كيف عرفت المؤرخ الكبير عباس العزاوي؟

Thursday 23rd of December 2021 12:17:16 AM ,
5092 (عراقيون) (نسخة الكترونية)
عراقيون ,

عبد القادر البراك

لم تشتد الرغبة باقتناء ومطالعة كتب مؤرخ العراق الكبير المرحوم الاستاذ المحامي عباس العزاوي في يوم من الايام منذ نشرها بين الناس الى حين انتقاله الى عالم البقاء ما بلغته هذه الايام، فلقد كانت محدودية الاقبال على مؤلفاته الكثيرة تحمله على عدم طبع كميات كبيرة

منها مع ان طبع الكميات القليلة يكلف اضعاف ما تكلفه الطلبات القليلة العدد. وبالرغم من ان اكلاف الورق والطبع كانت قبل اقل من نصف قرن اقل بكثير من كلفتها في السنوات التي تلت اقدام العزاوي على طبع مؤلفاته فاكاداشك في ان مردودات بيع هذه المؤلفات والمخطوطات تسد اكلاف الطبع ولا اقول ثمن الجهد الذي كان يبذله من عمره وصحته ووقته الذي لو كرسه للمحاماة لعاد عليه بالارباح الطائلة ولا تسد المبالغ التي كان يدفعها لقاء ما يقتنيه من الكتب والمخطوطات باللغات العربية والتركية والفارسية وغيرها من مكتبات العالم الاسلامي التي كان يقصدها في كل صيف، والتي كانت ترتفع الاسعار فيها بمجرد وصول العزاوي الى المدن التي تقوم فيها هذه المكتبات.

ولا احسب ان مؤرخا عربيا تفرغ لمثل ما تفرغ العزاوي الى تأليفه ووضعه من كتب التاريخ على حدة فبالرغم من انه كرس كتابا واسعا لتاريخ (العراق بين احتلالين) اي منذ سقوط بغداد عام 956 الى الاحتلال البريطاني 1917 فانه كرس العديد من مؤلفاته التي يقع بعضها في اجزاء متعددة، واسعة مثل تاريخ (عشائر العراق) الذي يعرف بالعشائر العربية والكردية من ارض الرافدين مثل (تاريخ النقود والمسكوكات العراقية) و(تاريخ علم الفلك في العراق) و(تاريخ الضرائب والرسوم) و(تاريخ الموسيقى في العراق) و(تاريخ النخيل في العراق) و(تاريخ الادب العربي في العراق) وبحوثه الاخرى عن (الكاكائية والفرق الغالية) و(ذكرى ابي الثناء الالوسي) و(قصائد عبدالغفار الاخرس في مفتي بغداد عبد الغني جميل) رجل الانتفاضة المشهورة ضد الوالي العثماني علي رضا اللازم) وكثير غيرها من المطبوعات التي نفدت من الاسواق، فان العزاوي قد ترك – بالاضافة الى تلك المؤلفات الواسعة – العديد من امثالها ما زالت تنتظر الاحياء والنشر لو كانت امكانيات وزارة الثقافة والاعلام التي اخذت على عاتقها نشرها مساعدة، اذ لو تهيأ للوزارات المذكورة اعادة طبع ما سبق طبعه من مؤلفات العزاوي، وما تركه من مخطوطات لاسدت الى تاريخ العراق اجل خدمة ولاتاحت للمؤرخين المعاصرين من (المواد الاساسية) ما تصلح لان تكون من اهم المراجع التي يمكن الركون اليها لتدوير العديد من كتب التاريخ وفق الاساليب العصرية القريبة من افهام الاجيال المعاصرة التي عز ويعز عليها الرجوع اليها بعد ان احتوتها المكتبات الخاصة وبعد ان كان يغطي التراب المخطوطات منها المحفوظة في بعض المخازن الرسمية.

ولا يضارع العزاوي مؤرخ عراقي، واستيعابه للعديد من جوانب تاريخ هذه البلاد خاصة في الفترات المظلمة والمجهولة التي لم يطبع الا اقل القليل من المخطوطات التي تتحدث عنها من امثال الكتب التي كان يعتمد عليها العزاوي في تصنيف ما صنف من كتبه القيمة.

ولئن قدر للعزاوي من ينصفه من كتاب التاريخ فلا اقل من ان بعض مقارنة بينه وبين المؤرخ المصري الشهير (الجبرتي) الذي كانت ولا تزال وستظل كتبه التاريخية المرجع الموثوق الاول لكل من تصدى ويتصدى لبحث التاريخ المصري في الفترات المظلمة من العهود التي مرت بوادي النيل. ولعل وصف (شوقي) امير الشعراء لكتب تاريخ (الجبرتي) هو الوصف الذي ينظبق على مادون العزاوي في صحفه فلقد قال شوقي في (الجبرتي):

(صحف) الشيخ ويومياته

كزمان الشيخ سقما واضطرابا

من فصول كجليد لم يذب

وفصول تشبه التبر مذابا

و(الجبرتي) – على فطنته

مرة يغبى ودهرا يتغابى

ذلك ان العزاوي قد قلد الجبرتي في تسجيل كل ما هو عليه من وثائق وما عاصره من وقائع، وهو يتعمد (التعاقل) و(العقلة) فيتجنب خطر السلطة التي لا ينشرها تدوين التاريخ كما كان – وكذلك كان العزاوي بالنسبة للاوضاع التي كانت سائدة في العراق فقد كان يتحاشى التعليق والتفسير والافاضة فيما يتطلب منه ذلك خشية ان يكون فيما يضيفه الى النصوص والوقائع ما يغضب طائفة او جماعة ممن لا يريد اغضابها او التعرض لمساءلة من المتنفذين فيها، على ان احياء كتب (العزاوي) من قبل مؤرخين موثوقين يحقق الغايات المرجوة من اهم (الكنوز) التي احتوتها مؤلفاته والتي تعتبر المادة الخام لكل بحث جديد يكتب عن تاريخ العراق في الجهود المظلمة التي مرت به والتي ما زال العرب يعتمدون في التعرف عليها من مؤلفات الاجانب التي لا تخلو من المقاصد البعيدة عن الغرض التاريخي المجرد.

