سيدني بواتييه رحل سعيداً بما أنجزه وتركه من إرث

Wednesday 26th of January 2022 12:02:15 AM ,
5113 (منارات)
منارات ,

محمد رضا

تردد المخرج نورمان جويسون حيال تصوير المشهد الذي يقوم فيه سيدني بواتييه بصفع الممثل لاري غيتس ولسبب مهم: بواتييه (الذي رحل عنا قبل ايام) هو ممثل أسود يؤدي شخصية تحري أسود، ولاري غيتس ممثل أبيض يؤدي شخصية صاحب مزرعة أبيض و… ‬في الستينات.

لكن هذا المشهد بحد ذاته بقي المشهد الأكثر حضوراً بين مشاهد فيلم «في حرارة الليل» لأنها المرّة الأولى التي يُشاهد فيها جمهور السينما (من كل الألوان) مشهد صفع رجل أفرو - أميركي لرجل أبيض. لذلك تردد المخرج الراحل جويسون كان في محلّه، خصوصاً أن أهالي بلدة دايرسبيرغ، في ولاية تنيمسي، الجنوبية، أبدوا انزعاجهم من فيلم يتولّى تقديم وتأييد وتفضيل بطل أسود سيكشف عن أحداث عنصرية تواجهه رغم أنه من رجال البوليس حسب موضوع هذا الفيلم الذي تم تصويره سنة 1966.

«في حرارة الليل» هو أحد أفلام الممثل سيدني بواتييه البارزة الذي رحل عن 94 سنة في اليوم التالي لرحيل المخرج بيتر بوغدانوفيتش عن 82 سنة. لم يعملا معاً، لكن لكل تأثيره الكبير على مراحل فن الفيلم الأميركي ومضامينه.

وُلد بواتييه في العشرين من فبراير (شباط) سنة 1927 في مدينة ميامي الأميركية خلال زيارة والديه إليها قادمين من إحدى جزر باهاما. كانت ولادته مبكرة (شهران قبل الوضع) ولم يتوقع له أن يعيش لكنه فعل. عاد طفلاً مع والديه لكنه ترك الباهاما عائداً إلى ميامي في سن الخامسة عشر، حيث عاش لسنة مع شقيق له ثم توجه إلى نيويورك باحثاً عن عمل. في منتصف الأربعينات التحق بواتييه بفرقة تمثيل مسرحي قوامها من الأفرو - أميركيين. واجه معضلة أن لكنته ما زالت غير أميركية فاشتغل على نفسه من ناحيتين: تطوير قدراته الدرامية وتحسين لهجته لكي تلتحم مع السائد.

في سنة 1950 وبعد تجارب مسرحية لافتة لكن محدودة، وجد بواتييه فرصته الذهبية عندما اختير ليؤدي دور الطبيب في فيلم No Way Out للمخرج جوزيف مانكيوفيتز. ذلك الفيلم الأول لبواتييه تداول موضوع العنصرية الذي سيصاحب عدداً كبيراً من أعماله لعقدين تاليين. هنا نراه في دور طبيب يتمتع بثقة مسؤوله (ستيفن مكنيللي) لكن أحد مرضاه (هاري بيلافر) يموت. شقيق الميّت، المريض بدوره (رتشارد ودمارك) يلومه من منطلق عنصري ويرفض أن يعالجه طبيب أسود.

‫في فيلمه التالي «ابكِ يا وطني الحبيب» (Cry، the Beloved Country) للمجري سلطان كوردا (تم تصويره في جنوب أفريقيا) لعب شخصية أفريقي يعايش الوضع الصعب، ثم شاهدناه في Go Man Go لجيمس وونغ هاو (1954) الذي دار حول نشأة حي هارلم في نيويورك. بعده في دور صغير «غابة اللوح الأسود» (Blackboard Jungle) لرتشارد بركس (1955) حول أستاذ مدرسة (غلن فورد) يواجه عداوة بعض تلامذته بسبب لون بشرته. ‬بواتييه لعب هنا دوراً مسانداً، لكنه الوحيد الذي قفز لاحقاً إلى أدوار البطولة باستثناء غلن فورد الذي كان أسس نجوميّته قبل ذلك بسنوات عدة.‬‬

‫هذه الأفلام تعرّضت ولم تطرح الوضع العنصري جيداً. ليس على النحو الوارد لاحقاً في «حافة المدينة» (Edge of the City لمارتن رِت»، 1955) حيث يواجه العامل تومي (بواتييه) عنصرية أحد مسؤولي المصنع (جاك ووردن) ولا يجد من يدافع عنه سوى اليهودي أكسل نوردمان (جون كازافيتيز). طبعاً المحور لم يعد هنا كناية عن عنصرية ضد شخص أسود، بل دفاع اليهودي عنه. على ذلك، هناك محاولة نوردمان التملص من دفاعه خشية خسارته عمله أو حياته، هذا قبل أن يحاول إصلاح وضعه حيال القضية الماثلة.‬‬‬

