لقاء مع الأب ألبير أبونا .. حياة علمية متواصلة

Thursday 20th of January 2022 12:50:20 AM ,
5109 (عراقيون)
عراقيون ,

حـوار: نشـوان جـورج

ليس لي ان اكتب معرفا بباحث ومؤرخ ولغوي كبير كالأب البير ابونا فهو غنيٌ عن التعريف ازوره بين الحين والآخر في محل اقامته بدار المطرانية بأربيل ويستقبلنا برحابة صدره وببشاشته المعهودة التي تعودنا عليها مذ كنا طلبة نتعلم منه اصول اللغة السريانية او الارامية كما يسميها بالاضافة الى تاريخ الكنيسة التي تعلمنا جذورها من الاجزاء الثلاثة لكتابه تاريخ الكنيسة و ادب اللغة الارامية وسير القديسين بالاضافة الى الروحانية التي استقيناها من ترجماته للكتب الروحية المترجمة من الفرنسية.

ابتداءا ما الذي تريد ان تقوله للقراء عن نفسك ؟

اسمي الرسمي هو: يوسف ميناس يلدا ابونا، اما الاسم الكنسي فهو: الاب البير ابونا ابصرتُ النور في بلدة فيشخابور سنة 1928. وتقع على الضفة اليُسرى من نهر دجلة وكنيستها مبنية على صخرة كبيرة مطلة على النهر، ومنظرها فريد. وتحت الكنيسة مغارة جميلة تجري فيها عيون ماء عديدة وقد نُظمت في الفترة الأخيرة على غرار مغارة لورد في فرنسا، ووضع فيها تمثال للعذراء مريم واخذت تستقطب العديد من الزوار.

تحت ظل هذه الكنيسة ولدت – وكان بيتنا ازاء باب الكنيسة تماماً – وتربيت. وتلقيت مبادئ القراءة والكتابة في مدرسة القرية الحكومية الوحيدة في المنطقة وكانت بادارة معلم واحد وتستمر الدروس فيها حتى الصف الرابع الابتدائي وبالاضافة الى المواد المقررة رسمياً، كانوا يدرسوننا التعليم المسيحي ويعلموننا ايضاً مبادئ القراءة والكتابة الكلدانية لكي نتمكن من المشاركة في الصلوات والقداديس في الكنيسة.

وبعد ان انهيت الصف الرابع بنجاح،أصر والدي – رحمه الله – رغم كونه من الطبقة الفقيرة، على اكمال دراستي فسجلني في الصف الخامس في مدرسة في زاخو واسكنني لدى احدى قريباته، وصرتُ اتردد كل يوم – عدا الجمعة – الى المدرسة، وانا في العاشرة من سني. كانت السنة قاسية جداً لي انا الصغير الغريب الذي لم تتوفر لي دائماً الظروف اللازمة للدراسة... مهما يكن من أمر، فاني امضيت السنة الدراسية في زاخو. وبعد الامتحانات عدتُ الى القرية...

منذ صغرك احببت ان تكون كاهناً.. ما الذي دفعك الى ذلك؟

كنت منذ صغري اتردد الى الكنيسة صباحاً ومساءً، وتعلمت المزامير والصلوات الفرضية وخدمة القداس الكلداني، وحتى قراءَة الرسالة وترجمتها المباشرة الى السورث، وكنت اقوم ببعض الاشغال البسيطة لكاهن الرعية، المرحوم الخوري حنا خوشابا. وكان خالي هو الشماس المسؤول عن شؤون الكنيسة كلها... وكان الجو العائلي عندنا جواً يتسم بالروح المسيحية وبالهدوء والسلام... هذه الامور كلها ايقظت في قلبي رغبة عميقة في التخصص بالشؤون الدينية، ولو اني لم اكن بعد افهم معنى الكهنوت ومقتضياته... امضيت سنة في البيت وانا اجترُّ تلك الافكار واعيشها مسبقاً في واقع حياتي البسيطة. وكنت القي كل التشَّجيع من كاهن الرعية ومن خالي ومن والدتي. اما والدي فكان يرفض الفكرة رفضاً قاطعاً، لاسيما لكوني الابن الوحيد في العائلة.

