الدكتور كمال السامرائي يتحدث عن الأيام الاخيرة للملكة عالية

Sunday 31st of October 2021 10:37:54 PM ,
5054 (ذاكرة عراقية)
ذاكرة عراقية ,

اعداد: ذاكرة عراقية

يذكر الدكتور كمال السامرائي في مذكراته الموسومة (حديث الثمانين) معلومات على جانب كبير من الاهمية عن مرض الملكة عالية ووفاتها.. ونلتقط من مذكراته السطور التالية:

فوجئت بخبر مرض الملكة عالية ساعة استدعاني رئيس التشريفات الملكية تحسين قدري إلى قصر الرحاب وحين صرت في الصالة كان قد سبقي اليها الدكتور هشام الوزيري والدكتور هادي الباجه جي وكان معها الطبيب البريطاني (دكس فرث) علمت من الطبيب الأخير أنه والملكة عالية وأخوها عبد الاله قد وصلوا تواً الى بغداد ونحن نتحدث عن الملكة دخل عبد الاله الصالة وعليه علامات التعب جراء الرحلة الطويلة بطائرة (الفايكونت) العراقية , قال وهو يخاطب (دكس فرث) أرجو ان تشرح للإخوان مشكلة جلالة الملكة وما يجب أن تفعلوه لأجلها , أنها تتألم فاعملوا شيئا بالله عليكم وسأترككم الآن على أن تطلبوني حين تنتهون من التشاور في أمرها أستدار ليخرج من الصالة وما كاد يصل الباب حتى استدار وخاطبنا جميعا قائلا:»إن الملكة لا تعرف طبيعة مرضها فاحذروا أن يفلت لسانكم ما يشير الى ذلك , وكان يبدأ عليه الاضطراب وهو يستنشق بتلاحق دخان سكارته ولم يطل النقاش في موضوع الملكة المريضة لأنه قد شخص في لندن لذلك اقتصر نقاشنا على ما يجب أن نعمله لراحتها وتخفيف الآلآم التي لا تنفك تداهمها بقسوة , حيث نسب في هذا الاجتماع أن أكون (أنا) دوماَ في قصر الزهور حيث تسكن الملكة المريضة لألبي طلباتها العاجلة».

وحين واكبنا حجرتها رأينا على وجهها ارتياح مصطنع , قلت لها صباح الخير ستي الملكة وشعرت حالا اني اخطأت في هذه التحية فقد كان الوقت يقرب من المساء , أما الملكة ابتسمت بغير تكلف وقالت لتستر خجلي , لا بأس فكل النهار في نظري صباح , وهناك قال الدكتور دكسن فرث يخاطب الملكة (انه الدكتور السامرائي يا صاحبة الجلالة فقالت الملكة , سمعت عنه قبلاً , واردفت وهي تلتفت نحوي أهلا دكتور كمال وبسطت يدها اليمنى الي , فصافحتها بحياء واهتمام وأنا , أشعر بارتياح مفاجئ اذ خاطبتني باسمي الأول , وتحول دكسن فرث الى منضدة عند رأس سرير الملكة وأخذ يأشر بأصبعه الى عدد من القناني التي وصفت اليها ففهمت انه يريد أن يعلمني بصمت مما على هذه المنضدة من أدوية التي سأحتاج اليها في معالجة الملكة بعد مغادرته العراق , كانت تلك الادوية أنواعا من العقاقير المقوية والمسكنة للآلآم وهي مألوفة عندي جميعها , فلم أعلق او استفهم عن أحدهما وانتهت هذه الزيارة القصيرة بعد دقائق , وانسحبت من حضرة الملكة عالية وراء دكسن فرث وأنا أقول لنفسي:إن قصر الزهور هو الملكة عالية وكلاهما في دور الإحتضار.