لم يكن مقدرا لعباس العزاوي ان يكون بالمقام الرفيع الذي وصل اليه بين رجال القانون والتاريخ في صدر القرن العشرين، فلقد عاش بعد مصرع ابيه المزارع الصغير، عديم النصير، قليل الزاد، ضعيف الامكانيات ولكنه بـ(عصامية القدرة) قد استطاع ان ينطلق من حرفته في (سوق الحدادين) الى طالب مجد مثابر استطاع ان يقطع مراحل دراسته بنجاح وتفوق يعضده بذلك اخ عبقري لامع هو (علي غالب العزاوي) الذي لم يحل فقدانه للبصر دون ان يكون المع انداده في الطلب وفي التدريس معا ويوم زاول (المحاماة) كان ابرز المحامين في قضايا الجزاء حيث كان يناقش شهود القضايا التي يترافع بها مناقشة لا يستطيع الافاضة بها الا من يملك النصر الثاقب في حين ان الشهود الذين كانوا يتراجعون امام مناقشته لا تفضحهم ادلتهم الثبوتية المبينة على (المشاهدة) و(المراقبة) ولئن كان (عباس) وهو الاخ الكبير يتدفع في الخصومة، ويماحك في الجدل، ويشتد في الخصام فان (علي غالب) كان هو الذي يحد من اندفاعه ولجاجته وشدته. وكان يستعين على ذلك بما فطر عليه (عباس) من طيبة قلب وسلامة ذات ورجوع الى الحق حين التأكد من كونه هو الاولى بان يتبع. لقد عرفت (عباس العزاوي) من تردده المتواصل على مكتبات (سوق السراي) لشراء كل ما يراه جديداً بالاقتناء وكان يعتمد حكمه من يقول (قد يوجد في الاسقاط ما لايوجد في الاسقاط) ولهذا فقد احتوت مكتبته الفخمة كل ما هو ثمين ورخيص من المطبوعات والمخطوطات ولكن اعتزازه بها كان على درجة واحدة. فالكتاب لديه بضاعة عزيزة ما عظم موضوعة وما تضاءل ولعل اعتزازه بالكتاب ككائن هو الذي كان يدفعه الى ان يحشد في كتبه كل جليل وسقيم من الامور وهو الذي جعله (يتساهل) في لغته فلم يملك الكتابة المشرقة الدالة على فهمه وتذوقه للاساليب الادبية، ولطالما جر عليه هذا التساهل الكثير من نقد النقاد الذي كان لايسكت عن نفوذهم بل يجيبهم بالردود الشديدة التي هي اقرب الى اساليب النزاع والاقتتال لا اساليب النقاش والجدال.

ولقد استعرت بينه وبين عدد من المؤرخين المعاصرين مناقشات ومجادلات كادت تؤدي الى فصم العلاقات التي كانت تربطه بهم – ولقد كان اسلوبه هذا لايقتصر على (مدوناته) في الصحف والكتب بل كان هو الاسلوب الذي عرف به في (مجلس الكرمل) الذي كان يعقد في صبيحة كل جمعة وفي (المجمع العلمي العراقي) وفي اجتماعات مأوى القلم) ولمعرفة اعضاء وزوار هذه الاماكن بحسن طوية العزاوي فقد كانوا لا ياخذون شدته ماخذ الجد وطالما انتهت المناقشات بينه وبينهم الى ما يشبه الملاصقات والمداعبات.

ولقد اعتاد (العزاوي) ان يستمع الى كل جليس بقصيدة في (نقابة المحامين) ويدون معلوماته عن الكثير من الشؤون المختلفة، وكان مجلسه في (قهوة الشط) ببغداد هو المحل المختار لتدوين ما يريد تدوينه في كتبه بخطه الذي لم يكن جيدا والذي كان يودعه الى الخطاطين المحترفين من المنتمين الى الخط في (باب الشيخ) تبيض ما يسوده قبل تقديمه الى الطبع. ولقد كان يعتمد على عدد من اصدقائه الخلص في تصحيح مسوداته قبل الطبع وبعده من امثال الشاعر الكبير 0محمود الملاح) والشاعر المعروف (خضر الطائي) والباحث امير بصيري وكان اخر من اعتمد عليهم في مراجعة اثاره صديقنا الاستاذ عبد الحميد الرشودي.

ولقد تهيأ لي ان اعاون الاستاذ العزاوي في مطلع الشبيبة، وقبل الانغمار في ميدان الصحافة فكنت اساعده في بعض شؤونه وشؤون اخيه (علي غالب) واشهد انهما كانا على جانب كبير من الخلق الحميد الذي لايستكثر على من نشا نشاتهما وورث ما ورثاه من حميد السجايا.

على انني (اسف لان تحول بعض الحوائل دون اضطلاع ورثتهما باحياء اثار (عباس العزاوي) لانها – وان كانت اقل مردودا من اعراض الدنيا – التي تنازعوا عليها – هي الاثر الذي تقر به عين عميدهم في العالم آخر، وهي التي تخلد ذكره وذكرهم لدي الاجيال المنسية بالوقوف على كل ما هو مجهود من تاريخ العراق.

جريدة الجمهورية 1987