سعدون العبيدي فنان بمرتبة ( أستاذ) و رتبة ( رائد)

Thursday 28th of October 2021 12:51:28 AM ,
5052 (عراقيون)
عراقيون ,

د. حسين علي هارف

رغم انه ليس من جيل الروّاد ( الاوائل) الذين أسسوا و ارسوا دعائم المسرح العراقي و السينما العراقية - اذ هو يُعد من الجيل الثاني اللاحق- الا ان من حقنا ان نصف الفنان و الكاتب المسرحي رائداً .

نعم هو رجل ريادي ( اقتحامي) في طبعه . فبعد ان اقتحم عالم المسرح .. اقتحم لندن و مسارحها و ستوديواتها . آثر ان يكون رائدا في مبادراته و مشاريعه و منجزاته و تأسيساته.

وهنا يكون للريادة مفهوم عميق يتجاوز المفهوم التقليدي الذي يتحدد بالسبق الزمني ، فالريادة في جوهرها فعل تأسيسي نوعي يضع اللبنة الاولى في تشييد و تكريس ظاهرة او إتجاه ما ، و يعبّد الطريق لخطوات نوعية مماثلة تعقبه.

و إنطلاقا من هذا الفهم الموضوعي للريادة بوصفها فعل نوعي تاسيسي ، سيكون من حقنا ان نتوّج فناننا المحتفى به في هذا المقال ( رائدا) و على مستويات عدة ، و لعل على رأسها ريادته في الكتابة ( الاصيلة) لمسرح الطفل كما سنوضح ذلك لاحقا .

بعد تخرجه من معهد الفنون الجميلة اواخر الخمسينات ( ١٩٥٧-١٩٥٨) استطاع ان يجد له فرصة لاكمال دراسته بمعهد ( جيلد هول) بلندن عام ١٩٦٢ ليثبت جدارة اهلته لانتزاع اكثر من فرصة للتمثيل على مسارح لندن ، فضلا عن ادوار تلفزيونية و سينمائية انكليزية ، حتى انه نال العضوية في جمعية الممثلين في لندن منذ عام ١٩٦٥ إثر تزكية و توصية من فنان و مخرج انكليزي كبير هو بيتر بروك .

و الى جانب ممارساته الفنية المتنوعة كممثل و مخرج و كاتب ، فقد استطاع ان يكون العبيدي استاذ فن مقتدر يسعى الى تقديم خبراته الفنية و التدريبية باجتهاد عالي نال ثقة المحيطين به.

فقد قام بتدريس مادة التمثيل و الاخراج في معهد الفنون الجميلة عام ١٩٦٣ ، كما قام بالتدريس في معهد الدراسات المسرحية في الكويت عام ١٩٧٠ الى جانب نخبة من اساتذة المسرح و التمثيل في مصر ، فضلا عن انه عمل مديرا فنيا لفرقة المسرح الكويتي و اخرج العديد من المسرحيات هناك .

و يشيد المسرحيون الكويتيون بالدور المميز الذي لعبه العبيدي في ارساء دعائم المعهد المسرحي و المسرح الكويتي .

و قبل اعتماده مخرجا في الفرقة القومية للتمثيل لاحقا منذ مطلع السبعينات ، سعى العبيدي الى تاسيس فرق مسرحية اهلية و ترؤوسها كفرقة مسرح بغداد الفني عام ١٩٦٣ و فرقة مسرح الرسالة التي ظل رئيسها على الدوام و التي استقطب من خلالها العديد من المسرحيين الشباب من خريجي معهد و اكاديمية الفنون و منحهم فرصا فنية على مستويي التمثيل و الاخراج .

و ما ان تأسست الفرقة القومية للتمثيل في بغداد حتى تم اعتماده مخرجا فيها منذ مطلع السبعينات فاخرج لها العديد من الاعمال المسرحية منها ( رزاق افندي / ابن ماجد / رائحة المسك / الافق/ اي. بي . سي/ الدوامة/ زهرة الاقحوان / علاء الدين و المصباح السحري / المزيفون/ كوميديا قديمة/ سيدة الاهوار / نور و الساحر / الاميرة و النرجس/ الكرة السحرية) ،كما أخرج لفرقة البصرة للتمثيل ( الشاهد و الشهيد و التجربة / الفرحة و الحسرة في اخبار البصرة / حب على الثرثار).

و ظل العبيدي ممثلا و مخرجا فعالا في الفرقة القومية للتمثيل و احد أركان دائرة السينما و المسرح التي تبوأ منصب مديرها العام بعد عام ٣٠٠٣ و لمدة محدودة شهدت العديد من الاحتدامات و التداعيات اثر سقوط النظام الدكتاتوري البائد.

و لانه كان يمتلك مواصفات الفنان الشامل ( ممثلا ، كاتبا ، مخرجا ) فقد طرق ابواب المسرح و السينما و الاذاعة و التلفزيون التي لم تكن تملك الا ان تفتح له ابوابها مشرعة على مصراعيها، فكان ممثلا تلفزيونيا ناجحا ، استثمر المخرجون وسامته و طراز ( الارستقراطي) التي اكسبته اياه لندن و الحياة الانكليزية ليسندوا اليه ادوارا و شخصيات اجنبية او تاريخية او ذات طابع ارستقراطي .