بالنظر الى رغبتي الصادقة في الحياة الكهنوتية، ولو لم افهم آنذاك ابعادها كلها، تقرر ارسالي، بالاتفاق مع مطران اربرشية – المثلث الرحمة المطران يوحنان نيسان – فوصلت انا وزميل لي الى الموصل لأول مرة. وبعد صعوبات عديدة، وصلنا الى معهد مار يوحنا الحبيب الكهنوتي حيث استقبلنا الرئيس استقبالا ابوياً حاراً، وباشرنا الدروس في اليوم نفسه، وكنا في مطلع تشرين الاول سنة 1941، سرعان ما تكيَّفت مع جو المعهد واستهوتني دروسه والجدّية التي لا حظتها لدى المسؤولين والاساتذة...وامضيت خمس سنوات: دراسة اللغات والعلوم ( العربية والكلدانية والفرنسية واللاتينية...) ثم ست سنوات: دراسة العلوم الكنسية (سنتان فلسفة واربع سنوات علم اللاهوت والقانون والتاريخ الكنسي... وفي 17 حزيران 1951 رسمتُ كاهنا في الموصل، مع ثلاثة من زملائي.

بعد رسامتك انطلقت لتقدم خدماتك ككاهن؟

نعم لم يمض اسبوع على رسامتنا الكهنوتية، حتى عادَ كل منا الى ابرشيته. وعدتُ انا وواحد من زملائي الى زاخو حيث استقبلنا بحفاوة كبيرة. ومن هنا عدتُ الى فيشخابور حيث امضيت عطلة دامت نحو شهر. ثم استدعاني المطران الى زاخو وكلفني بالقيام – مع كاهن آخر اكبر سنا مني – في جولة رسولية الى معظم قرى الابرشية. انها خبرة رسولية اولى وباكورة رسالتي الكهنوتية. فكنا في سنة 1951، وهي سنة مقدسة للعالم. فكان علينا ان نزور كل قرية وان نمكث فيه الوقت اللازم ليعترف المؤمنون ويتناولوا وان يزوروا الكنيسة اربع مرات مع صلوات معينة في سبيل نيل الغفران الكامل.

بدأنا بزيارة منطقة شيوز ومار ياقو، ثم تحوَّلنا الى منطقة الجبل، فزرنا قرية بيرسفي وجميع القرى المسيحية في الجبل ودامت جولتنا فيها اكثر من 45 يوماً. وبعد راحة ايام قليلة في زاخو، ذهبنا الى منطقة مركا، فزرنا فيها خمس قرى. وكنا الآن على ابواب الميلاد. وما إن امضيتُ اياماً قليلة في فيشخابور حتى اوعز اليَّ المطران بتعيني كاهناً مسؤولاً في قرية آفزروك وما يتبعها من القرى. فكان مقري في آفزروك، ويترتب عليَّ ان ازور القرى: صورية، بخلوجة، شكفتدلي. آفزروك ميري ومناطق اخرى تبعد 4 او 5 ساعات عن المركز! يالها من رسالة صعبة: ليس في المنطقة كلها طريق واحد معبَّد. اما وسائل النقل فنادراً ما تتوفر لنا سيارة «جيب» بل غالباً تستخدم الدواب فاضطررت ان اذهب بنفسي الى الموصل واشتري لي من هناك فرساً لخدمة الرسالة! وعلى حسابي الخاص! علماً ان مورد المعيشة الوحيد كان القداس اليومي بحسنة (250) فلساً! من له اذنان ليسمع فليسمع!

استمرت خدمتي هذه اربع سنوات طويلة فيها عانيت الكثير من العزلة والاهمال. وذات يوم، وعلى حين غرة، جاءَني صوت الرب يناديني الى رسالة اخرى: ان اعودَ الى معهدي الكهنوتي لاكون فيه معلماً ومرشداً. فهل يسعني أن ارفض؟ كلا! فتركت الخدمة في القرى وذهبتُ الى الموصل وامضيتُ هناك 18 سنة في التدريس والخدمة. ثم انتقلت الى بغداد سنة 1973 ومكثت فيهاالى ان بلغت سن التقاعد وكانت الامراض والآلام والعمليات على موعد معي.

