أين كانت الباب الشرقي في ساحة التحريرفي بغداد؟ وهل اضطر ارشد العمري لهدمها في 1937؟

Monday 10th of January 2022 12:24:44 AM ,
5101 (ذاكرة عراقية)
ذاكرة عراقية ,

د. إحسان فتحي

كان الخليفة العباسي الثامن والعشرون، المستظهر بالله (حكم 1094-1118)، قد أمر بتشييد سور منيع في 1095م يحيط بالرصافة من كافة اطرافها، اي حتى جبهتها النهرية المطلة على الضفة اليسرى لنهر دجلة لكي يحميها من هجمات الاعداء والطامعين في هذه المدينة العظيمة.

وفي الحقيقة، كان هذا المشروع يتطلب جهودا بشرية ومادية هائلة لانه كان يعني بناء سور جبار من الاجر المشوي الجيد بطول 10 كيلومتر، وارتفاع 10 متر، وسماكة بحدود 5و5 متر، ومزود ب 117 برج دائري يزيد ارتفاعه عن السور بما لايقل عن 5 متر، وخمسة ابواب منيعة ! وبحساب بسيط، كان هذا يعني توفير ما لايقل عن 700 ألف متر مكعب من الاجر، بالاضافة الى حفر خندق بعمق لايقل عن 4 متر، وبعرض حوالي 6 متر، وطول بحدود 7 كيلومتر. هذا، ناهيك عن الاف العمال ومئات المشرفين والمهندسين الذين عملوا بشكل متواصل لمدة 24 سنة. !

لم تشأ الاقدار ان يفرح المستظهر ويرى مشروعه الجبار قد اكتمل اذ وافته المنية في 1118م واكمله ابنه المسترشد بالله في عام 1119م. احتوى السور على ستة ابواب (على الاقل) وهي:

1. باب المعظم (او السلطان) - هدم عام 1925.

2.الباب الوسطاني (الظفرية، اق قابو) - لايزال قائما.

3.باب الطلسم (الحلبة) - فجره الجيش التركي قبل انسحابه في اذار 1917.

4.الشرقي (كلواذي، قره قابو، قرلغ) - هدمه امين العاصمة أرشد العمري في 1937.

5.باب الشط (قرب المدرسة المستنصرية ويقابل جسر القطعة) - بطل استعماله منذ 1870 وأزيل بعد هدم سور بغداد من قبل الوالي مدحت باشا.

6.باب (مجهولة الاسم ساسميها باب “ الغزالي” مؤقتا) كانت تقع ضمن السور الجنوبي وتقابل كنيسة الارمن وساحة الطيران حاليا، لكنها اندرست منذ فترة طويلة.

اختلفت تصاميم الابواب الخمسة عن بعضها ولكنها تشابهت في تبنيها فكرة المدخل المنكسر والذي استخدم لاول مرة في بوابات بغداد المدورة وكان حلا فعالا ضد هجمات الاعداء. ومن حسن الحظ، فان الباب الوسطاني الذي نجى باعجوبة من معاول الهدم، يعطينا فكرة مدهشة على مهارة المصمم المعماري العباسي في تحقيق اقصى قدرة دفاعية ضد أي جيوش غازية. ان الدراسات الميدانية التي قام بها المعماري الالماني (لانجينيجر) عام 1910 على سور وابواب بغداد تعطينا فكرة جيدة عن تصميم وقياسات الباب الشرقي وموقعها الذي كان يبعد 275 متر عن نهر دجلة.

كان الباب الشرقي احد اهم البوابات في حياة المدينة لانه كان باتجاه الطريق الجنوبي المؤدي الى قرية كلواذي ومن بعدها المدائن وواسط والبصرة وخليج البصرة المتصل بالهند وشرق اسيا.

وقد شهد هذا الباب احداثا دموية مثل الاحتلال المغولي حيث خرج منه في يوم الاحد 10 شباط 1258 اخر خلفاء بني عباس، المستعصم بالله مع اولاده، مستسلما بعد حصار دام 12 يوما، وقتل هو وجميع اولاده عدا واحدا منهم.

