شوقي ضيف.. آخر النقاد الموسوعيين

Wednesday 19th of January 2022 12:44:50 AM ,
5108 (منارات)
منارات ,

نجم الدين خلف الله

لا يزال شوقي ضيف (1910-2005) علامة فارقة في دَرْس الأدب العربي، ختم بأعماله النقدية جيلَ الباحثين الموسوعيين من أمثال بروكلمان وطه حسين والعقّاد، فكانت كتبه التي تقارب الخمسين تطبيقاً لمنهج النقد التاريخي، يستعيد به أربعةَ عشر قرناً من الآداب والأفكار، بكل ما في الذهن العربي من مذاهب وتعرّجاتٍ، وما في بيئاته الثقافية من أطياف أثرت في فنّ الكلام.

وقد اعتمد منهجه التاريخي تقسيم هذا النتاج المترامي إلى مدارس واتجاهات، نشأت في أقاليم متباعدة، ولكن يجمعها تجانس الثقافة، ثم تعمّق في تحليل المحاور والوسائل الأسلوبية لكلّ ظاهرة أدبية، مُبرزاً ما بين النصوص والتيارات من صلات التحاور النصي.

أجرى ضيف قراءة نسقية لمجموع الأدب العربي، وقام باستعادة شاملة لتاريخ إنتاجه مع التعمّق في تلويناته وتغريباته، حسب آلية التحقيب التي رَصد من خلالها منعطفات هذا التاريخ وقطائعه، وبيَّن أثرها في الكتابة الأدبية موضوعاتٍ وأساليبَ. فما هي أهمُّ سمات رؤية هذا الناقد المصري، وقد امتدَّ نشاطه على أكثر من نصف قرنٍ من البحث الدؤوب؟

« رحل منذ اثنتي عشرة سنة وسط شبه تجاهل رسمي وثقافي»

أولى خصائص النظرة النسقية التي شيَّدها هذا الدارس المنحدر من محافظة دمياط، هي رصدها لمبادئ عامة، تشتغل بمثابة آليات ضمنية، وتحكم صيرورة الأدب وتحوّلاته، بشكلٍ يكاد يكون لاواعياً، فقد دلل في كتابه “الفنّ ومذاهبه في الشعر العربي”، على سبيل المثال، أنَّ جوهر هذا الشعر، منذ بدايات نشأته الأولى، في الجاهلية، إلى غايته اكتماله الصنائعي مع أبي تمام والمتنبي، وتناهيه مع تأملات المعري، ثم تجدّده في العصر الحديث مع شوقي وإبراهيم، ظلَّ محكوماً بالصنعة والتصنيع والتصنُّع، ثلاثة مبادئ خضع لها فن تحبير النصوص وإبداع الصور.

وبفضل معرفة دقيقة بتفاصيل الحِقب الفنية، برهن الباحث على ثبات اشتغال هذه الآليات عبر تحليل نماذج عديدة من القصائد والمقطوعات، تجسّدُ كل واحدة منها هذه المبادئ الما وراء- شعرية، حتى صار كل نصٍّ تجلّياً لهذه السمات أكثر من كونه تلاعباً باللغة واستدعاء للنصوص السابقة والمجاورة. وجلي أنَّ قراءة تاريخ الأدب العربي من خلال مفهوم “الصنعة” تتلاءم مع اعتبار الأدب “فناً عقلياً” يكتسب بالتجربة ويُغذَّى بالمعارف.

وأما الخاصية الثانية لهذه الرؤية النسقية، فهي الربط الوثيق بين السياقات الاجتماعية والثقافية والحضارية من جهة والإنتاج الأدبي من جهة ثانية، فقد اعتبر صاحب “سلسلة الأدب العربي” أنَّ الأدب هو مرآة لما يجري على واجهة التاريخ من الأحداث في علاقة تفاعلية مطردة.

وأبان في تحاليله أنَّ هذه المرآة عاكسةٌ لتحوّلات التاريخ وناقلة، بأمانة المرايا وشفافيتها، ما يطرأ على ساحة الواقع من صراعات السياسة وتغيّرات المجتمع. فتطرّق إلى آثار تفاعل الثقافة العربية الإسلامية مع الحضارات الأخرى، (الفارسية والبيزنطية)، وما أفرزه تفاعلها من تيارات فكرية مثل الشعوبية، ومن تصوّراتٍ مجرّدة بعد نقل الفلسفة الإغريقية إلى العقل العربي، في أروقة بيت الحكمة ببغداد.

وكان من ثمرات هذا الاطلاع النسقي، أن أنجز ضيف موسوعة الأدب العربي، في مجلداتٍ عشرة، استغرقت ثلاثين سنة من عمره، أجراها وفق المنهج التاريخي الذي طوّره إيبوليت تان (1828-1893)، من خلاله تقسيم صيرورة الأدب العربي إلى عصور، تراكبت في أقاليم جغرافية متباعدة، ولا تجمعها سوى وحدة الثقافة، فانبرى يؤرّخ لكافة تعابير الإنتاج الفني، حسب العهود، مُبيِّناً تأثير البيئات الجغرافية والفكرية في اجتراح الصور وتشكيل الثيماتِ، مع تغطية سائر أرجاء العالم العربي، وفي كل مراحله.

