “الخَيَّة” برقبة المشنوق، فما كنت أفعله في طفولتي نوع من الإحساس التراجيدي المتمرد على الحياة والثائر على الظلم وعلى مآسي الوجود وشقاء الإنسان وظلمه, وأستدرك وأقول: إنها ثورة إنسان مكتومة تُفصح عن نفسها في بعض القصص والمسرحيات والكتابات النثرية فيما بعد, ورغم هذا مازلت انطوائيًّا وسلبيًّا من ناحية الكفاح.

بدأ مكاوي حياته شاعرًا، وذلك خلال دراسته في المدرسة الابتدائية في مسقط رأسه “بلقاس”، وهي مدينة تتبع محافظة الدقهلية, وأيضًا بعد انتقاله إلى المدرسة الثانوية في طنطا، وفي القاهرة قرر التوقف عن كتابة الشعر والاتجاه لكتابة القصة القصيرة.

في طفولته بدأ بالتعرف على الشعر من خلال قراءة الرافعي وجبران والحكيم والمنفلوطي وغيرهم، ولكن حبه للشعر جاء من خلال بائع دخان اسمه رشاد,كان يطوف القرى هو وحماره يبيع الدخان؛ يقول مكاوي: وتوطدت صداقتنا، وكان شاعرًا جميلاً، ويحفظ الكثير من الشعر العربي لشوقي وحافظ والمتنبي، وكنا نتطارح الشعر أنا وهو في المقابر حيث كنت أطوف كثيرًا هناك أو في الحدائق، وكان محصوله من الشعر أكثر مني, وفي تلك الفترة كتبت قصائد عارضت فيها شوقي والمعري.

وعن اختياره الدراسة في قسم الفلسفة يقول مكاوي: كان من المفترض أن ألتحق بقسم اللغة العربية أو الإنجليزية أو الفرنسية، ولكن الفضل يرجع إلى الدكتور عبد العزيز المليجي الذي درس لي الفلسفة في المرحلة الثانوية -وفيما بعد أصبح من أبرز علماء علم النفس التحليلي في أمريكا- فقد بهرني وسحرني في قدرته على توصيل رسالته. وفي تلك المرحلة بدأت علاقة حميمة بيني وبين أفلاطون حين قرأت المحاورات, فقد كان شاعرًا أكثر منه مُنَظِّرًا، وهو من الأدباء الفلاسفة، ويقوم في داخله صراع بين المنطق والأسطورة, بين الفلسفة والفن, وفي النهاية عبَّر عن نفسه في شكل محاورات, وكما قال شيشرون: إن هذه المحاورات كان تُمثَّل في العصور الوسطى على خشبة المسرح. ولم أندم على دخولي قسم الفلسفة فقد درس لي زكي نجيب محمود، ويوسف مراد، ومصطفى حلمي، وأحمد فؤاد الأهواني، وعبد الرحمن بدوي.

ولم يستطع الدكتور مكاوي أن يقتل الشاعر بداخله في تلك الفترة؛ فكان يتسلل من قسم الفلسفة إلى قسم اللغة العربية لسماع شوقي ضيف، وأمين الخولي وكان يتحدث عن المتنبي لدرجة أنه قال له: “يا ولد إنت ماجبتش البحث ليه؟” فقال له مكاوي: أنا يا مولانا في قسم الفلسفة. فدعاه لحضور ندوة الجمعية المصرية الأدبية المصرية التي كان من بين أعضائها صلاح عبد الصبور وعبد الرحمن فهمي وشكري عياد وعز الدين إسماعيل وفاروق خورشيد، الذين صاروا أصدقاء العمر فيما بعد.

وعندما تم تعيين الدكتور عبد الغفار مكاوي في دار الكتب في قسم الفهارس لم تكن الوظيفة هي الحدث؛ بل لقاؤه برئيس دار الكتب وكان توفيق الحكيم الذي قرأ له قصتين ونصحه بالابتعاد عن الجامعة والتفرغ لكتابة القصة، ولكنه للأسف لم يفعل.