كما استغله المحتل البريطاني، عنوة ودون ادنى اعتبار لمشاعرالبغداديين، كنيسة (انجليكانية) لهم اسموها (كنيسة القديس جورج) ونصبوا صليبا كبيرا وبرجا فوق سطحها مع ناقوس يدق ايام الاحد، وبقت حتى عام 1936، حينما شيدوا لهم كنيسة بنفس الاسم في الصالحية من تصميم المعمار (ويلسون) لاتزال قائمة..

وتدل الصورالقليلة المتوفرة عن الباب بانه كان على شكل برج مضلع يرتفع بحوالي 18 متر عن مستوى الارض المحيطة به، ويحتوي على طابق علوي فيه نوافذ مطلة على الخندق المائي المحيط بسور المدينة، وعلى شرفة علوية مفتوحة للحرس.

ويبدو ان الدخول الى البوابة من الخارج كان من خلال جسر خشبي متحرك (يزال اثناء الحصار) يؤدي الى المدخل الامامي ويعطف يمينا لكي يدخل المدينة. ويبدو ان القاعة الداخلية كانت على الاقل حوالي 5و4 متر عرضا و12 متر طولا مما ساعد على استعمالها كمصلى للكنيسة بعد اغلاق بابها الامامي بالطابوق.

بعد هدم سور بغداد في 1870 اصبحت بوابات بغداد الاربعة مجرد صروح برجية كبيرة ومهجورة، ولم يفكراغلب السياسيين والمسؤولين، والناس عامة، باهمية هذه الصروح التاريخية الكبرى وضرورة الحفاظ عليها، بل اعتبروها ابنية عتيقة متهرئة وحتى خطرة.

واصبحت المناطق الممتدة خارج السور ومن الباب باتجاه الجنوب، وبمحاذاة دجلة، وان كان اغلبها بساتين عامرة (منطقة الزندورد العباسية) ومنها تلك العائدة الى عائلة الاورفلي (الحاج عبد الرحمن وابراهيم) و(مامو) مثلا، جاهزة للعمران والسكن من قبل العوائل الغنية (خاصة اليهودية منها) التي رغبت بالانتقال من دور المحلات التقليدية المكتضة الى دورحديثة مصممة حسب معاييرجديدة تعتمد وصول العربات والسيارة امام كل دار. وفعلا تم فرز مساحة كبيرة نسبيا في عام 1930 وخططت لتوفير حوالي 490 قطعة ارض سكنية بشقيها الشرقي والغربي، لان الشارع المقابل للباب الشرقي (سمى لاحقا بشارع السعدون) كان يقسمها الى قسمين. من ناحية اخرى، فان الخندق المنخفض الذي كان يحيط بالسور قد تم تحويله في بداية الثلاثينات الى حدائق عامة للناس سميت ب “الامير غازي” ثم تحولت لاحقا الى حديقة “ الاٌمة «.

اما المساحة الكبيرة التي تقع مباشرة امام الباب الشرقي فبدأت تتزايد اهميتها كميدان لتجمع الناس في المناسبات المختلفة، وتعززت اهميتها جدا عندما شيدت مدرسة راهبات التقدمة الفخمة من قبل مجموعة من الراهبات الفرنسيات (لاتين كاثوليك) في عام 1927. وفي عام 1933 تم نصب فيها تمثال لرئيس الوزراء العراقي عبد المحسن السعدون (انتحر في 1929). كما اكتسبت اهمية ملحوظة عندما شيدت افخم دارسينما في العراق سميت بسينما الملك غازي في عام 1934 (هدمت مع الاسف في 1957) بسبب فتح شارع الملكة عالية. كل هذه التحولات السريعة في الساحة المفتوحة والباب الشرقى بقى صامدا بسبب استغلاله ككنيسة للجالية البريطانية، ولم يكن باستطاعة رئيس البلدية أرشد العمري الذي تعين بمنصبه الجديد في 1931، ولا كل الحكومة العراقية، ان تتحدى البريطانيين بطردهم من هذا الباب التاريخي!

