جابر عصفور الذي عرفته

Wednesday 5th of January 2022 12:21:37 AM ,
5099 (منارات)
منارات ,

عماد أبو غازي

عرفت الدكتور جابر عصفور لأول مرة في العام الدراسي 1972/1973 عندما التحقت طالًبا بكلية الآداب جامعة القاهرة، كان وقتها شابا قارب عامه الثلاثين، كان ضمن مجموعة من الشباب الواعد في كلية الآداب،

عرفته عن بعد فلم أكن طالبا في المجموعات التي كان يدرس لها؛ التقيته بعدها في منزل الدكتور عبد المحسن طه بدر بعد أن تخرجت من الكلية وكان ذلك إبان أزمة سبتمبر 1981، والتي أطاح فيها الرئيس السادات ضمن إجراءاته الاستثنائية بعدد من أساتذة الجامعات المصرية، كان نصيب كلية الآداب بجامعة القاهرة النصيب الأكبر، وكان أغلب المبعدين من الكلية من أساتذة قسم اللغة العربية، وكان هو وعبد المحسن طه بدر من بينهم، كانت المرة الأولى التي أجلس معه عن قرب، وأظنه لم يلحظ وجودي يومها.

اللقاء الأول الحقيقي الذي تعارفنا فيه كان في عام 1988 بعد عودته من الكويت، عندما قررت كلية الآداب، وكنت وقتها قد أصبحت مدرسا مساعدا بها أن تحتفل بمناسبتين كبيرتين؛ الأولى مئوية طه حسين، والثانية حصول نجيب محفوظ على جائزة نوبل في الأدب، وتقرر أن يأخذ الاحتفال شكل مؤتمرين علميين كبيرين، وكنت مع مجموعة من زملائي وزميلاتي من شباب وشابات الكلية وقتها ضمن فريق العمل الذي يعد للمؤتمرين؛ وكان جابر عصفور مسؤولا عن المؤتمر الأول، وانتقلت إليه مسؤولية المؤتمر الثاني بعد مرض الدكتور عبد المحسن طه بدر ورحيله، كانت هذه هي المرة الأولى التي نتعارف فيها عن قرب، عملت في الفريق الذي يقوده على مدى عامين تقريبا، اكتسبت خلالهما خبرات جديدة في الإدارة وفي تنظيم العمل، وكانت بداية لعلاقة وطيدة امتدت لأكثر من ثلاثة عقود.

المرة الثانية التي عملت معه فيها عن قرب كانت خلال الشهور الثمانية التي تولى فيها رئاسة دار الكتب والوثائق القومية، لكن العمل الحقيقي المتواصل والممتد كان خلال عملي معه في المجلس الأعلى للثقافة منذ أبريل 1999 حتى تركه منصب الأمين العام للمجلس الأعلى للثقافة في 25 مارس 2007؛ كانت فترة مليئة بالعمل والإنجاز.

وقصة جابر عصفور مع المجلس قصة تستحق التسجيل؛ خمسة عشر سنة قضاها في منصب الأمين العام للمجلس الأعلى للثقافة، منذ اختاره الفنان فاروق حسني لهذا المنصب، قدم خلالها الكثير، أشاع الحياة في كيان كان يبدو للجميع ميتا، نقل نشاط المجلس من النطاق المحلي إلى الساحة العربية منطلقا من قناعته الفكرية العروبية، حتى أصبح كثيرون من المثقفين العرب يطلقون على المجلس بيت الثقافة العربية، بل يمكن أن يرصد المتابعون مكانا للمجلس الأعلى للثقافة على ساحة الثقافة العالمية، من خلال مشاركات لمثقفين بارزين من مشارق الأرض ومغاربها في أنشطته، ومن خلال التعاون مع عدد من المؤسسات الثقافية العالمية، كما عادت مصر من خلال المجلس تحت قيادة جابر عصفور تفتح أبوابها لاستضافة أبرز مفكري العالم ومثقفيه من أمثال مارتن برنال وجاك دريدا وروبرت يانج.

ونجحت سياسة الدكتور جابر عصفور في المجلس الأعلى للثقافة في جعله جسرا بين الثقافة العربية والثقافة العالمية من ناحية، ومكانا لالتقاء المثقفين والباحثين والمبدعين من مختلف الأقطار العربية ببعضهم البعض، وساحة مفتوحة لحوارهم، ومجالا لتواصلهم مع مثقفي العالم وفنّانيه من ناحية أخرى.

وتنطلق رؤية جابر عصفور للثقافة العربية من وعيه الحادّ والعميق بكون العالم المعاصر قد أصبح بفعل الثورة التكنولوجية والمعلوماتية الهائلة "قرية كونية صغيرة" تتفاعل فيها الثقافات واللغات والأديان، بما لا ينفي خصوصية كل ثقافة على حدتها، وبما يؤسّس في الوقت نفسه لحوار ثقافات العالم وليس صراع الحضارات.