لا أذكر أن الملكة أشارت يوما الى طبيعة مرضها او استفهمت مني عنه , وفي ظني أنها كانت تعرف ذلك فتعبر عن مصيبتها بتكرار الإستغفار من الله والحمد له , كما لا اذكر يوماَ انها خرجت عن شخصيتها المألوفة حتى وهي في أشد نوبات الألم وكانت المسكنات في أيامها الاخيرة قد فقدت مفعولها فتطلب منها أحيانا أن تتركها وكانت تختصر حديثها وتجعله يتركز في شؤون ابنها الملك فيصل الثاني وفي موضوع الحديث والاعتناء بتنسيقها والاهتمام بأشقائها قالت لي ذات يوم:» سمعت أنك تعنى بجني الورد كان الكلام يتعبها فينقطع , وقد تكمل العبارة بحركة من يدها وسألتني هل في حديقتك وردة الأميرة فلما أجبتها بالنفي قالت إن أهل هذه الوردة الجميلة (انثينا) وأنا التي اطلقت عليها (الأميرة) لنظرتها وكبريائها وقد دخلت الى بغداد وطلبت من أمانة العاصمة ان تعممها بين هواة الورد , واستراحت لحظة ثم قالت وأنا أيضا أدخلت وردة (ذي كنك) وسميتها سلطان الورد.

وذكر السامرائي أيضاً:»ذات يوم كنت الى جانب الملكة المريضة وسمعنا طلقات نارية غير بعيدة عن القصر وبدا لي أن ذلك مألوفاَ عند الملكة فقالت لي , إن فيصل يتمرن على إصابة الهدف وفاجأتني بسؤالها كيف ترى فيصل يا دكتور فقلت لها يحفظه الله تعالى , إنه خير خلف لخير سلف , فقالت بلغة بغدادية «الله يسمع من حلكك» ثم سألتني هل رأيت كتابه؟ , فقلت لها أي كتاب يا سيدتي؟ قالت إنه يؤلف كتابا بعنوان (كيف تدافع عن نفسك) وقد زينها برسوم عملها بيده ويأمل أن يطبعه ثم سكتت قليلا لتقول (إن الكتاب في اللغة الانكليزية أما أنا فلم أرى الكتاب , إلا أن الملك فيصل كان يشير اليه اثناء الحديث في مجالسنا او اثناء تناول العشاء. وسألتني الملكة يوما هل تدخن فأجبتها نعم سيدتي فقالت إن أمي تدخن واخي عبد الاله يدخن أما أنا فلا أتحمل شم رائحة الدخان ,يبدو أن الملكة عالية أرادت من خلال حديثها مع كمال السامرائي أن تعطي فكرة أن الحياة لجميلة وأن على الأنسان أن يعطيها حقها وأن علية أن يقوم بواجباته كأنسان أعطاه الله الفطرة لأكتشاف مواطن الجمال فيها وأن الحياة عطاء وتضحية وأن للأم رسالة سامية تتحقق بتربية الأجيال..

.

ويصف لنا الدكتور كمال السامرائي الساعات الاخير من حياة الملكة عالية بما نصه: « في حدود الساعة الثامنة صباحاَ , استدعيت على عجل الى حجرة الملكة وعند بابها رأيت أم عبد الاله مضطربة ووجهها شاحب وفتحت لي الوصيفة (عزة) باب الحجرة وهي تحمل بيمينها المصحف الكريم وبادرتني بهلع , ستي الملكة ولم تزد على ذلك , كانت الملكة حينئذ في حالة بين الوعي والاغماء واشارت الي بيدها أن اقترب. قالت بصوت خافت متقطع انهضني يادكتور فعاونتني عزة , واسندناها بأيدينا لتنهض على الوسائد في فراشها وشكرتنا بعينها وتمتمت بالشهادة ثم سمعتها تقول:»لا أريد أن يشهد دكسن فرث ساعة وفاتي فأنا مسلمة والله ربي ومحمد نبيي والقران كتابي « ، وفي هذه اللحظة تقيأت وقذفت ما في جوفها على صدرها فأخذت انا المنشفة التي كانت دوما موضوعة في متناول يدها ومسحت بها فمها وصدرها مما سال عليها من القيء ولم تنسى حتى في هذه اللحظة أن تشكرني وهي في حالة شديدة من الإعياء مالم اسدلت جفنها براحة وهي تطلب مني أن ترى أمها نفيسه , وكانت أمها عند مدخل الحجرة وربما

