حسن حنفي.. سيرة تنوير

Tuesday 26th of October 2021 11:01:50 PM ,
5051 (منارات)
منارات ,

محمد المحمود

قبل بضعة أيام، وتحديدا في الحادي والعشرين من تشرين الاول 2021، رَحَل عن عالمنا أحدُ أهم أعلام الفكر العربي المعاصر، رَحَل المفكرُ العربي الموسوعي/ حسن حنفي، مُخَلِّفًا وراءه إرثًا عظيمًا من البحوث والمراجعات الاستقصائية في التراث والمعاصرة، وعَددًا غير قليل من التنظيرات الرُّؤْيَويّة ذات النَّفَس التنويري، التي تُحَاول النفاذ إلى الواقع من خلال التاريخ/ التراث، وصولًا إلى المستقبل،

إلى غَدٍ عربي/ إسلامي أفضل، إلى اسْتِئنافٍ حضاري كان يَتَوقّعه ويَأمله ويُرَاهن عليه، وقد أحرق عمره حتى آخر قطرة منه ـ وفي رَهْبانية فكريّة استثنائية ـ كإسهام فردي من قِبَلِه في دفع الثمن المطلوب للوصول إلى

ذلك الهدف المنشود.

يقف الراحل/ حنفي في الصف الأول من المفكرين العرب الكبار في القرن العشرين وأوائل هذا القرن/ الواحد والعشرين. هو ـ في تقديري ـ من رجال الطبقة الفكرية الأولى التي يحتلّها بجدارة كُلٌّ مِن: محمد عابد الجابري، حسن حنفي، الطيب تيزيني، جورج طرابيشي، عبد الجبار الرفاعي، عبد الله العروي، محمد أركون، عبد الوهاب المسيري، أدونيس، رضوان السيد. وفي طبقة تالية: مطاع صفدي، صادق جلال العظم، محمد جابر الأنصاري، عبد الإله بلقزيز، فهمي جدعان، نصيف نصار، نصر حامد أبو زيد، خليل أحمد خليل. وطبقة ثالثة: هاشم صالح، وجيه كوثراني، برهان غليون، يحي محمد، مصطفى حجازي، كمال عبد اللطيف، علي أومليل، هشام جعيط، محمد الحداد، جابر عصفور...إلخ الأسماء الكبيرة في عالم الفكر العربي التي قد يختلف معي بعض بالباحثين في تحديد قيمتها الاعتبارية والعملية في إثراء ساحة الفكر العربي.

لا يخفي أن لكل واحد من هؤلاء مساره الفكري الخاص (المتباين في درجة اختصاصه/ فرادته). بعضهم تتقدم أهميته من خلال كونه ارتاد حقولا معرفية لم تكن على قائمة اهتمام المفكرين/ الباحثين، فأسس لها، ودعمها بإسهامات مُتفرِّدة، واستقطب لها شواغلَ الفكر وهمومَ المفكرين. وبعضهم الآخر اشتغل على مُنْجَزات سابقة في حقول مركزية، ولكنه تجاوز السابق، وحَقّق ـ بفعل استثمار التراكم البحثي/ المعرفي ـ ما يمكن اعتباره علامات فارقة في الحقل المعرفي الخاص، وفي الشأن المعرفي العام. ومن هؤلاء بلا شك، الراحل الكبير حسن حنفي.

لم يكن حنفي مجرد مفكر/ باحث استثنائي في ترهبه الفكري، بل كان مناضلا بفكره، ولفكره. كان ـ كما يقول ـ يريد أن يربط عالم الفكر بالواقع، أو أن يجعل الواقع يتحدث بلسان الفكر، الفكر الذي هو هنا: “التراث”، ولكن بعد تثويره بالانتقال به من “العقيدة” إلى “الثورة”، بتحويل “اللاهوت” وتمثّلاته في عالم الأذهان، إلى “تحرير” في عالم الأعيان. إنها قراءة تأويلية جديدة، وعابرة/ مُتَجاوِزة للتراث. ومن حيث هي كذلك، فهي صادمة لمجمل التصورات السائدة عن التراث، وعن كيفية التعامل مع التراث (= فهم التراث)، وعن موقع التراث من الواقع.

