من ذكرياتي في جامعة القاهرة عام 1956..عراقية أمام طه حسين وجها لوجه

Monday 17th of January 2022 12:07:42 AM ,
5106 (ذاكرة عراقية)
ذاكرة عراقية ,

د. حياة شرارة

كنت احضر دروسنا في القسم الانكليزي صباحا وكان الاساتذة كلهم من المصريين بعد ان انسحب الاساتذة الانكليز من الجامعة اثر تاميم قناة السويس، ولكن ذلك لم يؤد الى هبوط المستوى العلمي وكان يرأس القسم الدكتور المعروف رشاد رشدي ويدرسنا مادة الشعر

وكان الاساتذة ضليعين في اختصاصاتهم سواء في اللغة او الادب وعلى اطلاع باحدث الكتب الصادرة في الخارج عن مواضيعهم اما مادة اللغة العربية فتولى اهمية خصوصية فكانت الدكتورة سهير القلماوي تلقي لنا المحاضرات عن الادب العربي. اما عصرا فكنت احضر مناقشات شهادات الدكتوراه والماجستير والمحاضرات التي يلقيها طه حسين في القسم العربي. كان يلقي بعضها في قاعة مدرجة واسعة وبعضها الاخر في حجرة لصف اعتيادي تقتصر عادة على حضور طلبة الماجستير والدكتوراه.

غير ان الحضور لم يقتصر على طلبة الدراسات العليا وانما يحضرها عدد من اساتذة القسم العربي كسهير القلماوي والخشاب وشوقي ضيف اضافة الى بعض محبي الادب، وقاعات المحاضرات كما ذكرت سابقا مفتوحة ابوابها لمن يشاء. غير ان قاعة الدكتور طه حسين تختلف عن بقية صفوف الدراسة بجو من الاجلال والمهابة يحيط به الحاضرون وجوده عفوياً فيشعر المرء فعلا انه داخل حرم له قدسيه حيث يسود صمت مطبق ولا ترى سوى اذاناً مصغية وانفاسا مكتومة وعيونا منتبهة يقظة ووجوه الحاضرين شاخصة باهتمام الى المحاضر الجالس قبالتها بجسمه النحيل ونظارتيه السوداوين ويديه المشبوكة اصابعهما ببعضهما بعضا في قبضة واحدة متوترة وهو يلقي محاضرته وكأنه يتلو صفحات من كتبه ولا يتصور المرء انه يرتجل بهذا التدفق واليسر والتلقائية لو لم يره مائلا امامه والمستمعون منشدون اليه، يصغون بتفكير وتمعن في كل ما يقوله. ورغم هالة التعظيم التي يحاط بها فانك لا تشعر بوجود حاجز بينك وبينه، فنفسه قريبة اليك قرب الهواء والماء منك، تبث الدفء فيك كنهار يشع نوراً وحرارة. اسلوبه ينساب متسلسلا كالجدول الجاري، نبرة صوته هادئة عذبة الجرس يعلق بها السمع عن طوع واعجاب. لعل هذا الابتعاد عن التعقيد والغموض هو الذي يدنيك منك ويمحو المسافات التي اقامها خيالك بينك وبينه وإذا اسلوبه اشبه بعصا موسى السحرية يمحو بلمح البصر تلك المسافات ولا تشعر إلا انك تجلس قبالة انسان يملأ منك السمع ويمتع الفكر.

يبدو احيانا وكانه يحدثك عن امور بديهية لها طبيعة الاشياء المألوفة غير انه يكشف لك عن شيء جديد فيها. شيء لم يخطر لك ببال وتظمأ له نفسك فتجد فيه نكهة لم تتذوقها من قبل واموراً كنت غافلا عنها ووضوحا وبساطة قصر عنها تفكيرك وتظل الى جنبه مصغياً مستمتعاً بذلك التجديد في فكره وحديثه.