ويرى الدكتور مكاوي أن “البنيوية” جاءت بعد أن كبر في السن وتم تكوينه، فلم تدخل في دائرة اهتمامه فقرأ فيها ولم يتحمس لها. أما “التفكيكية” فلقد راجع بعض الأبحاث فيها فوجد أن “جاك دريدا” رجل “مُسَفْسِط”, ربما يكون أديبًا ولكن بالنسبة للدكتور مكاوي فهو مخرب على حد تعبيره.

وكان يرى أن البداية الحقيقية لمستقبل الثقافة العربية أن نؤمن بضرورة الثقافة، وأنها مسئوليتنا جميعًا، وليست ديكورًا أو ضوضاء ومؤتمرات كما يقولون ويفعلون، وأيضًا هي عطش وجوع حقيقيان للحرية والعدل، والثقافة هي طوق النجاة الوحيد.

ثورة الشعر الحديث

يُعد كتاب «ثورة الشعر الحديث» -الذي استغرق حوالي ست سنوات من العمل المضني- مشروع الدكتور مكاوي الأكبر؛ فلم يقم الدكتور عبد الغفار مكاوي بالترجمة الحرفية في هذا المشروع. وقد صدرت الطبعة الثانية من هذا الكتاب بعنوان «ثورة الشعر الحديث من بودلير إلى العصر الحاضر»، كما قامت الهيئة العامة لقصور الثقافة بنشره، ومن خلال مقدمة الكتاب يمكن التعرف على الدوافع والأهداف المرتبطة بهذا السِّفْر الضخم الذي جاوزت عدد صفحاته الستمائة، يقول الدكتور عبد الغفار مكاوي في هذه المقدمة: فأما عن الاختيار فقد التزمت بفترة زمنية محددة لا تتجاوز منتصف القرن العشرين، كما تقيدت بمجال معين لا يتجاوز الآداب الفرنسية والإسبانية والإيطالية والألمانية، والكتاب لا يفكر في تقديم لوحة شاملة أو بانوراما تضم كل أعلامه؛ لأن مثل هذه المحاولة تخرج عن هدف الكتاب، ثم إنها تفوق قدرة إنسان واحد وحياته، ولذلك اكتفيت من الشعراء الثلاثة الكبار: «بودلير» و»رامبو» و»مالارميه» بالنصوص الواردة في متن الدراسة ثم أضفت إليها في المختارات بعض قصائد من «فيرلين» حتى تتم صورة هؤلاء الأربعة الكبار وحتى تكون المختارات تطبيقًا للمبادئ النظرية التي يعالجها الجزء الخاص بالدراسة.

فالكتاب لم يستند إلى الترجمة وحدها، وإنما تداخلت معها عناصر أخرى مثل الفكر النقدي والاختيار المنهجي والقدرة على الربط بين ما هو تنظيري وما هو تطبيقي والذوق الخاص للمترجم والمؤلف، ويؤكد هذا المعنى الدكتور عبد الغفار مكاوي في مقدمة الكتاب: إنني تذوقت الكتاب الذي اعتمدت عليه واعترفت بفضله عليَّ ودَيْني الكبير نحوه، وإنني لم أترجمه حرفيًّا، وإنما التزمت بعرضه التاريخي والموضوعي وخصائصه الأساسية؛ لإيماني بأن أهل هذا الشعر أدرى به منا وأكثر قدرة على تفسيره ووضعه في سياقه الحضاري واللغوي والفكري والاجتماعي والعلمي المتطور، ثم أضفت إليه من مراجع مختلفة وزدت عليه، ويكفي في هذا الصدد أن أقول: إن متن الكتاب الأصلي -مع استثناء المختارات الشعرية الملحقة به- لا يصل إلى مائة صفحة أصبحت عندي سبعمائة، وأذكر أنني أرسلت نسخة من الطبعة العربية في أوائل السبعينيات للأستاذ “فريدريش”، وشرحت له مدى تصرفي في الكتاب مع التقيد التام بالمعلومات الواردة فيه، وردَّ علي بما يفيد تفهمه وتقديره. ثم اتجه المترجم بعد ذلك إلى شاعر الوَحدة والاكتئاب والحنين “سفريد ريش هلدرين”، فترجم معظم أشعاره وأناشيده الكبرى في إطار شبه روائي ضم سيرة حياته المأسوية.

