الشاعر الكرخي: إنني مبتهج لكوني عشت خادمًا لبلادي

Thursday 18th of November 2021 12:01:00 AM ,
5067 (عراقيون)
عراقيون ,

علي فائز

يبدو أن العبارة القائلة، «إذا لم تكن كتاباتك تزعج السلطة فأنت أشبه بكاتب عرائض»، تنطبق تمامًا على الشاعر الذي يكتب باللغة المحكية «العامية» عبود الكرخي، اللهجة الأقرب إلى وجدان العراقيين وسجيتهم، فهي شديدة التأثير بهم، ولا زالوا إلى اليوم يستذكرون قصيدته «قَيّم الركاع من ديرة عفج»، كلما صدر قرار هجين من الدولة أو فشلت في تنظيم حياة الناس اجتماعيًا واقتصاديًا وأمنيًا.

لم ينجب الشعر العامي من يوازي قيمة وأهمية عبود الكرخي في مثل جرأته وسخريته من السلطة الحاكمة

يردد العراقيون كلمات الكرخي في الشأن العام من دون أنْ يدركوا أنها لعبود الكرخي، مثل «لا تلقلق يحبسوك، جاك الشتة لملك عش، وهم هاي دنيا وتنكَظي وحساب أكو تاليها؟»، ويبدو أنّ هذا السبب جعل الشاعر معروف الرصافي يسميه «شاعر الشعب»، حيث قال عنه، «تالله لم تظهر الدنيا حقيقتها، إلا بما راقني من شعر (عبود)، شعر لو امتلكت قلبي عواطفه، لكان دون إله العرش معبودي».

كانت قصائده تهز الناس وتثير الفزع في قلوب الظالمين وتنتشر بينهم انتشار النار في الهشيم، ولم تنجب الساحة العراقية إلى اليوم من يوازي قيمة وأهمية عبود الكرخي في مثل جرأته وسخريته من السلطة الحاكمة، وحتى إنْ تجرأ البعض فأنهم سرعان ما يعتذرون ويعدلون عن قراراتهم تحت طائل الترغيب والترهيب وفقدان الإرادة الصلبة، لذلك صاروا يفصلون قصائدهم بحسب مزاج الحاكم خوفًا منه أو طمعًا بدنانيره.

انتشرت قصائد الكرخي الساخرة والسياسية وصارت تردّد عبر الأجيال أمام كل أزمة يمر بها العراق

يقول الكرخي،»إذا أنشنق ما يمكن

أكتب مثل ما يردون»، ويبرّر»عن حقي مكدر أنسحبْ

أتلاطم ولا أحتجبْ، حر مستقل ولا أحبْ

مملوك وبسيمة عبدْ»، ولقد كان صادقًا في شعره يحمل آلام المظلومين والمعذبين على عاتقه دون أنْ يخشى إرهاب السلطة آنذاك حتى إذا وصلت إلى «الشنق».

وكتب عن الكرخي كبار النقاد، وهي مسألة نادرًا ما تحصل مع شعراء اللهجة العامية، حيث كتب عنه الدكتور أحمد مطلوب عضو المجمع العلمي العراقي، أن «قصائده أغنيات تخفق في القلوب وتتردد على الشفاه، لأنها عبرت عن حياة الناس وصورت آمالهم وآلامهم في عهده كانت الأمة تزرح في استعمار بغيض واستقلال مقيت»، فيما كتب عنه الدكتور داود سلوم أستاذ الادب العربي بجامعة بغداد، أن «شعر عبود الكرخي يعكس الإطار الاجتماعي والتاريخي والتطوّر التدريجي في هذا المجتمع الذي عاش فيه هذا الشاعر الكبير العملاق، الذي يمكن أنْ نضعه إلى جانب كبار شعراء الأدب العربي والأدب العالمي. لقد صاغ هذا العظيم شعره ممزوجًا بوطنية صادقة وسخرية مرة».

وفي كتابه الصادر عن دار المدى 2012 والذي يقع في 352 صفحة من القطع المتوسط «الشاعر العامي الملا عبود الكرخي.. سيرة ومسيرة»، يستعرض الكاتب جميل الجبوري أهم محطات حياة الكرخي ومستعرضًا لأهم قصائده والمواقف التي حصلت معه فكتب في سيرته.