عاد رتشارد بروكس إلى بواتييه ليضعه في مواجهة روك هدسون في دراما تدور أحداثها في كينيا في فيلم بعنوان Something of Value («شيء ذو قيمة»، 1957). مثل «ابك، يا وطني الحبيب» ينقل الفيلم شحنة الصراع على محيط واسع وغير فردي يقع في أفريقيا. هذا على عكس «المتحديان» (The Defiant Ones) لستانلي كرامر (1958) الذي نجد فيه السجين بواتييه مقيّدا إلى سجين آخر (توني كيرتس) بعدما هربا من السجن وأخذا يبحثان عن مأوى مشترك.

بعد هذا الفيلم توالت أعمال أخرى لبواتييه سعت لتوسيع رقعة قبوله بين المشاهدين الذين أخذوا يقدّرون موهبته في أداء الأدوار الدرامية. هذه الأفلام دارت بعيداً عن الموضوع العنصري وإن حاذى بعضها الوضع العام في الجنوب الأميركي مثل «باريس بلوز» لمارتن رت (1961) و«براعم في الحقل» لرالف نلسون (1968). بعضها الآخر وضع بواتييه في مدارات بعيدة جداً عن الواقع ومنها «السفن الطويلة» (The Long Ships) لجاك كارديف حيث شوهد في دور أفريقي يحارب لجانب الفايكينغز. هو أيضاً في فيلم تاريخي آخر حققه جون ستيفنس بعنوان «أعظم قصّة رُويت» (Ther Greatest Story Ever Told) سنة 1965.

تعززت نجومية بواتييه في النصف الثاني من الستينات بأفلام مثل التشويقي «الخيط النحيف» لسيدني بولاك (1965) والوسترن «مبارزة في ديابلو» لرالف نلسون (1966) ثم في الفيلم «للأستاذ مع الحب» (To Sir، With Love) لجيمس كلافل.

كل هذا سبق «في حرارة الليل» المأخوذ عن رواية بوليسية لجون بول وتدور حول التحري الأسود تيبس (سيدني بواتييه) القادم من المدينة، التي منحته القيمة الإنسانية والمكانة الاجتماعية، إلى بلدة صغيرة في الجنوب الأميركي لزيارة والدته. قبل مغادرته البلدة يتم إيقافه بعد اكتشاف جريمة قتل. رئيس الشرطة غيلسبي (رود ستايغر) لم يكن يعلم أن الموقوف هو تحري في سلك البوليس مثله وعليه يفرج عنه. لا يسجل الفيلم أي ود بينهما، لكن شرطة المدينة تقترح على رئيس البوليس الاستعانة بمستر تيبس لكشف الجريمة فيذعن هذا على بعض الامتعاض.

يبدأ مشهد الصفعة بسيارة الشرطة قادمة من بعيد. كاميرا عليا تكشف عن مزارع قطن يقطف محاصيلها عمال سود. تلتقط الكاميرا السائق، رئيس البوليس المحلي غيلسبي يعلك ويقود السيارة وإلى جانبه التحري ڤَرجل تيبس (بواتييه) ينظر من نافذته إلى المزارعين السود. في الخلفية يصدح الساكسفون المميّـز لأغنية تحمل عنوان الفيلم لنسمع بعد قليل جزءاً منها بصوت راي تشارلز وهي الأغنية التي اشتهرت بسبب الفيلم.

عند الوصول يواجه بواتييه صاحب المزرعة إنديكوت (غايتس) بقضية مقتل رجل أبيض فيعتبر إنديكوت أن التحري تجاوز حدوده خصوصاً وأنه أسود. يصفع تيبس على وجهه، فيبادره تيبس بصفعة أقوى. يضع إنديكوت يده على وجهه مبهوتاً. هذا لم يحدث له في حياته. لم يجرؤ رجل أسود البشرة على صفعه أو حتى الحديث إليه بنبرة مساوية من قبل. يسأل الشريف غيلسبي ماذا سيفعل حيال ذلك. لكن غيليبسي لا يدري. وظيفة تيبس أعلى من وظيفته. إنديكوت يقول: «كان هناك وقت كنت أستطيع فيه إعدامك لقاء ما فعلته».

لا يتخلى الفيلم بعد ذلك عن رصده لمعالم عنصرية أخرى. الحكاية البوليسية هي الرداء والمضمون يخرج من تحته. ليس أنه فيلم رسالة فقط، بل هو جيد الصنعة أيضاً وخرج حينها بخمسة أوسكارات من سبعة ترشيحات. إذ نال أوسكار أفضل ممثل (رود ستايغر) وأوسكار أفضل فيلم وأوسكار أفضل مونتاج (هال أشبي) وأوسكار أفضل سيناريو مقتبس (سترلينغ سليفانت) وأوسكار أفضل صوت. خسر الفيلم أوسكارين واحد كأفضل مؤثرات والآخر كأفضل إخراج (نالها مايك نيكولز عن «المتخرّج» The Graduate.