أما كتاب “قصيدة وصورة” الذي ضم عددًا كبيرًا من الترجمات الشعرية، وكان موضوعه تأثر الشعراء عبر العصور أو تراسلهم مع الفنون التشكيلية، وصدر ضمن سلسلة عالم المعرفة في الكويت. وكتاب “حكمة بابل” الذي صدر عن نفس السلسلة، وضم كل نصوص ما يعرف في علم “الأشوريات” باسم “أدب الحكمة البابلية”، وهي قصائد طويلة تَغَنَّى فيها أصحابُها المجهولون برثاء النفس والظلم الواقع عليهم.

ويستمر مترجمنا القدير في رحلته لاستكشاف مناطق شعرية جديدة حتى يصل إلى الشاعر الإيطالي “جوسيبي أنجاريتي”، الذي ولد بالإسكندرية في عام 1888م ومات في ميلانو عام 1970م، هذا الشاعر الكبير الذي يُعد رائد التجديد في الشعر الإيطالي في القرن العشرين، والذي أسس مع زميليه اتجاهًا شعريًّا عرف باسم (الهرميتيزم) أو الألغاز، وصدر الكتاب بعنوان “يا إخوتي، قصائد مختارة من شعر أنجاريتي) في سلسلة “آفاق الترجمة” الصادرة عن الهيئة العامة لقصور الثقافة.

إبداع أدبي وفلسفي

للدكتور مكاوي العديد من الإنتاج الأدبي والفلسفي من: كتابة الشعر، والقصة القصيرة، وترجمة مقالات عن توفيق الحكيم، وترجمة بعض المقالات من الأدب الغربي، وترجمة أشعار «إليوت» وغيره، والتي نُشرت في مجلات: الثقافة، والأدب، والمجلة، والأديب، والآداب.

كما تمثل نشاطه الأدبي والفلسفي أيضًا في صورة مقالات ودراسات نُشرت في كتابين هما: مدرسة الحكمة، والبلد البعيد، بالإضافة إلى الترجمات الشعرية والمسرحية عن الأدب الألماني وبوجه خاص “بوخنر” و”برخت” و”جوته” ومعظم الشعراء الأوروبيين المعاصرين. كتب في مجلة “المجلة” مع الأستاذ يحيى حقي، ومجلة “الفكر المعاصر” مع الأستاذ فؤاد زكريا.

صدر له ابتداء من عام 1970م العديد من الكتابات في المجال الأدبي منها:

مجموعات قصصية: ابن السلطان، الست الطاهرة، الحصان الأخضر يموت على شوارع الإسفلت.

مسرحيات، منها: مَن قتل الطفل؟، زائر من الجنة، دموع أوديب، القيصر الأصفر، ومسرحيات أخرى شرقية، مثل: هو الذي طغى، بشر الحافي يخرج من الجحيم، ملحمة جلجامش، الكلاب تنبح على القمر، الانتهازيون لا يدخلون الجنة، الموت والمدينة، المرحوم، الكنز، السيد والعبد، الطفل والفراشة.

دراسات أدبية: سافو: شاعرة الحب والجمال عند اليونان، المسرح التعبيري، شعر وفكر، كتاب الزيتونة والسنديانة، مدخل إلى حياة وشعر عادل قرشولي مع النص الكامل لديوانه، هكذا تكلم عبد الله، عصور الأدب الألماني.

مؤلفات فلسفية، منها: لِمَ الفلسفة؟، المنقذ، الحكماء السبعة، النظرية النقدية لمدرسة فرانكفورت، مارتن هايدجر، نظرية أفلاطون عن الحقيقة، ماهية الحقيقة أليثيا (ثلاثة نصوص من كتاب الذكر) نداء الحقيقة، قصيدة وصورة، جذور الاستبداد.

جريدة الاهرام