كيف تنظر الى واقع الحياة الكهنوتية اليوم في كنيسة العراق؟

ان الظروف التي مرت بالعراق في العقود الأخيرة أثرت تأثيراً سلبياً في حياة الناس جميعاً ومن ضمنهم المسيحيين، وذلك ليس على الصعيد السياسي او الاقتصادي فحسب، بل على جميع الصُعُد، ومنها الصعيد الروحي. فحالة الفوضى والتشرذم التي عاشها الشعب العراقي وما يزال لم تساعده لينعم بالهدوء والاستقرار ويعكف بحرية على تطوير طاقاته المادية والفكرية وحتى الروحية، فالشعب المسيحي، شأن الشعب العراقي في معظم شرائحه، يعاني من حالة انعدام الأمن والسلام ومن حالة عدم الاستقرار.

ان جماعاتنا المسيحية الباقية في البلاد تفتقر الى المزيد من الرعاية والاهتمام لأنها تشعر بكونها مستضعفة ومستهدفة من مختلف الجهات. انها تحتاج الى عقول تفهمها وتتفهم ظروفها واحتياجاتها وتدرس اوضاعها على ضوء انجيل الراعي الصالح دون الاكتفاء بترداد المبادئ والنظريات والمثل العيا والكلمات الجوفاء التي تكتفي بذر الرماد في العيون وبالضحك على الذقون... لدينا معهد كهنوتي في عنكاوا يحاول فيه بعض المسؤولين ان يهتموا بفرقة من الشباب الذين شعروا ان الرب يناديهم الى تكريس حياتهم وامكاناتهم في خدمة الشعب المسيحي. لبوا النداء وانضموا الى اخوانهم الذين سبقوهم الى المعهد. وكنيسة العراق المحتاجة الى الكهنة تنظر الى هؤلاء الشباب وتنتظر منهم ان يكونوا على مستوى الرسالة العظيمة التي يطلب منهم الرب القيام بها. فهل يتلقى هؤلاء الشباب التنشئة المتجاوبة مع مقتضيات دعوتهم السامية؟ وهل هم يتجاوبون كلياً مع متطلبات دعوتهم من كل قلبهم على خطى الرب يسوع بروح المحبة والتضحية والتجرد؟

امام كاهن اليوم آفاق جديدة وواسعة فلا ينبغي ان يكون مجرد موظف يكتفي باقامة القداس ومنح الاسرار وبعض الخدمات الأخرى الضرورية. هذا لا يكفي. احتياجات المؤمنين في تزايد مستمر، وعلى كاهن اليوم ان يكتشفها، ويفهمها، ويحاول معالجتها، وليس هناك عذر يعفيه من الخدمة والبذل، الا العجز! كاهن اليوم هو الخبز الذي يحتاج المؤمنون اليه. على ان يكون خبزاً نظيفاً وطيباً ولذيذ يستطيبه الجميع، الخبز الذي يغذي ويقوي في مسيرة الخلاص. شعبنا اليوم يحتاج الى كهنة منفتحين على جميع مشاكل الحياة ويحاولون حل معضلات الناس بغيرة وتجرد وشجاعة. اين نجد مثل هؤلاء الكهنة؟

كيف كانت خطواتك الاولى في رحلة البحث والتدوين؟

رغم ميلي الشديد الى القراءَة والمطالعة، لم اهتم بالكتابة منذ بدء حياتي الكهنوتية، ومنذ سنة 1960 نمت فيَّ رغبة ملحة في الكتابة. فشرعت اترجم بعض الكتب الصغيرة من الفرنسية الى العربية. اتذكر ان اول كتيب ترجمته كان عنوانه «نشأة الكنيسة». ولم افلح في محاولتي الاولى، بل اعدت الترجمة اكثر من مرة الى ان نالت رضى المصححين. وازدادت رغبتي في الكتابة وتوالت الترجمات على مدى الاعوام، ثم جاءَت التآليف حينما رأيت ان منهاج المعهد الكهنوتي يفتقر الى مادة تاريخ الكنيسة. فعكفت على المطالعة الكثيرة وعلى الكتابة. فظهرت الكتب الثلاثة في تاريخ كنيسة المشرق، ثم جاءت الموسوعة التي اسميتها «ادب اللغة الارامية» وقد امضيت سنوات عديدة في جمعها وكتابتها، وقد طبع الكتاب مرتين في بيروت، وجاءَت كتب اخرى موضوعة او مترجمة – ومعظم الترجمات من الفرنسية الى العربية – ومازلت عاكفاً على هذا العمل. وقد قاربت كتبي على المئة. وانصب اهتمامي بنوع خاص على المواضيع التاريخية العامة والكنسية وعلى المواضيع الدينية والروحية التي من شأنها ان تساعد المؤمنين وتوفر لهم المزيد من المراجع لمطالعاتهم الدينية.