كنت اداوم على الحضور وذات يوم وصلت متأخرة بضع دقائق عن محاضرته لطلبة الدراسات العليا ووقفت مترددة امام الباب الموصود، هل ادخل ام اعود ادراجي؟ وعز علي ان ارجع واحرم نفسي من الاستماع اليه. لا يجد المر غضاضة في دخول المحاضرات اذا تأخر عن ميعادها لدى الاساتذة الاخرين فهو شيء مالوف بل بوسعك الانصراف إذا لم ترق لك. اما في محاضرة طه حسين فالامر يختلف كل الاختلاف، انه ينبو عن الذوق السليم واللياقة. غير انني رغم معرفتي بها قررت ان لا اتخلف عن سماعه، ففتحت الباب بهدوء ودخلت وسرت دون ان احدث صوتا تقريبا ولكن الالحاظ اشرابت الي وحدجتني بنظرة يشوبها الاستياء والامتعاظ واشعرتني انني اتيت عملا غير مستساغ فكان دخولي اشبه باقتحام مكان لا يجوز اقتحامه فتملكني الخجل وتركز كل همي في ان اصل الى مقعد فارغ اشغله لأتوارى عن اعين النظارة. واجتزت الغرفة حتى اخرها حيث توجد بعض الكراسي الخالية وجلست وانا ما زلت اشعر بوخز تلك النظرات التي سددت الي. وما هي الا دقائق معدودة حتى نسيت كل هذا واندمجت في حديثه العذب. غير انني لم انس حادثة دخولي المتأخر تلك حتى الان وقد احسست بانها عمل اخرق بعد إقدامي عليه مباشرة.

لم تكن الاجواء الفكرية في القاهرة وقفا على الكتب والمحاضرات، بل كانت لها امتداداتها الرحبة ما دامت الحياة الثقافية في القاهرة متشعبة واسعة غنية وتختلط فيها المعرفة بالترويج عن النفس والتسلية الممتعة للعقل والقلب. وذات ليلة كانت دار الاوبرا تستضيف فرقة رقص اسبانية، فقرر نفر من الطلاب والطالبات العراقيات، وانا معهم، ان نذهب اليها وقداتي الحريق على دار الاوبرا قبل عشر سنوات تقريبا والتي تم تشييدها على الطراز الكلاسيكي قبل ما ينيف على مائة عام في احدى المناسبات المهمة للدولة، ان سقفها وجدرانها ومعمارها نموذج لذلك الفن وتعتبر من دور الاوبرا الشهيرة في العالم. لما انتهى الشطر الاول من الحلقة فتحت الانوار لفترة الاستراحة.

وما ان جالت عيوننا في الحاضرين حتى الفينا طه حسين وزوجه جالسين في إحدى المقصورات، وخطر ببال بعضنا ان نذهب اليه ونتحدث معه وتردد قسم منا حيث كان يشعر بالارتباك والخجل من اقحام انفسنا عليه، غير ان واحدا منا وكان اكثرنا جرأة، حسم الامر بلا اخذ ورد واصطحبنا اليه بثبات وبادر في الكلام معه فاخبره بننا طلبة من العراق وعبر له عن اعجابنا بادبه وشخصه واننا لم نستطع ان نمنع انفسنا من القاء التحية عليه والتحدث معه بضع كلمات حين وقعت ابصارنا عليه.

لاح السرور على محياه وقال انني مبتهج بهذه المبادرة الطيبة من جانبكم وقد استشفيت فيها الروح العراقية التي تجل الادب والادباء وتعرف قدرهم. وطلبنا منه ان ناخذ معه بعض لصور فلبى طلبنا ثم انصرفنا لشأننا. شعرنا بالفرح لتلك الفرصة السانحة واخذنا نتكلم ونعلق بروح الطلبة الجذلة الصاخبة يقاطع بعضنا بعضا في الحديث وكانت نفوسنا لا تخلو من شيء من العجب لان احدا غيرنا لم يقبل على تحيته وكيف يحضر حفلة لفرقة رقص وهو لايرى شيئاً. ولكن اي عجب في ذلك؟ اليست الموسيقى مصاحبة للرقص، اليس في سماعها متعة للسمع والقلب، الم يعتد على الذهاب الى المسارح في فرنسا؟ بلى، بلى، انه لكذلك، فمتطلباته الروحية وذوقه السليم يمليان عليه ان يستمتع بنتاج الفن ما وجد الى ذلك سبيلا.