و بالعودة الى مسرح الطفل و الدور الذي لعبه العبيدي فيه محلياً ، لابد من تثبيت حقيقة الشراكة الريادية لسعدون العبيدي و قاسم محمد . فاذا ما أستثنينا المبادرات التي قام بها عبد القادر رحيم مطلع و منتصف الخمسينات في تقديم مسرحيات للاطفال استمد موادها الدرامية من قصص التراث و الف ليلة و ليلة و في اطار فني مشوش و غير مكتمل ، و رغم وجود اجتهادات و محاولات فردية لاحقة قام بها كل من سامي عبد الحميد عام ١٩٦٤ و ابراهيم جلال و جاسم العبودي في عمل مشترك عام ١٩٦٨ و فوزي مهدي عام ١٩٦٩.

نقول .. لم يشهد مسرح الطفل في عقد الستينات تطورا ملحوظا ، اذ اقتصر الامر على تلك الاجتهادات و المبادرات الفردية الشحيحة جدا و التي لم تستطع ان تؤسس لحركة مسرح طفل تتسم بالعلمية و الوضوح و النضج الكافي ، حتى جاء العقد السبعيني ليشهد على يدي المخرجين قاسم محمد و سعدون العبيدي حراكا نوعيا جديدا و سعيا واعيا و مدروسا لتأسيس مسرح طفل مؤثر يشار له بالبنان . فقد توفرت في هذا العقد من سبعينات القرن الماضي الارضية المناسبة و الظروف الملائمة للشروع في التأسيس الحقيقي لتجربة مسرح الطفل بعد ان قررت الفرقة القومية للتمثيل ادخال مسرحيات للاطفال في مواسمها المسرحية .

و من هنا بدأت الانطلاقة الحقيقية لمسرح الطفل التي قاداها سوية و على التوازي قاسم محمد و سعدون العبيدي .. كلّ بطريقته و اتجاهه الفني مستثمرين ثقافتهم المسرحية و الادبية العالية و حصيلتهم المعرفية و مشاهداتهم و وعيهم المكتسب و دراستهم زفي بلدين اوربيين ( قاسم محمد في موسكو و سعدون العبيدي في انكلترا).

و اذا كانت تجربة قاسم محمد و اضحة و راكزة في شكلها و مضمونها القريبين جدا الى عالم الطفل من خلال مسرحية ( طير السعد) التي عدت الانطلاقة الحقيقية و العلمية في العراق ، فأن سعدون العبيدي قد ترك بصمة اولى في مضمار التاليف المسرحي الموجه للطفل عبر مسرحية ( زهرة الاقحوان).

ثلاث سنوات تفصل بين التجربتين الرائدتين ، الا ان تجربة قاسم محمد قد قامت على عملية ( اعداد ) مسرحي لقصص و نصوص ادبية . فمسرحية ( الصبي الخشبي) مثلا قام قاسم محمد باعدادها عن قصة ( بينوكيو) و اخرجها بنفسه . كان هذا عام ١٩٧٢ . اما سعدون العبيدي فقد اخرج عام ١٩٧٥ لصالح الفرقة القومية للتمثيل مسرحية ( زهرة الاقحوان).

لقد كان لهذه التجربة ما يميزها و يعطيها تفردا و بعدا رياديا ، فهي من تاليفه دون الاعتماد على نص او اعداد او اي شكل من اشكال التناص التي كان يلجأ اليها العديد من المخرجين المسرحيين العراقيين.

تأسيسًا على ما تقدم عُدّت مسرحية ( زهرة الاقحوان ) اول مسرحية عراقية ( اصيلة) التاليف لمسرح الطفل ، اذا ما اخذنا بنظر الاعتبار ان مسرحيتي قاسم محمد ( طير السعد و الصبي الخشبي) هما مسرحيتان معدتان و ماخوذتان من مصادر ادبية قام الراحل قاسم محمد باعداد مسرحي لهما .

و بذلك يكون لمسرحية ( زهرة الاقحوان) باعتمادها نصا مسرحيا عراقيا خالصا اصيلا من حيث التاليف قصب السبق في مجالدالتأليف المسرحي العراقي للطفل ، و هذا ما يمنحنا حق اعطاء سعدون العبيدي لقب ( رائد التاليف المسرحي للطفل) و صاحب النص المسرحي الاول المكتوب ( بأصالة) للطفل عراقيا.

و لم يكتف العبيدي بقصه لشريط التاليف المسرحي للطفل ، فزاد من رصيده الفني الابداعي في هذا الصدد ليكون واحدا من الكتاب الاكثر غزارة في الكتابة و الاخراج لمسرح الطفل في القرن الماضي ، فقدم مسرحيتين من تأليفه و اخراجه هما ( الكرة السحرية ، و نور و الساحر ) كما اخرج مسرحيتي

( علاء الدين و المصباح السحري ) و هي من تاليف جيمس نورين و ترجمة جعفر علي ، و مسرحية ( الاميرة و النرجس ) تاليف س. مارشاك اعداد فاضل صبار .

