لـويـس أراغـون وأسـرار الـكـتـابـة

Tuesday 5th of October 2021 10:14:22 PM ,
5037 (منارات)
منارات ,

د. عـبـد القـادر حسين ياسين*

ما الذي يجعل واحداً من الناس قوي الحضور ، وشاهداً على عـصره بعـد مرور 38 سـنـة على رحيله؟

أهـو الشعـر في زمن انحـسار متـذوقـيه؟

أهي الكتابة وقد كسد سوقها؟

أهو التعدد في زمن طغيان أحادية التفكير؟

أم هي الروح الموارة بالحركة ، التي تواكب التغير وتحتفي بالإنساني والمتجدد؟

لويس أراغـون واحـد من كوكبة شعـراء فـرنسا في القـرن العـشرين، لم تؤثر ولادته غير الشرعـية على تفجر موهبته، ولم يتردد في ترك دراسة الطب، والتفرغ للكتابة التي تربطه بالناس ، ورأى أن وظيفة الكتابة تدوين أسرار الخيال ، ووسيلة لاستنباط أسرار جديدة منه.

أدرك طاقات اللغة غير المتناهـية، وفهم احتمالات الحياة، وتحدى قوى العادات، ولم يخش كسر المتوقع، وغاص إلى قاع محيط الكلمات لاقتناص لآلئها.

كتب أراغون القـصيدة والأغـنية والرواية والدراسة النقـدية والمقالة، وكتب عدداً من المقدمات لكتب أدباء من فـرنسا ومن أنحاء العالم، ومارس الصحافة، وعـمـل مديراً لمجلة “الآداب الفـرنسية”، وأبرز عدداً من الكتاب الشباب، واكـتـشـف مواهـب ،وقامات أدبية مرموقة مثل بيتشيت وسوللر،وعـدّ الكتابة الشكل الأرقى بين أشكال الفكر، ورأى أن المادة المكتوبة كأنها الحرف ، الذي يحل عـقـدة موقـف استـعـصى على الحل ظاهرياً بين الناس.

رأى أراغـون أن الكتابة “عـلم المستقـبل”، وأنها “قوة تغيير للآخر وللعالم وللذات” في آن معاً،

ولكنه ظل يردد: “أنا لم أصل إلى أية حقيقة مؤكدة ،إلا عبر الشـك والقـلـق والعرق وعـناء التجربة.

وأحترم الذين لا يعرفون ، والذين يبحثون ويتلمسون طريقهم ويتعـثرون».

وظلَّ يحث على وجوب تسمية الأشياء بأسمائها، وعلى ضرورة دقّ ناقـوس الخطر ،المهمة الأبرز للمبدع ،في وجه قارعي طبول الحروب.

رأى أراغـون في الحب طاقة خلاقة لبلوغ الأجمل، فأحب إلـزا ، المرأة والفكرة ورمز تجدد الحياة وألقها، وشغـل الدنيا بحبه لها وبجنونه “المتبصر” بها، ورأى فيها المرأة التي يصير كل شيء من دونها مثل الرمال الهاربة.

توفي أراغـون عن 85 عاماً بعد أن برهن للعالم، بما لا يدع مجالا للشك، كيف يمكن أن يكون الإبداع الفني والأدبي نابضاً بالحياة، مؤثراً وصادقاً في ظل الالتزام اللامحدود بقضايا الإنسان والإنسانية.

كان لويس أراغـون ـ على حد تعبيرالفيلسوف الفرنسي بيير موروا ـ “صوتاً عظيماً..

غـنـَّى للحياة ، في لغة بسيطة ومحكمة».