وكان ارشد حسن بيك العمري قد ولد في الموصل عام 1888 وتخرج من مدرسة المهندسين العالية في استنبول في 1912، وعمل في بلديتها، وتزوج من فتاة تركية في 1918. كانت شهادته اقرب الى الهندسة المدنية، وتأثر بما يجري من اعمال تحديث كبرى ومشاريع بنية تحتية في كبرى المدن الاوروبية واستنبول ايضا، ويبدو انه لم يدرس تاريخ العمارة جيدا ولم تكن لديه اي فكرة عن الحفاظ على التراث المعماري بالرغم من معرفته الدقيقة باهتمام الاتراك بالحفاظ على اثارهم الاسلامية. وعندما افرغ البريطانيون الباب الشرقي وانتقلوا الى كنيستهم الجديدة في الصالحية في 1936، سنحت الفرصة له للتخلص منها وكأنه كان متربصا بها طول الوقت بحجة بانها “تعيق” اعادة تنظيم هذه المنطقة كلها والتي بدأت تعرف ب (ساحة الملكة عالية). في الحقيقة ان البوابة لم تشكل اي عائق ابدا وخاصة ان ربط شارع السعدون بالطريق الذي اصبح لاحقا جزءا من شارع الجمهورية يمر بجانبها وليس من خلالها (راجع المخطط).

كان قرار ازالة هذه البوابة التاريخية التي بلغ عمرها 818 سنة، وهي الصرح العباسي الاعظم بين البوابات الاخرى، وتشمخ كبرج مهيب من الاجر البغدادي الاصفر 18 متر (اي بارتفاع عمارة 5 طوابق)، كارثة كبرى وجريمة ثقافية قاسية في تاريخ العراق يتحملها هو شخصيا ورئيس الوزراء حكمت سليمان ان كان يعلم، وكذلك مدير الاثار العامة ساطع الحصري لانه لم تسجل له اي معارضة ضد هذا العمل الخطير. كان من الممكن جدا ان يوقف هذا العمل لانه يخالف قانون الاثار العراقي. كما لااعتقد ان الملك غازي قد أعلم بنية هدم الباب او انه وافق شخصيا على مثل هذا العمل المشين. كانت المسؤولية التاريخية والاخلاقية والوطنية تحتم على الجميع توظيف واستغلال هذا الصرح التاريخي الجميل ضمن أي مخطط للتطويرالعام للساحة.

بدء الهدم اليدوي المشؤوم بالمعاول الحديدية صباح يوم الجمعة 13 مايس 1937 من قبل فريق مختار من العمال الاشداء بلغ عددهم الخمسة والعشرين، وتحت اشراف مباشر من عدد من مراقبي البلدية ومتابعة ملحة من أرشد العمري الذي كان يأمل بسرعة تنفيذ الهدم لكي لا يغضب منه البغداديون. ومن غير المعروف كم استغرقت عملية الهدم ولكنني اقدرها بشهر كامل على الاقل بسبب ضخامة الباب وملحقاتها الخلفية. ومما يؤسف له جدا هو حتى عدم تأشير مكان هذه البوابة التاريخية أو حتى جزء من مسار السور للاجيال القادمة كما عملت به بعض المدن العالمية. وبالتالي، فقد حاولت جاهدا تقدير الموقع الفعلي للباب الشرقي على ضوء الخرائط القديمة المتوفرة والصور الجوية للمنطقة الملتقطة في اوائل القرن العشرين. ان “ الثابت” الوحيد الذي عاصر الباب هي بناية مدرسة الراهبات والتي ساعدتني، الى حد ما، تخمين موقع البوابة. وقدرت بان البوابة كانت تبعد تقريبا 275 متر من الحافة العليا لنهر دجلة، و100 متر فقط بخط شمالي مستقيم عن الركن الاول وهو الشمالي الشرقي للمدرسة.

هذه هي القصة المأساوية للباب الشرقي، واقترح ان تقوم الامانة بنصب هيكل رمزي ( يحدد من خلال مسابقة) على الموقع لكي يذكر الجميع بمكان البوابة وان لاتتكرر مثل هذه الجرائم الثقافية في المستقبل.