كان حنفي يبدو ـ في نظر المُوغِلين في الاستقطاب الفكري/ الأيديولوجي ـ مُرَاوغا، أو غير حاسم في خياراته الأساسية، خاصة في تبنيه لمشروع اليسار الإسلامي. أي أنه إذْ يستعصي على التصنيف الأحادي، يبدو ـ في نظر المُصَنِّفِين الأحاديين ـ مُرَاوِغا أو مُخَادِعا، وربما منافقا. يقول حنفي: كان الإسلاميون يرون أنني شيوعي في ثوب إسلامي، فيما كان الشيوعيون يرون أنني إخواني يُخْفِي إخوانيّته. كان اليسار الماركسي، وربما الليبراليون أيضا، يرونه إسلامويًّا في العمق؛ لعدم حسمه/ قطيعته مع التراث؛ وربما لانتمائه إلى الإخوان في مراهقته الأولى.

لقد أثّر حنفي في جيل كامل من الباحثين في العالمين: العربي والإسلامي على وجه العموم، وفي مصر على وجه الخصوص. وكان يرى أن دوره الأهم ـ والأكثر تأثيرا وَحَسْما على المدى البعيد ـ هو تأسيس هذا “الجيل التنويري” داخل أروقة الجامعات وفي مراكز البحوث والندوات المُتخصّصة؛ لا في فتح الجبهة الجماهيرية الواسعة المنحازة بقوة إلى نمط التفكير السلفي السائد؛ لأن فتح مثل هذه الجبهة من شأنه أن يُعَجِّل بالصدام مع الوعي الجماهيري ومع مؤسساته الراسخة، وذلك في معركة محسومة نتائجها لصالح خطاب التقليد والتبليد المتوارث ـ بوصفه خطاب السلطة ـ منذ القرن الهجري الأول، وتحديدا، منذ مفتتح العصر الأموي.

في المقابل، كان كثيرٌ من هؤلاء التلاميذ المباشرين له، المُتَحَمِّسين لخطه الفكري (وأبرزهم: نصر حامد أبو زيد الذي جادل أستاذه حنفي كثيرا في هذا الأمر)، يرون ضرورة الانخراط في الخطاب الجماهيري الذي ينتهبه وعاظ السلفية التقليدية بالكامل، وأن لا وقت للانتظار لتكوين عدة أجيال من الباحثين المستنيرين؛ لأن “الماكينة السلفية الهائلة” لن تترك الساحة إلا قاعًا صَفْصَفًا مقفرة من كل رؤى التنوير، أي أن الانتظار سَيُعَقِّد الوضع، وسيجعل التغيير أشدَّ؛ هذا إن لم تصل عواصفُ المَدِّ السلفي الرجعي إلى الجامعات ومراكز البحوث ذاتها، فتَنفي وتُقْصِي وتُلْغي المعتصمين بها من رهبان الفكر المستنير.

رموز الفكر المستنير داخل أروقة الجامعات ومراكز البحوث؛ لصناعة أجيال مستنيرة متعاقبة، فتكون هذه الرموز بعيدة عن الصدام المباشر مع الوعي الجماهير السلفي الماضوي. وبهذا تتجنّب احتمال التصفية النهائية (التصفية المادية أو المعنوية). ولكن ـ وفي الوقت نفسه ـ لا بد من نزول بعض رموز الفكر المستنير إلى معترك ساحة الوعي الجماهيري، والاصطدام معه في خطوط التمايز الفاصلة بين تراث عصور الانحطاط والتخلف وتراث عصر التنوير التقدمي؛ حتى لا يَتَسيَّد ـ بالكُلّية ـ تراثُ الانحطاط/ الأثري السلفي على مجمل الوعي العام.

وعلى أي حال، يجب علينا، ونحن نتحدث عن حنفي ـ أو حتى غيره من رموز الفكر العربي ـ أن نتذكّر جيدا ودائما “أزمة حرية التعبير”، أي أنه كان يُفَكِّر في وسط عربي إسلامي. فحتى وإن كانت كتاباته تُخَاطب طبقة راقية من المفكرين والباحثين والمهتمين بالشأن العام، فقد كان يعي أنه يُلامِس خطوطا حمراء صاعقة أحيانا، كما كان يعي أنه لا يستطيع الاندراج في خط منطقي مستقيم إبان تقريره لكثير من أفكاره الراديكالية فيما يخص التراث الإسلامي، بل لابد ـ كجزء من تكتيك الحرب الفكرية ـ من الكر والفر، من الظهور والاختفاء، من إشعال فتيل الفكرة والتظاهر بإطفائها في الوقت نفسه، من النفي في سياق الاثبات ومن الاثبات في سياق النفي؛ ما دام كل هذا مفهوما/ مُتَفَهَّمًا من قبل المُتَعاطين ـ بإرادة وعي ـ مع هذا النمط من الأطروحات.