إنه لا يمكن لنا، ونحن بصدد الحديث عن شاعـر، وروائي، وناقـد أدبي، ومناضل سياسي، بحجم لويس أراغـون، أن نتناول جميع جوانب حياته، نضاله، فكره، وفـنه ،لأنه من الصعـوبة بمكان عمل ذلك مع رجل ،”يمكنه أن يكتب كلمة واحدة فتعتبر أدباً” ، على حد تعبير الشاعر الفرنسي يوجين غيللفيك، أو مع رجل “جمع الأضداد في إيقاع واحد” ، كما أشار إلى ذلك يانيس ريتسوس، في قصيدته “الضريح الصامت”،التي أهـداها إلى أراغـون في عيد ميلاده الخامس والسبعين.

جـذور الالـتـزام

وُلـِدَ لويس أراغـون في ضاحية “نييللي” المتاخمة لباريس، في العام 1897، كطفـل غير شرعي، وقدمته أمه إلى المجتمع الفرنسي كأخ لها، وليس كإبن، في الوقت الذي رفض فيه أبوه الاعتراف رسمياً بأبوته له.

لم يدرك أراغـون، الذي عاش عذابات الـفـقـر ، وعانى من عـوز الحياة ، حتى فترة متأخرة من حياته، حقيقة وضعه إلاَّ في سن العشرين.

وكانت هذه الواقعة أحد مؤشرات تفسير حياة أراغـون الفنية، وروحه المتمردة الرافضة، كما أورثه ذلك كرهاً عميقاً لأسلوب الحياة، والأخلاق البرجوازية المتعـفـنة، وزرع في نفـسه بذور الالتزام.

بـيـدَ أن التطورات الاجتماعية التي عاشتها فرنسا، وعلاقـته الخاصة بزعيم الحركة السوريالية، أندريه بريتون، وانضامه إلى الحزب الشيوعي الفرنسي، كل ذلك أدى إلى التزام أراغـون التام،وانحيازه في فـنه ونضاله إلى جانب الجماهير التي آمن بها، وبقـدرتها على الفعـل والتغيير، حتى يوم رحيله المشفـوع بدموع هذه الجماهير، وحبها وتخليدها للرجل الذي أفـنى حياته من أجلها،

معبراً عن آمالها وتطلعاتها، مستثيراً فيها بكلماته مكامن التضحية، والفداء، باعثاً فيها أسمى المشاعـر الإنسانية.

ان رهافة روح لويس أراغـون لم تـُغمِض عينيه عن قساوة الواقع ومرارته.

لقد قاده الواقع إلى الفعل السياسي، الذي جعـله واحداً من أبرز أبناء جيله تأثيراً في هذا العصر.

في العام 1933 عـمل أراغـون محرراً ثقـافيـاً في صحيفة L’Humanité»الأومانيتيه»، الصحيفة المركزية الناطقة باسم الحزب الشيوعي الفرنسي. كما انتخب في ذلك العام عضواً في جمعية الأدباء والفنانين الثوريين، وأدى نشره لقصيدة “الجبهة الحمراء” لملاحقـته من قبل السلطات الفرنسية، وحُكم عليه بالسجن لمدة خمس سنوات، بتهمة “إهانة العـلم الفرنسي». إلاَّ أن الحكم لم يـُـنـفـَّـذ.

وبالرغم من الملاحقة المستمرة له من قبل الشرطة الفرنسية، إلاَّ أن أراغـون استمر في خوض غمار المعترك السياسي، من خلال موقعه الأدبي، والتزامه جانب القوى المضطهدة (بفـتح الهـاء(.

فقد اشترك في العام 1937 في تحرير صحيفة “هذا المساء”، ذات الاتجاه اليساري، التي بلغ معـدل توزيعها نصف مليون نسخة، وبعد أن مُنعت هذه الصحيفة من الصدور، في العام 1939،غادر أراغـون فرنسا إلى الولايات المتحدة الأميريية، بعد لجوئه إلى سفارة تشيلي، من جراء ملاحقة السلطات الفرنسية له.

شاعـرالـمـقـاومـة الـفـرنـسـية

يعـتبر لويس أراغـون، دون منازع، أشهر شعراء المقاومة الفرنسية ، ضد الاحتلال الألماني النازي لبلاده أثناء الحرب العالمية الثانية.