على مستوى آخر أصبح المجلس لأول مرة برلمانا للمثقفين كما كان الغرض منه عند إنشائه، فقد بات يضم بين أعضاء لجانه أكثر من خمسمائة من المبدعين والباحثين والمثقفين من كل الاتجاهات الفكرية والثقافية والبحثية والسياسية أيضا.

لكل هذا فعندما دعت لجنة الكتاب والنشر بالمجلس الأعلى للثقافة إلى إصدار كتاب تذكاري تكريما للدكتور جابر عصفور بمناسبة تركه منصب الأمين العام للمجلس الأعلى للثقافة في مارس سنة 2007، وعندما حمل مقرر اللجنة الدكتور شعبان خليفة الفكرة إلى الأمين آنذاك الناقد السينمائي علي أبو شادي تبنى المشروع وتحمس له على الفور، وتم توجيه الدعوة لعدد محدود من أصدقاء جابر عصفور وزملائه وتلامذته للمشاركة في هذا الكتاب التذكاري، إما بأبحاث ومقالات تتناول جوانب من تجربة جابر عصفور، أو بتقديم أبحاث مهداة لجابر عصفور في مجالات تخصصهم التي تتقاطع مع اهتمامات الرجل.

لكن لأن محبي جابر عصفور كُثر، طال الأمر واتسع، وطلب كثيرون المشاركة، وتعدى المشاركون من وجهت لهم الدعوة للكتابة، وتجاوز العمل حدود لجنة الكتاب والنشر وأمانة المجلس الأعلى للثقافة، لنصبح في النهاية أمام عمل علمي كبير يليق بجابر عصفور وبإسهامه في الثقافة المصرية والثقافة العربية، عمل يتكون من مجلدين كبيرين أسهم فيهما محبو جابر عصفور وزملاؤه وأصدقاؤه وتلاميذه، ليس من مصر فقط، بل من بلدان عدة من عالمنا العربي، ومن العالم.

رغم أهمية كل ما قام به جابر عصفور في المجلس الأعلى للثقافة إلا أن إنجازه الأهم سيبقى "المشروع القومي للترجمة"، ذلك المشروع الذي بدأه بداية صغيرة لكنها بداية لحلم كبير، كانت البداية في عام 1995 بآحاد قليلة من الكتب تصدر في كل عام، لكن بعد عشر سنوات أصبح الحلم واقعا وبلغ ما صدر عن المشروع أكثر من ألف عنوان، محطما الرقم القياسي لأي مشروع آخر للترجمة في تاريخ الثقافة العربية منذ عصر المأمون إلى يومنا هذا، والحلم الذي تحقق لم يكن مجرد رقم جديد يضاف إلى ما ترجم إلى العربية، بل كان إنجازا في المحتوى أيضا، لقد ترجم المشروع القومي للترجمة عن أكثر من ثلاثين لغة مختلفة من اللغات الحية وتلك التي بطل استخدامها، ومن بين تلك اللغات لغات يترجم عنها مباشرة إلى العربية للمرة الأولى، كما كسر المشروع المركزية الثقافية الأوروبية في الترجمة، فنقل عن لغات آسيوية وأفريقية إلى جانب اللغات الأوروبية التقليدية.

ثم كان اكتمال الحلم بإنشاء المركز القومي للترجمة الذي تولى جابر عصفور إدارته بعد أن ترك أمانة المجلس الأعلى للثقافة، واستمر فيه حتى عام 2011، مضيفا بؤرة جديدة تشع ثقافة وتنير ضوءاً صغيرا في ظلام واقعنا العربي، وتنتقل بالثقافة العربية من خصوصيتها الجغرافية الضيّقة إلى فضاء العالمية الرحب. فـالمشروع القومي للترجمة كان منذ بدايته مشروعا عربيّ التوجّه من حيث مشاركة أو استقطاب مترجمين من عدد من الدول العربية في ترجمة أعماله، ومن حيث نشر أعماله على النطاق العربي، ثم جاء "المركز القومي للترجمة" ليضيف في ظل إدارة جابر عصفور له إلى المشروع أبعادا عالمية ملموسة، من خلال التعاون مع مؤسسات دولية متعددة.

وبعد أن ترك جابر عصفور أمانة المجلس العامة لم تنقطع صلته بالمجلس فقد أصبح عضوا من أعضائه المختارين من بين كبار المبدعين والباحثين والمفكرين في مصر، ليواصل العطاء في المجلس الأعلى للثقافة من موقع آخر، فمنذ انضمامه إلى عضوية المجلس، ومشاركته في عضوية لجانه المختلفة، برزت مساهمات جابر عصفور المثقف والناقد والمفكر واضحة ضمن زملائه وأقرانه من مثقفي مصر ومفكريها حتى أيامه الأخيرة.