هو عبود بن الحاج حسين بن سهيل وأمه زهرة آل ناصر، ولقبه الكرخي نسبة إلى جانب الكرخ من مدينة بغداد التي ولد فيها عام 1861 لأب كان يتاجر بالإبل والجلود بين بلدان الشرق الأوسط، وكما جاء في الكتاب، أن الكرخي يتكلم عدة لغات، الألمانية والتركية والفارسية والكردية جراء الأجواء التي عاش فيها والناس الذين اختلط بهم في أسفاره، ولهذا السبب وقع عليه اختيار السلطة العثمانية للقيام بمهمة الترجمة.

كان عبود الكرخي يتحدث الألمانية والتركية والفارسية والكردية واختارته السلطة العثمانية للقيام بمهمة الترجمة

وفي عهد الاحتلال البريطاني للعراق شارك معارضًا وراح ينشد قصائده في «جامع الحيدر خانة» مقر تجمع المعارضة آنذاك، مهاجمًا المحتلين الجدد، ما أدى إلى انتزاع أراضيه من قبل الحاكم السياسي البريطاني المستر أوستن إيستوود، كما طلب منه الحاكم العسكري الإنكليزي بالكف عن إلقاء قصائده الحماسية، وتقديم تعهد خطي بعدم نظم الشعر المعارض، ما جعل الكرخي يصرخ في وجهه قائلًا، إنكم «الحقتم بنا عارًا لا بد أنْ نغسله بدمائنا ولا بد أنْ أغسله بقصائدي فلا بأس عندي أنْ أكتبها بدمي».

وبعد أنْ ذاع صيت الكرخي ونُشر شعره في بواكير الحكم الوطني وأصدر جريدته «الكرخ» عام 1927 التي كتب في افتتاحيتها:

«أول ما توكلنا على الرحمن

نشتم كل عنود وخائن الأوطان».

ولقد لقي بسببها الكثير فهدد بالاعتقال، وأوقف وسيق إلى المحاكم وسُجن عدة مرات وأغلقت جريدته 16 مرة، واضطر إلى أصدار صحف بديلة مثل «صدى الكرخ والمزمار والكرخي والملا»، فكتب ساخرًا:

«ما ذنب الجريدة دائمًا تنسد

هل سَبتْ عنب زرباطية الأسود؟».

كما وضح موقف السلطة الحاكمة من الجريدة: «كل وكت سته جديدة

تطلع السدة الجريدة، ليش تتكلم يا بومة، دائمًا ضد الحكومة؟ السعة بسدها لا تلومه

مستحق لا عابت أيده»!

ويذكر كاتب سيرة الكرخي في صفحة 32، أن السبب في غلق جريدة الكرخ وفق قانون المطبوعات، هو مقال كتب عن الصراع القائم بين صحف المستعمرين وعملائهم والصحف الوطنية، بالإضافة إلى ما كتبه عن تهاون بعض المسؤولين في أداء واجباتهم.

من يقرأ شعر الكرخي يجد نفسه أمام الاصالة والجمال والإبداع والفكر وتجليات الحقبة التي عاشها، أمام شاعر لا يهادن ولا يتراجع ولا يجامل السلطة مهما فعلت وتغطرست، ولذلك قال فيه الشاعر الشيخ علي الشرقي، إنه «لما تصفحت ديوان الكرخي وجدتني قد تصفحت العراق كله»، وعن أصالة شعره يقول العلامة أنستاس ماري الكرملي، إنَ «كل قصيدة من قصائده تساوي ديوانًا من دواوين المولدين الذين يكررون معاني مَنْ سبقهم ويلوكونها لوكًا، حتى إذا اطلع الواحد منا على منظوم من منظوماتهم لم يحتج إلى مطالعة سائر دواوين القوم من أمثالهم».

إنه شاعر لا تهمه الصورة والخيال بقدر ما يهمه كتابة رأيه الصريح في الأحداث الجارية حوله، فيقول كلمة صريحة لا تخدش أسماع من يعنيهم فحسب، وحتى بعد أن ضاق الخناق عليه بسبب هيمنة السلطة فانه لجأ إلى الألغاز محاكيًا أسلوب ابن المقفع ومن سبقه من الكتاب فصار ينظم شعره على لسان الحيوانات، حيث جاء في صفحة 91 من كتاب سيرته ومسيرته، أن الكرخي كتب:

«أنظر إلى الهر الِدرجَ سيدية

براسه وإفترس جملة جريدية»، في إشارة إلى أنَ «الهر» أكل الجرذان واعتمر لباس رأس السادة من رجال الدين!.