وبالرغم من أنه كان يقـف إلى جانبه شعراء فرنسيون بارزون ، مثل بول إيلوار، وجان كاسو، وبيير جان، وهنري ميشو، ولويس ماسو، وغيرهم، غير أن هؤلاء ظلوا في الحرب ـ كما كانوا في السلم ـ يحملون نبضاتهم الروحية، على أن أراغـون نسي نفسه في الصراع، فتكلم عن وطنه المغـلوب على أمره، وهو الشاعـر الوحيد الذي ترك سجلاً حافلاً ،بالانفعالات السائدة في زمن الحرب ، تلك الانفعالات كانت تستـشعـر على نمط حقيقي، منذ أول صدمة للتعـبئة، حتى التحرير.

بعد عـودته إلى فرنسا في العام 1939، قادماً من الولايات المتحدة، أمرت المخابرات العسكرية الفرنسية بوضعه تحت الرقابة الشديدة.

إلاَّ أن أراغـون، من جانبه ، لبى دون تردد نداء التعـبئة، وخدم أثناء الحرب كمساعد طبيب، باعتباره طالباً سابقاً في كلية الطب لم يكمل تدريبه بعـد.

كانت أولى قصائد أراغـون، التي كتبها في الأشهر الأولى من وجوده في الجبهة، تحمل عـنوان: “لسـت أحـدَهم”، وفيها يـقـول:

«لست منهم،

لأن لحمي الآدمي ليس بفطيرة،

حتى يقـطع بالسكين،

لأن النهر يـبـحـث، فـيـجـد البحـر،

لأن حياتي تحتاج إلى أخـت لها».

في العام 1940، وقع أراغـون في أسر القوات الألمانية، إلا أنه تمكن من الهرب، ومُنح لقاء ذلك الوسام العسكري، وهو أرفع وسام فرنسي، وعلى أثر ذلك سُرِّح من الجيش، وكان ذلك في أواخر شهر تموز (يوليو) من العام نفسه. بعد تسريحه من الجيش استمر أراغـون، برفقة زوجته ، في خوض النضال السري ضد قوات الاحتلال النازية، فقام بتنظيم جماعات الآباء، واشترك مع عدد منهم ،في إصدار بعض الصحف والمجلات، الداعـية إلى مقاومة الاحتلال.

إن جميع القصائد التي كتبها ، في تلك الفترة الحرجة، من تاريخ فرنسا والعالم، كانت صوراً حية، وتعبيراً صادقاً عن هـول وبشاعة الحرب الدائرة، وعن المقاومة الفرنسية ضد الاحتلال النازي. ومن أهم هذه القصائد “بساط الخوف الأعـظم”، “أغاني فـرنسا المهـزومة”، “الزنابق والزهور”، و “ريتشارد قـلب الأسد».

في عام 1943 أقام أراغـون في مدينة ليون، في جنوب فرنسا، ومنها تابع نضاله، وأصدر ديوانين شعريين، وأسس في ذلك العام، مع كتّاب آخرين، “رابطة الكتّاب”،التي عملت على تأسيس ثلاث دور النشر في جنوب فرنسا لنشر أدب المقاومة، كما استمر في كتابة قصائده التي تحض على مقاومة الاحتلال والخونة .

وقد جمعت هذه القصائد بعد التحرير، ونشرت في باريس باسم “يقظة فرنسا».

وفي معرض حديثه عن هذه القـصائد المطولة ، يقول الشاعـر اليوناني الكبير يانيس ريتسوس:

«إنها كانت تبين الألم الشامخ الذي وسم هـذه الأيام، عندما كان كل شخص تقريباً على أتم الإستعـداد لكي يموت من أجل الآخرين».

وفي موكب جنازته المهيب سار قياديو الحزب الشيوعي الفرنسي، إلى جانب كرادلة وأساقفة الكنيسة الكاثوليكية، احتراماً للشاعر الذي “جَمَعَ الأضدادَ في إيقاع واحد».

عن موقع “ قاب قوسين “