وماذا عن اللغة السريانية؟

ـــ منذ السنوات الاولى من حياتي، كنت مغرماً باللغة الآرامية التي كنا نسميها الكلدانية. فتعلمتها قراءَة وكتابة وترجمة قبل بلوغي العاشرة من سني فكنت احضر واشترك في الفروض الكنسية وفي الاحتفالات الدينية. وحينما دخلت المعهد الكهنوتي في الموصل، درست هذه اللغة دراسة علمية ومنهجية وشرعت اتقصى اصولها ونشأتها،وحتى كلّفت بالقاء بعض الدروس فيها للصغار وانا ما ازال طالباً. وبعد عودتي الى المعهد كمدرس سنة 1955، شرعت انظم مناهج التدريس لهذه اللغة وقواعدها، فكنت اعلمها لجميع الصفوف تقريباً وادرب الطلاب على قراءَتها الصحيحة وترجمتها الى العربية وحتى الكتابة بها. وكان كتاب «المروج النزهية» بحرفية منهاجنا الاساسي، وقد جمعه الاب اوجين منا في مطلع القرن العشرين، كما انه وضع القاموس الكلداني العربي واسماه «دليل الراغبين وهو قاموس نفيس جداً... اما عن اللغة الآرامية ونشأتها وانتشارها، فقد كتبت الشيء الكثير في مقدمة كتابي «ادب اللغة الآرامية» فأحيل القراء اليها.

كيف تنظر الى واقع المسيحيين في عراق اليوم؟

ـــ لقد قيل الكثير عن المسيحيين في العراق وعن اصالتهم. وقد انحى العديد من رؤساء الدين باللائمة على المسيحيين لأنهم يتركون العراق ويهاجرون الى بلدان أخرى. ولكن هل انتم قادرون ان تضمنوا لهم الحماية الكافية؟ لا اظن. اذاً دعوا لهم الحرية في اختيار الموضع الذي يريدون العيش فيه، وغضوّا النظر عن مصالحكم الخاصة، وهل يهرب الانسان من الخير والأمان والسلام والحرية...؟

كيف تنظر الى اوضاع المسيحيين في اقليم كردستان؟

ان اقليم كوردستان ينعم بالاستقرار والامان والرخاء. وفيه تُحترم كرامة الانسان وحريته وتتوفر الاجواء المطلوبة لمختلف الاعمال. ومنذ اقامتي هاهنا لم اشعر بأي تعسّف او ظلم صارخ وقع على أحد ولا سيما على المسيحيين الذين يتعاونون تعاوناً سليماً مع السلطات لخير البلاد وهم دوما عنصر خير حينما وُجدوا. ولهذا يلقون التقدير والاحترام من جميع المسؤولين عن ادارة الاقليم وتنظيمه وامنه. فليس لي سوى ان اشكر المسؤولين الكرام على سهرهم المتواصل على استتباب السلام في جميع ربوع الاقليم، وليت هذا السلام يعم اقاليم البلاد كلها، بعون الله!

كلمة اخيرة تود ان تقولها؟

اننا حيثما كنا، واياً كانت قوميتنا او هويتنا، والى أَي دين أنتنمينا، نحن ابناء وطن واحد وجميعنا فيه اخوة متعاونون ومتضامنون في سبيل بناء هذا الوطن، وعلى كل منا ان يعمل كل ما في وسعه لتوفير السلام والسعادة للجميع بكل الوسائل المتاحة له. وعلى كل منا ان يسهم جدياً في تطوير هذه البلاد وازدهارها على جميع الصُعُد.

جريدة سورايا 2013