سمعت طلب الملكة فدخلت ووقفت الى سريرها فمدت الملكة يدها ببطء وجذبت يد أمها الى فمها وقبلتها , وقالت إغفري لي يا أمي اذ كنت قد غلطت معك يوماَ وغادرت الغرفة, وبعد ان التقطت الملكة انفاسها طلبت مني رؤية أختها عابدية , فدخلت عابدية ووقفت قريبة من وسادة الملكة , فطلبت منها الملكة أن تقترب منها وقالت تخطبها: إنك يا أختي كثيرة الأفضال علي في تربية فيصل وأنا اطلب منك أن تبقي أمه بعد وفاتي كما كنت أمه دوما وسكتت قليلا لتقول أريد أن أرى مقبولة فدخلت مقبولة وقبلت أختها المريضة فقالت لها: أوصيك يا أختي أن تعتني بزوجك فهو رجل طيب كما أنت طيبة وارادت أن تقول شيئا آخرا إلا أن مقبولة انسحبت وخرجت متعثرة من الحجرة.

بعد ذلك بدت الملكة وكأنها قد صحت من كابوس ودب فيها قدر من النشاط وطلبت رؤية أخيها عبد الاله فجاءها بعجلة وقلق وارتمى على قدمي أخته الملكة فسحبت الملكة رجلها وهي تقول (استغفر الله) ورأيت عبد الاله يشير الي بعينه أن أخرج من غرفتها او هكذا يخيل الي فنهضت لأخراج إلا أن الملكة , اشارت بقولها لا , أنا اريد ان يبقى الدكتور كمال شاهداً على ما اقول لك امام الله , ثم اردفت تقول له يا اخي عبد الاله كان فيصل يتيم الأب وعما قريب سيكون يتم الام أيضا فعدني أن تكون له ابا واما لأغفر لك كل ما مضى , واراد عبد الاله ان يقاطعها الا انها ردته , بحزم , عدني امام الدكتور فهو شاهدي في دار البقاء , عدني يا عبدالاله , وكررت ذلك مرتين فتمتم بالوعد , فخرج من غرفتها وهي تشيعه بنظرات باردة ثم سمعت الملكة تسأل نفسها قائلة هل أطلب فيصل لأراه , ثم اردفت لا فقد يكون نائماَ , وطلبت مني ان اناولها صورته الموضوعة في اطار فضي عند رأس سريرها فقبلتها بحنان وبسطتها على صدرها وأجهشت بالبكاء بارتياح واعقب ذلك اضطراب في تناسق انفاسها وهي أول علامات الاحتقان. واذاعت الحكومة التقرير الرسمي الصادر عن هيئة الاطباء وجاء فيه: « إن صاحبة الجلالة الملكة عالية قد اصيبت منذ عدة اشهر بورم من نوع سرطاني في أسفل البطن أدى الى انسداد في الأمعاء فأجريت لحالتها عملية أولية مستعجلة لرفع هذا الانسداد

ثم أردفت بعملية ثانية وذلك بعد مرور ثلاثة اسابيع لاستئصال الورم ذاته الا إنه تبين مع الأسف إاستحالة هذا الاستئصال واستشير أشهر الأطباء للمعالجة وإنقاذ حياتها الغالية الا ان الإرادة الالهية شاءت ان تفشل كل الجهود والمحاولات وقد تحملت جلالتها آلام المرض برباطة جأش وايمان صادق , وكان صبر جلالتها باعثا للأعجاب وقد ساءت صحة جلالتها في الأيام الاخيرة الى ان اختارها الله الى جواره ففاضت روحها الطاهرة هذا اليوم 11 ربيع الاول 1370 هـ الموافق 21 كانون الاول 1950 في الساعة التاسعة والدقيقة العشرين في هدوء وسكينة.

عن (حديث الثمانين، سيرة وذ1كريات) الجزء الثاني.