ولا يكتمل الحديث عن دور جابر عصفور في العمل الثقافي المؤسسي دون التوقف عند جابر عصفور وزير الثقافة؛ لقد تولى جابر عصفور المنصب مرتين، المرة الأولى في أثناء ثورة 25 يناير 2011، في حكومة الدكتور أحمد شفيق الأولى، وكان يتصور يومها أن النظام استوعب الدرس، وإنه يسعى لتحقيق تآلف وطني، ولكنه لم يستمر في منصبه إلا تسعة أيام عندما أدرك أنه لا توجد نية حقيقية للتغيير، ومع ذلك كان حريصا في هذه الأيام التسعة على أن يناقش مع زملائه في وزارة الثقافة خططًا طموحة للعمل تنطلق مما هو قائم وتبني عليه.

وفي المرة الثانية عندما تولى وزارة الثقافة في عام 2014 واستمر في منصبه قرابة ثمانية أشهر، قدم خلالها ستراتيجية لمنظومة الثقافة في مصر، نتجت عن جلسات حوار عدة، وقراءة في رؤى متنوعة، وحرص فيها على تأكيد أهمية التعاون بين وزارة الثقافة وغيرها من الوزارات والهيئات من خلال برتوكولات للتعاون، كما تبنى مشروعات مماثلة مع المجتمع المدني، فقد كانت قناعته دائما أن الثقافة ليست مسؤولية وزارة الثقافة وحدها، كان حريصا خلال تلك الأشهر القليلة أن يضع تصورا متكاملا لبناء جديد لمؤسسات العمل الثقافي في مصر.

وإذا كانت بصمات جابر عصفور في العمل الثقافي المؤسسي واضحة جلية لكل عين، فإن إسهاماته الأكاديمية هي الأخرى تقف شامخة، فمنذ تخرج جابر عصفور في ستينيات القرن الماضي من قسم اللغة العربية وآدابها بكلية الآداب بجامعة القاهرة، وتتلمذ على الدكتورة سهير القلماوي، وهو يشق لنفسه طريقا في وسط الأسماء البارزة في الدراسات الأكاديمية في مجال النقد الأدبي، حتى أصبح واحدا من أبرز الأكاديميين العرب في هذا المجال، تشهد له بذلك مؤلفاته المتعددة، التي يعد كل منها علامة في هذا المجال، والتي تناولت موضوعات متنوعة ما بين قضايا الأدب العربي القديم والحديث والمعاصر، والتعريف بالاتجاهات النقدية العالمية، ويشهد له بذلك تلامذته في الجامعات المصرية والعربية وفي بعض الجامعات الأوروبية والأمريكية التي درّس الأدب العربي فيها، ويشهد له بذلك إسهامه في مجلة فصول التي شارك في تأسيسها ثم تولى رئاسة تحريرها لسنوات وضع فيها أسس مجلة نقدية أكاديمية رصينة.

هذا ولم يقتصر دور جابر عصفور في مجال الأدب والنقد على الدور الأكاديمي رغم أهميته، فهناك الدور الذي لعبه جابر عصفور عبر أكثر من أربعين عاما من خلال كتاباته في المجلات الثقافية والصحف السيَّارة، والذي جعله يقف في مصاف نقادنا الكبار الذين مزجوا دورهم الأكاديمي بدورهم في الحياة الثقافية العامة، فمنذ نشر وهو بعد شاب صغير أولى مقالاته في مجلة "المجلة" القاهرية التي كان يرأس تحريرها الأديب الكبير يحيي حقي، تواصلت مشاركاته في الكتابة لجمهور القراء العام في عديد من الصحف والمجلات المصرية والعربية ربما من أهمها الأهرام والحياة والعربي؛ ومن خلال كتاباته تصدى لمناقشة القضايا الثقافية العامة والاشتباك معها، فضلا عن تعريفه القارئ المصري والعربي بالاتجاهات النقدية والأدبية وتقديمه لعشرات من الأعمال الإبداعية للجمهور العام.

وفي السنوات الأخيرة شغلته قضايا الاستنارة ومعوقات النهضة في مجتمعاتنا العربية، وتصدى في كتاباته المتعددة للدفاع عن حرية الرأي والتعبير والاعتقاد، وتناول القضايا التي من شأنها النهوض بالمرأة المصرية والعربية، وأخيرا حماية مقومات الدولة المدنية.

وفي النهاية، لا يستطيع أحد أن ينكر دور جابر عصفور في إعلاء قيم الاستنارة والتقدم التي آن لها أن تتضافر لمواجهة قيم الجمود والتخلف؛ لقد كان الشغل الشاغل والحلم الأكبر للكاتب والناقد والمفكِّر المصري جابر عصفور تقديم الوجه الإيجابي لثقافة عربية معاصرة تنتقل بأبنائها، من المحيط إلى الخليج، "من مستوى الضرورة إلى مستوى الحرية"، كما كان يردد دائما.

واليوم أودع الدكتور جابر عصفور الأستاذ والمعلم والناقد والمفكر ومشيد الصروح الثقافية، لكن قبل ذلك وبعده أودع جابر عصفور الصديق والإنسان... فتحية لجابر عصفور ولمشروعه الثقافي، لقد رحل الجسد لكن الميراث الكبير الذي تركه سيحفظ ذكراه حية دوما...