يقول سعدون العبيدي في كلمته المدونة في منهاج العرض ( الفولدر) : ( نحن المسرحيون ، كلنا نسعى لادامة الابتسامة على وجوه الاطفال .. و نسعى ايضا للمشاركة في زرع السلوك الانساني المتطور في نفس الطفل ، و نجتهد دائما لأيجاد افضل الطرق لتحقيق القيم الفكرية الخلاقة التي ترتقي بالطفل في وطننا العربي الى مستويات رفيعة . و رحلتنا مع مسرح الطفل كفيلة ان تحقق لنا ما نريد من اجل المساهمة في بناء مجتمع اكثر تحضرا و اعمق وعياً).

و لتميز تجربة العبيدي في مسرح الطفل فقد استطاع ان يشارك ممثلا العراق في مهرجانات مسرحية عربية. فمسرحية ( نور و الساحر) التي أعدها و اخرجها العبيدي سنة ١٩٨٨ و بعد تقديمها على مسرح الرشيد ، شاركت في مهرجان السويس لمسرح الطفل بمصر بنفس العام ، و قد كانت المسرحية من تمثيل ليلى محمد و صادق علي شاهين و سامي السراج و عادل عثمان و سامي الحصناوي و شهاب احمد و مناف طالب . و قد صمم ديكورها الفنان المصري صلاح حافظ و صمم ازياءها سوسن عبد الله ، اما الاضاءة فقد كانت من تصميم عبد الله نجم .

و من ماكان يميز هذه المسرحية هي اعتمادها على تأليف موسيقي بعيدا عن الاختيارات الجاهزة ، و قد اناط المخرج العبيدي مسؤولية التاليف الموسيقي للفنان عبد الحسين السماوي.

و قد وجد العبيدي في فرصة مشاركة مسرحيته هذه بمهرجان عربي متخصص بالطفل مناسبة للحديث عن ضرورة ادراكنا لاهمية مسرح الطفل عربيا و السعي الى تطويره و الارتقاء به ..فقد كتب في ( فولدر ) المسرحية يقول : ( ما احوجنا الى مسرح يزرع البسمة و الفرح في نفوس الاطفال و الوجدان ، لقد تحول القول الى حقيقة ، و تجسدت تلك الامنية فأصبحت واقعا ملموسا منذ اكثر من عشرين عاما ، فما حققه المسرح العراقي في هذا المجال المهم يبعث حقا على التفاؤل ، فالبرنامج السنوي لدائرة السينما و المسرح لا يخلو عادة من مسرحية للاطفال. لقد قدمت مسارحنا عشرات الاعمال المسرحية الخاصة بالاطفال ، و شارك العديد من مخرجينا و كتّابنا المعروفين في رفد هذا الجانب و تطويره الى الافضل ) ويستدرك العبيدي مخاطبا المسرحيين العرب ( اوجه ندائي لزملائي المسرحيين العرب لكي يساهموا مساهمة فعالة في رفع مستوى مسرح الطفل الى المستوى الذي نستطيع ان نفاخر به المسارح المتقدمة التي قطعت شوطا كبيرا و بعيدا في هذا المجال ، فالطفل هو المستقبل ،و بدون رعايته لا يزدهر نمو مستقبلنا).

و الى جانب ريادته في مسرح الطفل فقد سجّل العبيدي ريادة اخرى في نوع مسرحي خاص هو ( المونودراما) فكان من بين الاوائل في كتابة و اخراج المونودراما اذ كتب نصوصا مثل ( مذكرات ميم) و ( لن اقلع اسنان ابي) و ( ماري ) وقد قام باخراجها .

و من الجدير بالذكر فأن الكاتب سعدون العبيدي قد أصدر اول مجموعة مسرحية له مبكرا سنة ١٩٥٧ و هو بعمر الاربعة و عشرين ربيعا .. و قد تضمنت المجموعة ست مسرحيات هي ( إنطلاق / بيت المرضى / جسر العدو / أكلة البشر / طبول الانتصار/ إنه سيعيش) و هذا انجاز مسرحي متقدم بالقياس الى صغر سنه انذاك. وقد كتب لاحقا العديد من النصوص المسرحية من اهمها ( عود ثقاب) و ( منقار من حديد).

هكذا لعب سعدون العبيدي دور الممثل و الكاتب و المخرج فأستحق ان يكون فنانا شاملا بامتياز ، مثلما لعب دور المعلم المربي الداعم و المرشد للفنانين لاسيما الشباب منهم ، فأستحق ان يكون ( أستاذ فن) ..

و إذا ما أضفنا الى القابه تلك لقب ( الرائد) الذي اكتسبه في مسرح الطفل ، فأن تاريخ المسرح العراقي سيذكر سعدون العبيدي بتوصيفاته المستحقة الممثل و الكاتب و المخرج و الاستاذ و الرائد..