بذلك غاب اسم بواتييه كاملاً عن الترشيحات. وهو كان من المرشّحين عن دوره في فيلم «المتحديان» سنة 1959 ثم نال الأوسكار سنة 1964 عن دوره في «براعم في الحقل»، لكن فوزه بذلك الأوسكار ليس تبريراً لعدم ترشيحه مجدداً.

حين نال أوسكاره عن «براعم في الحقل» كان أول ممثل أفرو - أميركي ينال الأوسكار في تاريخ الجائزة وهو فعل ذلك رغم وجود ممثلين أقوياء (ثلاثة منهم بريطانيون) في المنافسة هم ركس هاريسون عن «كليوباترا» وألبرت فيني عن «توم جونز» ورتشارد هاريس عن «هذه الحياة الرياضية». الخامس كان بول نيومان عن «هَد».

نجاح «في حرارة الليل» كان دامغاً وشخصية التحري تيبس عادت وعاد معها بواتييه في فيلمين لاحقين هما «ينادونني مستر تيبس» They Call Me Mister Tibbs‪!‬ [غوردون دوغلاس، 1970] و«المنظّـمة» The Organization [دون مدفورد، 1971]. لكن «في حراة الليل» هو الوحيد بين هذه الأفلام الذي تعامل مع العنصرية على نحو بيّـن ومُدين. ‬‬

في سنة 1967 الذي تم فيها إطلاق «في حرارة الليل» كانت لبواتييه وقفة أخرى في موضوع عنصري المفاد.

هذا حدث عندما قام بواتييه ببطولة «احزر من القادم للعشاء» (Guess Who‪’‬s Coming to Dinner) الذي أدّى فيه دور مثقف أسود تدعوه صديقته البيضاء جووي (كاثرين هاوتون) لزيارة والديها تمهيداً لإعلان خطوبتهما. والداها ثريان من زمن كان يؤمن بالتفرقة بين البيض والسود (هما كاثرين هيبورن وسبنسر ترايسي) وحضوره يفاجئهما. لا يعترضان لكنهما يتساءلان وما يلبث بواتييه أن ينال ثقتهما وإن كان الفيلم ينتهي من دون معرفة ما إذا كانا سيوافقان على زواج صعب.‬‬

كعادته، أمسك سيدني كرامر بالعصا من منتصفها. لم يكن بجرأة نورمان جويسون بل توقف عند حدود صياغة الاحتمال بأن العلاقة العاطفية بين أسود وبيضاء (أو العكس) ممكنة تاركاً الخيط فالتاً في النهاية.

بعد ذلك لم يكن على بواتييه أن يبقى في إطار الأعمال التي تتضمن أبعاداً اجتماعية من هذا النوع. أفلامه خلال السبعينات ابتعدت عن الموضوع العنصري بالكامل في الوسترن «بك والمبشر»، الذي تصدّى له مخرجاً بواتييه ذاته، وفي الدراما «ديسمبر الدافئ» (ثاني أفلامه مخرجاً، 1974) والفيلم التشويقي «مؤامرة ويلبي» (رالف نلسون، 1975) و«أطلق لتقتل»Shoot to Kill (روجر سبوتسوود، 1988).

في عام 1997، وبعد انقطاع دام خمس سنوات شارك في دور رئيسي في فيلم «الضبع» (The Jackal) لمايكل كاتون جونز ولجانب رتشارد غير، وكان ذلك آخر وقوف له أمام كاميرا الشاشات الكبيرة.

في سنة 2002 نال بواتييه أوسكاراً آخر، لكن هذه المرّة جاء الأوسكار شرفياً ضمن مباركة الوسط السينمائي له.

لم يكن سيدني بواتييه، بالطبع، أول ممثل أسود البشرة يقف أمام الكاميرا. سبقه كثيرون جداً من أيام السينما الصامتة. لكنه كان الأول الذي فتح الباب واسعاً أمام رفاق الأمس من أترابه. فبسبب هذا النجاح، أدركت هوليوود أن إحلال ممثلين سود آخرين (مثل جيم براون ورتشارد راوندتري وأوسي ديفيز ويافت كوتو وجيمس إيرل جونز وبام غرير وسيسيلي تايسن ولويس غوزيت وسواهم) في بطولة أفلامها يمكن أن يأتي بربح وفير وهذا ما حدث بالفعل إذ تنافست ستوديوهاتها خلال أواخر الستينات وطوال السبعينات على استثمار هذه السوق بسلسلة أفلام رأينا فيها الرجل الأسود يقارع وينتصر على الرجل الأبيض. لكن معظمها كان رخيص الصنع وتجاري الهدف ومستنسخاً عن سواه.

عن الشرق الاوسط