ما طبع للكرخي أربعة دواوين وأخرى معدة للطبع، تعدّدت موضوعات شعره في هذه الدواوين، فنظم في السياسة والاجتماع والصحافة والنقد والهجاء والمديح والمداعبة والمبادئ والأخلاق والغزل ومواضيع شتى.

في قصيدة بعنوان العراق وطني ونسبي، يقول الكرخي في ختامها:

«أنا أعرف بلاد أجدادي والآباء... من «زاخو» إلى الفاو وإلى الزوراء

دجلة والفرات أهلي إلى الفيحاء... عراقي عربي من يعرب وقحطان».

كما وظف شعره لشجب الحرب والدعوة لمقاومة الصهيونية وتأييدًا مخلصًا للشعوب العربية، في محنة سوريا بالاستعمار الفرنسي وتمجيد الأبطال في ثورة العشرين. حيث كتب عن فلسطين كما جاء في صفحة 68 من الكتاب:

«يصير أنا أقبل بقسمة فلسطين

يصير أحب ملّة الصهيونية»

وفي قصيدة أخرى:

«فلسطين الشهيدة يا حسافة تصير

للصهيوني لكَمة، سودة رايتنه».

أما الهجاء فأنه جعل منه سلاحًا يقاتل فيه دعاة الوطنية المزيفين والمهازل السياسية التي يمثلها البعض من الوصول إلى كرسي الحكم، المهازل التي لا تزال مستمرة إلى يومنا هذا:

«عبالي حسنة نيتهم... وللأوطان خدمتهم

طلعت تالي صوفتهم

حمرة من كَصاص الشاة

لعبتوا بعقل المساكين

وخربتوا الوطن والدين

هنا صح المثل بالطين

بلّة زدتوا بل بلاّت

فقط هذا الشعب بيكم

ميأمّن بعد هيهات».

ومن قصائده الساخرة «المجرشة» كتبها بطريقة ساخرة لأجل أنْ يفتح عيون الناس على واقعهم المعاش:

«ذبيت روحي عالجرش... وأدري الجرش ياذيها

ساعة واكسر المجرشة... والعن أبو راعيها».

وأخيرًا، هل نجد اليوم شاعرًا مثل الملا عبود الكرخي يطلق شعره على شكل براكين تزلزل عروش الظالمين وتؤرق نومهم ويقف بالمرصاد لكل من خانوا وطنهم، «أنا بالمرصاد واكَف بالشعر... من الذي خانوا وطنهم أنتقم». كما يؤرخ لعصره بشكل صادق وأمين لا يهاب السيوف المسلطة على رقاب أصحاب الرأي ليمثل الحالة التي عليها شعبه دون مواربة أو تزييف؟!.

عبود الكرخي: «إنني مبتهج لكوني عشت خادمًا لبلادي نافعًا أمتي مناوئًا للإنكليز طيلة حياتي، وسأكون أكثر ابتهاجًا إذا استطعتم أنْ تخدموا أمتكم وتنفعوا أكثر مني!»

ختم الكرخي حياته بهذه الكلمات التي خاطب فيها ابناءه واحفاده وهو على فراش الموت ولقد كان راضٍ بموتهِ بعد أنْ أدرك لذة الرفض التي عدها جواز سفره نحو الحرية والخلود: إنني «مبتهج لكوني عشت خادمًا لبلادي نافعًا أمتي مناوئًا للإنكليز طيلة حياتي، وسأكون أكثر ابتهاجًا إذا استطعتم أنْ تخدموا أمتكم وتنفعوا أكثر مني»، وفي عام 1946 مات الكرخي وطويت صحيفة الكرخ ومعها الصحف الأخرى التي أسسها الكرخي، لكنه بقي يُذكر مع الشعر العامي الملتزم، والمقاوم للثنائيتين في هذه البلاد، الاستعمار والاستبداد!.