مضت السنون وانطوت صورة طه حسين الشخصية في ناظري غير انها بقيت ماثلة في ثنايا ذهني، تطل علي كلما جلست مع كتاب من كتبه استعيد قراءته مجددا بعد ان طوى الزمن محتواها من ذاكرتي او كاد، واجد فيها المتعة الفكرية نفسها التي وجدتها عندما كنت اقرأها او اسمع شتاتاً منها وهو يتلوها على الحاضرين او حين يأخذ بيد القارئ والاديب برفق ولين ليحبب اليهما الادب العربي القديم بعد ان الغى نفورهما منه وضيقهما به ويبسط لهما في “حديث الاربعاء” قصائد الشعراء وما يقصدون اليه من معنى وما نتطوي عليه من صور رائعة ويشرح لهما ما كان مستغلقا عصي الفهم عليهما فيزول الغموض والابهام ويتجلى كل شيء بحلته الجميلة. واذا كان رفيقا بنا لينأ معنا عندما تقتضي الامور ذلك فهو صارم معنا شديد علينا عندما يرى اننا نضل سواء السبيل فيخيل الينا ان الكتابة شيء سهل هين فتسمعه يخاطبنا في “خصام ونقد” انه يريد “للاديب ان يكون عصيا ابيا لا يكتب لينشر في الصحف بل ينشر في الصحف لانه كتب.. ومعنى هذا كله اني اريد للادب ان يكون قبل كل شيء وعلى رغم كل شيء مقاومة بادق ما لهذه الكلمة من معنى، مقاومة للنفس التي تكره الجهد وتضيق بالعناء وتنوء بالمشقات..” نعم، الادب مقاومة، مقاومة في مختلف مضارب الحياة ابتداء من اعمق اعماق النفس وامتداداً الى دنيا الله الواسعة التي ندب ونتحرك على رقعة صغيرة منها. ويذكرني قوله هذا بمقالات “حديث الاثنين” لسانت بيق التي كان ينشر مقالا منها كل يوم اثنين ويستعير لكتابته من المكتبة الوطنية في باريس اكثر من خمسة وعشرين كتابا في الاسبوع ! لربما اراد ان يذكرنا بشيء من هذا القبيل في حياتنا الادبية.

لا اريد ان استطرد في الحديث عن الغزارة التي تزخر بها كتاب طه لانني ساجد نفسي سائره في سبيل لن ادرك له نهاية وما خطر لي على بال في ان امضي في شعابه. ولكن صيحة طه حسين “.. يا ناس، ارحمونا وارحموا انفسكم يرحمكم الله.. انني في آخر ايامي، اودعكم بكثير من الالم وقليل من الامل” تعود ترن في اذني والتي اطلقها حين سأله غالي شكري عن كتابه “على هامش السيرة” وانه من جملة ما قيل عنه انه “تحول بهذا الكتاب من النقد الادبي الى الاساطير” واتذكر العديد مما جعله يحس بالمرارة وهو يرى بعد ان اصبح طاعنا في السن الشروخ والتصدعات في كل ما بناه وما بذل حشاشة نفسه له. فها هو يتحدث بالم عن الجامعة التي اسهم في اقامتها على اساس رصين: “الجامعة كانت في زماننا محرابا للفكر، كانت قدس اقداس الحرية.

عن مجلة الاقلام العدد الاول (كانون الثاني 1988