نعم، وبسبب من “أزمة حرية التعبير”، نستطيع التأكيد على أن حنفي قال ـ في شأن علاقتنا بالتراث ـ كلَّ شيء يريد قوله؛ ولم يقل شيئا! وهذا ما جعل المفكر العربي الكبير/ جورج طرابيشي ينتقده في “ازدواجية العقل”؛ من حيث حجم التناقضات التي تزخر بها كتابات الراحل/ حنفي. كان طرابيشي يُفكّر ويكتب وهو متكئ على أريكته/ على حريته وأمنه وأمانه في “باريس”، منتقدا تناقضات حنفي الذي كان يُفكّر ويكتب وهو متكئ على قلقه/ قيده ورعبه في “القاهرة»!

يذكر المفكر والمترجم السوري/ هاشم صالح (المعني بترجمة تراث محمد أركون) أنه التقى بحسن حنفي، فقال له حنفي: أنا لست مثل صاحبك (= أركون) ولا أمتلك ترفه الفكري، فهو يستطيع أن يُشَرِّح التراث الفكري ويُفكُّكه كما يشاء ويشتهي؛ لأنه جالس على ضفاف “نهر السين”، حيث لا يخشى أي شيء، وأمّا أنا فجالس على ضفاف “نهر النيل” حيث يحاصرني الشارع والتقليديون الأصوليون.

ردّ هاشم صالح على حسن حنفي: “معك حق، وأنا شخصياً لو ذهبتُ إلى العالَم العربي وعشت فيه، لما تجاسرت على كتابة نصف أو حتى ربع ما أكتبه في “باريس” بل لما تجاسرت على ترجمة ما ترجمته، فما بالك بالكتابة؟! فالمثقف مشروط بالوضع التاريخي والبيئة التي يعيش فيها، ولهذا السبب يهرب المثقفون العرب إلى الخارج لكي يفكروا بحرية».

من هنا، يجب أن نأخذ في الاعتبار ـ ونحن نقرأ حنفي أو غيره من المفكرين العرب ـ أنه كان يقول ما يقوله في “ظرف زمكاني” خاص، وأن تكون لدينا القدرة على قراءة اللاَّمسطور في المسطور، علينا أن نمتلك القدرة على قراءة/ تشكيل “المنطق” مُتَأوَّلا لحساب التنوير، في خضم “اللاَّمنطق، المُفتّت المراوغ”، وأن نحاول تقريب النقاط من مواضعها على الحروف، إن لم نستطع وَضْع النقاط على الحروف.

عموما، بين المَقول صراحة والمقول ضِمْنا، بين ما قاله حنفي على حين رغبة وأمل، وما قاله على حين يأس وخوف ووَجَل، يبقى حنفي رائدا كبيرا من رُوّاد التنوير العربي، يبقى الابن البار، والحفيد المُسْتَثار، لأجيال متواصلة من الكبار، كعباس العقاد، وطه حسين، وأحمد أمين...إلخ. لكن، ومع ثراء مشروعه وإيجابيته في العموم؛ إلا أن أشد ما يعيبه هو ذاك “الجرح النرجسي” الذي يظهر أثره في علاقته بالغرب والتراث الغربي، حيث يبقى هذا الجرح خيطا ناظما لتصوراته الفكرية، ليس في كتابه “مقدمة في علم الاستغراب”، أو ما شابهه من بحوثه، فحسب، وإنما في مجمل أعماله. فموقفه الضّدي من الغرب يكاد يكون هاجسا مُقْلقا، بل هاجسًا مَرضيًّا؛ حتى لَتَجِده ـ في بعض الأحيان ـ ينحدر إلى مستوى الحديث الشعبوي المبتذل عن الغزو الفكري.

أخيرا، وأنا استعرض مُتَأملا كُلَّ هذا التاريخ الطويل من النضال الفكري الذي استنزف حياة عبقري بأكملها، أتساءل بحزن وغضب ويأس وإحباط: هل تعرف هذه الأمة قيمة ما قدّمه هؤلاء في سبيل انتشالها من قاع انحطاطها؟ هل تُقَدِّر ـ بوعي ـ تضحياتهم اللاَّمحدودة؟ وإذا كانت الإجابات سالبة هنا، هل تستحق هي مثل هذه التضحيات؟ بل هل تستحق أصلا أن تظفر بمثل هؤلاء العباقرة العاشقين له حَدَّ الوَلَهِ المجنون؟!

عن الحوار المتمدن