“ حاول أن يستعيد بأعماله أربعة عشر قرناً من الأدب العربي»

تميّز هذا المنهج النسقي أخيراً بالتشديد على تفاعل الخطابات الأدبية والنقدية والعلمية في ما بينها (وخاصة النحوية والبلاغية والتفسيرية) وهو ما يمكن اعتباره تطبيقاً استباقياً لمنهج “التناص” في درس ترافد الخطابات وتواصل أصناف الكلام عن الأدب: فتأملات النقّاد أثَّرت في اختيارات الشعراء لصور البيان، وهذه تطابقت مع إملاءات علماء النحو والمنطق، وتحاورت جميعها مع رؤى علماء الدين من متكلمين وفقهاء. ولعل هذا المنحى أن يفسّر توزّع أعمال الناقد المصري بين الأدب والبلاغة والنحو والتفسير.

إذ قد أداه مبدأ الترافد إلى البحث في نشأة النحو ومدارسه من البصرة إلى الكوفة، وتوصل، عبر دراسته الدياكرونية، إلى ملاحظة تجمد التراكيب المتقادمة، فدعا إلى تجديد النحو العربي وتيسير مبانيه حتى يصبح أداة لتحقيق الكفاءة اللغوية-التعبيرية ووسيلة ناجعة للتواصل السليم، وليس مجرد قواعد جافة أوتأملات عقيمة، امتزجت بالمنطق القروسطي ومفرداته الكزة، وتأثرت بنظرية العوامل في إعراب الكلم.

وهكذا، استغلَّ خرِّيج دار المعلمين العليا تحقيق مخطوط ابن مضاء، في الردِّ على النحاة، ونقده لجفاف كلامهم وتعقده حول التعليل الإعرابي، لينادي بإلغاء نظرية العوامل، وعَدِّها من ترف التنظير الذي لا يساعد على تحسين الكفاءة اللغوية ولا على رصد مظان الجمال في النصوص.

وتخلص إلى ضرورة تيسير النحو وتدريسه وإلحاق سجلات الدارجة بالفصحى والعكس، إذ ساعده عمله في مجمع اللغة العربية (من 1976 إلى 1996) على الالتزام بقضايا تطوير العربية المعاصرة وربطها بالقدرات التواصلية في المجتمعات العربية المتحولة.

أُخذ على هذه النظرة النسقية اعتمادها وَهْمَ الاقتران بين انعطافات الأسَرِ الحاكمة في السياسة، وبين انعراجات الكتابة الأدبية، وما يطرأ على التجربة الجمالية من تحوّلات، كأنَّ المساريْن متماهيان، وكأنَّ بسقوط دولةٍ ما، يتهاوى مَنزعٍ في صياغة الأسلوب، وبصعود دولة قاهرة، ينشأ مذهب في الأدب وينتصر، وهو وهمٌ بنيوي أوقع الباحث في افتعال تغيرات أدبية نتجت عن تحوّلات الممالك صعوداً وسقوطاً.

ومن جهة ثانية، أُخذ على منجز ضيف الضخم الربط الآلي بين الأدب والسياق التاريخي المجتمعي واعتبار هذا الأخير المؤثر الأكبر في صيرورة فنون الكلام، التي ينجزها الإنسان تعبيراً عن خواطره، وتناسى أنَّ الأدب ليس سوى مرآة للغة، لا تنعكس في صفحاته غير جولات الكاتب في ثناياها، يحاور نصوصها السابقة، ويجادل ذاكرتها، ويتلاعب بسجلات الكلام، دون أن تقترن تفاعلاته الشكلية بالتاريخ المادي، “ولْتُكسَر هذه المرآة”، كما قال أستاذنا حسين الواد، إن كان الأدب مجرّد انعكاسٍ باهتٍ للتاريخ.

ارتحل شوقي ضيف منذ اثنتي عشرة سنة، وسط تجاهل رسمي وثقافي، عدا جوائز باهتة تأخّر أوان حصادها، مع أنه أفاد أجيال الباحثين طيلة عقود متوالية من الإنتاج الغزير، شمل كامل فروع المعرفة الألسنية والأدبية، خاتماً بذلك دورةَ الموسوعيين ممن جمعوا بين معرفة التراث والتمكّن من المناهج المعاصرة، وإن جرى تجاوزها اليوم. ولا تزال كتبه منغلقة على مئات الفرضيات، تنتظر نفض الغبار عنها استكمالاً لموسوعة الأدب. وبعده، صار درس الأدب قطاعياً، يقتصر على تحليل حقل موضوعي واحدٍ، وهو من التضييق الذي حاربه ضيف، وقاومه من قبله أستاذاه: بروكلمان وطه حسين.

عن جريدة العرب